في وداع الأستاذ محمد وقيدي/ الجيل الفريد: من ضيق الأيديولوجيا إلى سعة الإبستمولوجيا (9)
د. محمد هُمام/ أستاذ بجامعة ابن زهر/ أكادير//
ظلت إذن منظومة العلم الحديث في أوروبا النهضة تعرف جدلا عميقا بين الميتافيزيقا والعلوم الجديدة، أو قل التصور الجديد لعلم قديم مثل الرياضيات. وتعمق هذا الجدل في مجال علم الطبيعة؛ هذا العلم الذي رآه علماء كثر، مثل: ديكارت (1596-1659)، وغاليلو، و ليوناردو دافنشي (1452-1519)، رأوه لابد أن يكون علما رياضيا، إلى درجة أن اعتبروا أن (النظرية العلمية) المعتبرة هي تلك التي تلبس لبوسا(برهانيا رياضيا). وهذا ما ألح عليه غاليلو في كتابه: “حوار حول النظامين الرئيسين للكون”؛ فقد سعى إلى تأسيس الفيزياء على الرياضيات، وهذا جريا على عادة الفيثاغوريين الذين أعجبوا بالعقل الإنساني واعتبروه قبسا من النور الإلهي. وذهب ديكارت إلى الرأي نفسه في كتابه: “مبادئ الفلسفة”، وهو الذي أعجب أيما إعجاب بالرياضيات. وهذا عكس ما ذهب إليه برينو(1548-1600) الذي أقام فصلا بين الرياضيات والفيزياء، بل اعتبر الرياضيات مجرد بناء خيالي مقطوع عن الواقع.
- لقد بدأ يترسخ، إذن، في مناهج البحث، أن طريق المعرفة يبدأ بالملاحظة وينتهي بالقانون بعد معرفة الأسباب الأولى وبعد الوقوف على العلاقات بين الظواهر. وكان هذا المنهج الجديد يواجه في طريقه، بنظر الأستاذ يفوت، منهجا آخر، كما رأيناه مع كابلر وبرينو(1548-1600)، يتصور الكون بناء على حدوس صوفية ميتافيزيقية لتفسير الظواهر الطبيعية. وساعد هذا الجدل في هذه الظروف على بداية توسيع الهوة، في البحث وفي فلسفة البحث، بين (تصور كوسمولوجي صوفي) وبين (تصور علمي(وضعي). وهذا الجدل/ الصراع سيتجدد في البحث الإبستمولوجي، سواء على مستوى الحركة العلمية، أو على مستوى البحث الإبستمولوجي. وهو نقاش برز في مؤلفات الأستاذ وقيدي الإبستمولوجية، كما تردد في جل الكتب الإبستمولوجية التي خرجت في فترة الثمانينيات في الجامعة المغربية، أو قبل ذلك بقليل، كما ذكرنا مع الجابري في كتابه ” مدخل إلى فلسفة العلوم”. ولكن الجديد في النقاش الإبستمولوجي التفاعلي مع الأستاذ وقيدي والذي أنجزه الأستاذ يفوت هو مناقشة تطور الفكرة العلمية الوضعية، في تاريخ الحركة العلمية الأوربية، والفرنسية على الخصوص، من خلال متن جديد على الفكر الإبستمولوجي المغربي، وهو الفكر الإبستمولوجي الأنجلوسكسوني، من خلال متن عالمين إبستمولوجيين كبيرين هما: توماس كون (1922-1996)، من خلال كتابه: “بنية الثورات العلمية”، وصاحب مفاهيم تفسيرية أساسية في تاريخ العلوم، وفي تاريخ الأفكار؛ مثل: النموذج المعرفي، والمجتمع العلمي، والمجموعة العلمية، والتوتر العلمي، والتغير العلمي، والتقاليد العلمية، والعلم العادي. وهي البارزة في كتبه La structure des révolutions scientifiques، وكتاب
- La révolution copernicienne، وكتاب: La tension essentielle : Tradition et changement dans les sciences . كما ينبغي التنبيه إلى أن توماس كون قد تأثر بالمدرسة الألمانية في الفلسفة، عند إيمانويل كانط (1724-1804)، وبالمدرسة الأنجلوساكسونية الإنجليزية في فلسفة العلوم، عند كارل بوبر(1902-1994). كما اعتمد الأستاذ يفوت في نقاشه الإبستمولوجي على الفيلسوف النمساوي بول فايرآبند( 1924-1994)، وهو ذو منزع بحثي أنجلوساكسوني- جرماني؛ كما يظهر في كتابه الذي اعتمده الأستاذ يفوت في نقاشه، وهو: ضد المنهج، Against Method, Outline of anarchistic, theory of knowledge .
