في وداع الأستاذ محمد وقيدي/ الجيل الفريد: من ضيق الأيديولوجيا إلى سعة الإبستمولوجيا (5)
د. محمد هُمام / أستاذ بجامعة ابن زهر/ أكادير //
كان الأستاذ وقيدي، بنظرنا، وبحسب ما توفر لدينا من معطيات تأريخية للفكر الإبستمولوجي بالجامعة المغربية، سباقا إلى تطبيق معطيات الإبستمولوجيا على كثير من فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ خاصة في حقول: التحليل النفسي، وعلم النفس التكويني، وعلم اجتماع المعرفة، وتاريخ العلوم. فعلى مستوى حقل التحليل النفسي تبنى الأستاذ وقيدي أطروحة باشلار في تحديد مهمة الإبستمولوجيا على مستوى هذا الحقل، وهي: التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية، وهو ماشرحه باشلار في كتابه المرجعي: (تكون الفكر العلميLa formation de l’esprit scientifique). وقد أخذ باشلار من التحليل النفسي فرضية: اللاشعور؛ أي اعتبار الجانب اللاشعور من الحياة النفسية الذي يتم كبته لتعارض رغباته وميوله مع مقتضيات الحياة الاجتماعية العامة وضوابطها القانونية والأخلاقية؛ أي لايعني أن هذه الرغبات والميولات تموت وتفقد ديناميتها ورغبتها التي لا تنتهي في الظهور. لذلك تقرر في أبحاث مدرسة التحليل النفسي، مع فرويد (1856-1939)، وهو مرجع أساسي في تحليل باشلار، أن الحياة النفسية اللاشعورية لها تأثير كبير على حياتنا النفسية الشعورية. وعليه، يساعد مفهوم اللاشعور على تفسير السلوك الإنساني، وعلى إلقاء الضوء على حالات المرض النفسي، وعلى حالات الاضطرابات النفسية في مستوياتها الكثيرة؛ من أزمات، وعقد، ونكوص… لذلك اقترح باشلار استثمار هذا المفهوم في التحليل الإبستمولوجي؛ أي توظيفه باعتباره أداة إجرائية نقلها من مجال تطبيقها الأصلي وهو الحياة النفسية للشخصية الإنسانية إلى مجال العمل العلمي، وبالتالي دراسة الجانب النفسي في الممارسة العلمية غير المشعور به؛ مثل البحث عن (المكبوتات العقلية) وعن تأثيرها في البحث العلمي، وهي التي يسميها باشلار ب: (العوائق الإبستمولوجية)، وهي منبثقة عن العمل العلمي من داخله وليست وافدة عليه من خارجه. فالمعرفة العلمية، من منظور باشلار، تجري ضمن شروط نفسية، مما يجعل التفكير في الشروط النفسية للمعرفة العلمية هو نوع من معالجة المعرفة في صيغة عوائق، ومن ثمة الكشف عنها. فالعوائق الإبستمولوجية تظل ملازمة للعمل العلمي، لأن الرغبات والميولات، باعتبارها عوائق، ذات ضرورة وظيفية للحياة النفسية، ومن ثمة للحياة العلمية، ويستمر الاصطدام في الممارسة الإبستمولوجية، وفي تاريخ العلم بعامة، بين (القطعيات الإبستمولوجية!!)