مرة أخرى يثبت لنا الأديب السوداني الكبير ” الطيب صالح”، أن القدرة على تصوير تفاصيل الملامح الإنسانية شديدة المحلية، هي المعبر الأكيد لأفق العالمية الخالدة.
وللمرة الثانية نجد تجسيد الأفكار المغرقة في محليتها، مخلوطة بتلك النكهة الوجودية عميقة الجذور.
تلك التي ترصد لنا شخصية ملحمية، تقترب من شخوص الأساطير الإغريقية القديمة. فيترك القارئ أمام تساؤلات محيرة، بعد الإستغراق في القراءة والأحداث. أتراها شخصية حقيقية مثل كل من حولها، وما هذه التركيبة العجيبة التي تتأرجح في عبقريتها بين البلاهة والحكمة العميقة.
تركيبة محيرة مثيرة للتساؤل، تمسك بتلابيب عقل القارئ فلا تفلتها، لتظل تتساءل عن سلوكياتها الغريبة، وقوتها البدنية الجبارة، وتلك التصرفات التي قد تسم صاحبها بالهزل مرة، وبالهول مرة أخرى.
ومن خلال ذلك كله، نسيج مجتمعي بالغ الثراء في شخوصه وقيمه وأفكاره. ورغم صعوبة بعض التعبيرات والمفردات شديدة الخصوصية بالمجتمع المحلي، فإن القارئ لا يمل من متابعة خيوط الأحداث وتطورها.
بل يسعى للإستزادة من تفاصيل عادات البشر في هذه المنطقة وتاريخهم وسلوكياتهم. فيصور لك ملبسهم ومأكلهم، وعلاقتهم ببعضهم البعض، وأصولهم وأحوالهم فيما انتهوا إليه من تنظيم مجتمعهم المحلي الصغير، والمجتمعات الهامشية الأخرى التي تهيم من حوله كطفيليات.
يطرح لك الطيب صالح، من خلال سلوكيات وتصرفات مجموعة من الأشخاص، تساؤلات فلسفية عميقة حول كنه الإيمان وفحوى العقيدة.
مجموعة من الأصدقاء لهم طقوسهم التي يمارسونها كل مساء لدى سماعهم لآذان العشاء. لا يذهبون للمسجد لأداء الصلاة، بل يجتمعون عند أحدهم ليتناولوا الطعام معا، ثم يتأملون المساء والسكون والنجوم والعوالم والمخلوقات.
وأنت لا تدري، أهو تأمل أم تسبيح أم ذكر ؟
يأخذنا ذلك إلى تدبر مغزى العقيدة والممارسات المرتبطة بها في مجتمعاتنا العربية. وكيف يحكم الناس بعضهم على بعض، ويصنفون الآخرين إذا لم يحذو حذوهم في الممارسات.
الرواية فيها لوحة فنية متكاملة تكاد تشاهدها رأي العين لبيوت البلدة وأنواع المساكن، ولباس النساء والرجال، وعاداتهم اليومية وأماكن تجمعهم. حتى مشاعرهم الإنسانية العادية تجاه بعضهم البعض؛ بشر عاديون مثل أي بشر في كل مكان، يلبسون ويأكلون ويشربون ويتصارعون، يغضبون ويفرحون، يطمعون ويطمحون.
وبطل القصة وشخصيتها الأساسية في عالمه الخاص، يذهب لأماكن لا يذهب إليها غيره، ويختلط بأقوام لا يخالطهم باقي مواطنيه. وتراه يتولى الشخصيات الضعيفة المحتاجة بكل رعاية وحنان، فيعود هذا، ويبني بيتا لذلك، ويأتي بالطعام لأحدهم في جيب سيالته.
ثم تجده فجأة شخصية جبارة تشبه موسى أو هرقل، يكاد يفتك بشخص تسبب في إيذائه. وتجده في حين آخر شخصية شديدة الرقة والوفاء، حين يبكي عند قبر إمامه (الحنين) يوم عرسه الذي من المفترض أن يفرح فيه بزواج زينة بنات المدينة.
ولا بد أن تتوقف عزيزي القارئ طويلا لنتأمل إصرارنا على أن نجد دائما بين ظهرانينا نموذج “الشيخ الصالح” أو أحد “أولياء الله” كما نطلق عليهم في بلادنا العربية. ولا بد أن تكون له كرامات. ولست أدري لما يسبغون هذه الصفة في كثير من الأحيان على الأشخاص الغير تقليديين، المصابين بأنواع من التوحد أو الإضطراب النفسي، الذي يجعله يأتي بتصرفات غير إعتيادية، فيقولون هو مبروك.
يطرح الطيب صالح من خلال روايته تساؤلات عدة، لا إجابة لها ولا تعليق عليها، لكنها محفزة للتفكر.
ومن المؤكد أن هذه الرواية لم تكتب بغرض السرد أو مجرد الحكي، إنها تتعدى ذلك بكثير في صياغتها وشخصيتها ورسائلها. رواية تدفعك بعد الإستمتاع بالمطالعة إلى كثير من التأمل في المعاني والصور والممارسات والقيم، وما نعتقده وما يرسخ في أذهاننا.
كدأب الأديب الكبير “الطيب صالح” كثير من العمق تحت غلالة السرد البسيط.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.