لقد تم إغناء النقاش الإبستمولوجي، إذن، في الجامعة المغربية بالانفتاح على المتن الإنجلوساكسوني، في فلسفة العلوم، وفي تاريخ الأفكار، وفي نظرية العلم، وفي الإبستمولوجيا، مع التذكير بأن الأستاذ وقيدي كان سباقا إلى الانفتاح البحثي على متن كانط، كما سبق ذكره، وإن كان في سياق نقدي لأطروحة كانط، خصوصا في الموقف من الميتافيزيقا ومن أدوارها. وعليه استثمر الأستاذ يفوت أطروحة توماس كون لشرح مقابلة أفكار برينو بالصمت عند بعض معاصريه، وعند بعض من أتى بعده. ويرجع توماس كون ذلك إلى أن بعض الأفكار عندما لا تكون تندرج ضمن ما يسميه ب: (مجموع النظرية المقبولة والسائدة)، وعندما لا تلتزم بالقواعد والمعايير السائدة في لحظة علمية ما، يتم تجاهلها. فالفكرة العلمية التي تكون مؤثرة ينبغي لها أن تعبر عن منظور منهجي متبع ومعمول به. إن الفكرة العلمية لكي تكون رائجة، وأن تكون ضمن المنظور المنهجي السوي، لابد من أن تتوفر على (مظلة علمية)، وعلى (نموذج معرفي)، باراديغم، يحصل عليه إجماع العلماء، ولو من حيث الاستعمال. ويضيف توماس كون أن إجماع العلماء يتأسس على مجموعة من الاعتقادات. اعتقادات تخرج في شكل نظريات، وفي شكل آراء علمية، وفي شكل مقاييس، وهي ما يسمى بالإطار المنظم لنشاط العلماء وللبحث العلمي. وبذلك يتشكل عالم البحث العلمي من التصورات الجديدة للعلماء عن العالم. وهي تصورات تتدحرج إلى لا شعور العلماء، لتتحول إلى (لاشعور جماعي) للجماعة العلمية، يضع الحدود ويرسم الآفاق لكل إنتاج علمي في الأفق. إنه العلم (السوي) الذي ينتج السلطة وينشرها، بتعبير نيتشه. إنها لعبة التواطؤ بين العلم والسلطة! وهي أطروحة فككها بول فايرآبند في كتابه: “ضد المنهج”؛ إذ كشف ما يوجد داخل الحركة العلمية من إقصاء، غير علمي، لكنه مغلف بالبدائل النظرية التي لا تتفق مع السائد من الأفكار العلمية، بل يكون تضييقا للخناق على الإبداع والابتكار. بل يرى فيربآند أن السياق الاجتماعي له دور كبير في فرض خيارات منهجية وتصورات علمية على الجماعة العلمية، وهو أمر كان يمارس في تاريخ العلم باستمرار؛ منذ أرسطو وغاليلو ونيوتن… وفي هذا السياق كشف فايرآبند خروقات غاليلو وانتهاكه للمنهج العلمي. لذلك صمت عن أفكار برينو!
هكذا تتشكل الأفكار العلمية إذن؛ بعضها يسود وينتشر، وبعضها يهمش وينسى. وبهذا المنطق، من منظور الأستاذ يفوت، انتصرت الفلسفة الميكانيكية، وتحول التصور الميكانيكي إلى نموذج معرفي للتفسير (باراديغم)، يفرض نفسه على العقول، وعلى منهج البحث العلمي، خصوصا في البحث في الطبيعة. وبذلك تشكلت بدايات النزعة الوضعية في القرن السابع عشر، كاختيار علمي ومنهجي، في سياق مملوء بالسلطة والتحيز! وخصومة نزعات علمية محددة مع الميتافيزيقا، خصوصا مع بداية اكتمال علم الطبيعة. ثم تحولت هذه الخصومة إلى نوع من التمازج بين الميتافيزيقا والآلة، ولكن على حساب المفهوم التقليدي للميتافيزيقا! وقد كان المتن الديكارتي مجالا مناسبا انطلق منه الأستاذ يفوت لدراسة تحولات البحث العلمي من الآلية إلى الغائية، خصوصا في كتاب ديكارت: ” المقال عن المنهج”، مقارنة بكتاب وليام هارفي( 1578-1657) مكتشف الدورة الدموية في كتابه: “حركة القلب”. وهو الكتاب الذي قرأه ديكارت بعناية كبيرة، ووظف نتائجه، وعمق أفكاره في كتابيه: “في العالم”، وكتاب: “المقال عن المنهج”؛ إذ قدم حججا تجريبية كثيرة للدفاع عن آراء هارفي، ولإثبات صحتها. وقد كان ديكارت، في كل أبحاثه ودراساته وتفاعلاته مع أبحاث هارفي، مسكونا، بنظر الأستاذ يفوت، بهاجس إثبات أن نفس القوانين التي تحكم السماء هي نفسها التي تحكم الحياة، وتحكم الكائنات الحية.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.