، وبين (العوائق الإبستمولوجية)؛ فلحظة القطيعة الإبستمولوجية، من منظور باشلار، هي تعبير عن اللحظة التي يحقق فيها العلم قفزة كيفية في تطوره، ويتجاوز فيها العوائق الإبستمولوجية. إن لحظة القطيعة هي لحظة ميلاد فكر علمي جديد على أنقاض فكر علمي قديم؛ مثل: الانتقال من فيزياء نيوتن إلى فيزياء انشتين (الفيزياء النسبية)، أو إلى الميكروفيزياء. وهذا التحول النوعي يكون مانعا لظهور العوائق الإبستمولوجية. وحدد باشلار صورا للعوائق الإبستمولوجية؛ مثل: (التجربة الأولى)، و(التعميم)، بما يثبت العلاقة التي يتصورها باشلار بين الإبستمولوجيا وبين التحليل النفسي، من منطلق أن المعرفة العلمية عملية نفسية وعقلية، كما أن القيم الإبستمولوجية قيم معرفية ونفسية لكونها لا تتعلق بالتطور العلمي وحده بل بالفكر الإنساني برمته؛ إذ تؤثر على بنيته، مع التأكيد على أن المعرفة ليست شروطا نفسية وحسب، وكذا ضرورة الوعي بحدود التحليل النفسي للمعرفة العلمية. وبرغم ذلك، يقر الأستاذ وقيدي، في خضم تقييمه لمجهود باشلار في هذا السياق، بضرورة التكامل بين الإبستمولوجيا والتحليل النفسي، وكذا علم النفس التكوينيLa Psychologie génétique، وفق مقترح جون بياجيه. ويعتقد بياجيه أن تكامل الإبستمولوجيا مع علم النفس التكويني سيحولها من مجرد تحليل فلسفي إلى علم إنساني جديد قائم بذاته، هو: الإبستمولوجيا التكوينية. ويتوفر هذا العلم الجديد على شرط العلمية، وهو: التحديد الدقيق لموضوع البحث، ومنهج المعالجة النوعية لذلك الموضوع. وهذا ما يفصل الإبستمولوجيا عن حقل الفلسفة العامة، وهو ما أنجزته بنظره علوم إنسانية أخرى؛ مثل: علم النفس، وعلم الاجتماع، والمنطق.
إن علم النفس التكويني يساعد الإبستمولوجيا، إذن، على دراسة تكون المفاهيم العلمية، والنظر إلى المعرفة من حيث إنها (سيرورة)، بما يجعل التكامل بينها وبين بقية العلوم أمرا ضروريا، ومطلبا علميا. و في هذا السياق، اعتبر الأستاذ وقيدي أن (علم اجتماع المعرفة) Sociologie de la connaissance ، هو الفرع العلمي المناسبق للربط بين الإبستمولوجيا والسوسيولوجيا. فعلم اجتماع المعرفة يفيد الإبستمولوجيا في رصد أثر الشروط المجتمعية في السيرورة الذاتية للمعرفة العلمية، خصوصا عندما يكون العلم أقرب إلى الإنسان، ليصل الأثر مداه عندما يكون الإنسان موضوعا للبحث العلمي. وفي هذه الحالة يشتد الجدل بين المعرفة وبين الأطر الاجتماعية للمعرفة، وبين ما هو علمي وما هو أيديولوجي، وهذا الأخير تنفذ منه آثار الأطر المجتمعية إلى داخل المعرفة العلمية. (اعتمد الأستاذ وقيدي في تحليل هذه النقطة على كتاب جورج غورفيتش: الأطر الاجتماعية للمعرفة، 1968،PUF). فقد حدد جورج غورفيتش دوائر ثلاث لتكامل الإبستمولوجيا مع علم اجتماع المعرفة؛ وهي: وجود معرفة جماعية، وعالم الرموز المعرفية، والبحث في الدلالات؛ أي وسائط نقل المعرفة، وما تدل عليه. ويستدرك الأستاذ وقيدي على جورج غورفيتش أن المشترك بين الإبستمولوجيا وعلم اجتماع المعرفة ليس هو المعرفة بعامة، بل هو المعرفة العلمية تحديدا. كما اختلف معه في دور المنطق في الرقابة على صلاحية الحقيقة العلمية للإبستمولوجيا. فهو لا يرى دورا للمنطق إلا عند الرغبة في بحث صلاحية النظريات والأفكار العلمية وحسب، ولا تصبح الإبستمولوجيا، عندها، مجرد تابع لعلم المنطق!
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.