الرحيل إلى الإنسانية؛ للشاعرة المصرية المائزة إلهام عرابى؛ رحيل صوب الإنسانية في عالم الألغام والخيانات القاتلة لجوهر الكينونة. فلكل نور خفايا مُظلمة، فمع التطور المُذهل في العالم المُتحضر انقلبت المعايير حيث بات الصامدون أمام جبروت الأنا العنيفة يستحقون التمجيد. هنا تظهر الشاعرة إلهام عرابى الفرعونة اليانعة رافعة راية الإنسانية عبر نصها ” أمنيات صغيرة ” لنقرأ النص معاً:
أمنيات صغيرة
كم تمنيت،
قبل اصدار مرسوم إنسانيتي،
لو أنّي كنت شجرة
فأتصدق لآخر يوم في ثماري
أفتح أحضاني للاجئين
وبرسالة خطيّة، محفورة على صدري، أعقد قران العاشقين.
أعد فطائر أمومتي ليتيم
و أهب كتفي عكازا للخطوات الثقيلة
وحين يطرق الموت بابي
أتبرع بأعضائي للنيام على الأرصفة،
للموتى وللمقعدين
….أو أكون مظلة
فأتأبّط العالقين
وأعبر بهم خارج البلل،
أعزلهم عن سياط البرق
وأكون درعهم من غضب الريح و قذائف المطر.
وواق من شرر ألعاب الشمس النارية…
أو أن أكون بجعة
تتباهى بقدها الممشوق،
أمارس فن الباليه
و أرقص على أصابع بحيرة
بمصاحبة عزف أوركسترا نقيق الضفادع
وتهتف بإسمي جماهير من الأجنحة.
إلهام عرابي
يأتي النص في سياق من التمني الأبيض, لنأخذ هذا المقطع من النص:
( كم تمنيت
قبل اصدار مرسوم إنسانيتي،
لو أنّي كنت شجرة
فأتصدق لآخر يوم في ثماري
أفتح أحضاني لللاجئين)
هنا ثمة علو حسي بالآخر, فهي عندما تتمنى لو أنها كانت شجرة لكي يتسنى لها العطاء بمساحات أوسع ” فأتصدق لآخر يوم في ثماري” ثمة تأكيد على مد يد المساعدة حتى النهاية وتكمل: “أفتح أحضاني لللاجئين”
يتجلى البعد الإنساني العميق, فعندما تتمنى الشاعرة المائزة إلهام عرابي بعد أن تمنح ثمارها حتى النهاية ومن ثم تفتح أحضانها لكل من يبحث عن موطئ لجوء تظهر جماليات المشهد الإنساني المُتكامل, حيث لا مكان للأنا في سياق هذا المقطع, بل على النقيض ثمة أبعاد إنسانية مُركبة باتت نادرة في عصر الانحطاط الأخلاقي الذي نعيشه في عالمنا اليوم, وفي الرواق اللغوي ثمة مُعالجة للاتجاه التجريدي الذي بات يُساهم في تراجع عدد القراء للحصانات غير المنطقية للنص الإبداعي, هنا تكتب شاعرتنا بلغة أنيقة وقريبة من القلوب الباحثة عن استعادة إنسانيتها.
لنأخذ مقطعاً آخر من نص أمنيات صغيرة:
” ….أو أكون مظلة
فأتأبّط العالقين
وأعبر بهم خارج البلل،
أعزلهم عن سياط البرق”
هنا يأخذ النص مساحات فكرية أوسع, حيث تتحقق إحدى أسس النص الحديث الذي طالب به أنصار النظرية التفكيكية وتحديداً مؤسسها الفيلسوف والناقد الفرنسي جاك دريدا, هنا أتحدث عن تعددية المعنى أو المعاني غير المنتهية للنص ” ….أو أكون مظلة
فأتأبّط العالقين” هنا لتأطير سبب للعالقين, هؤلاء الذين تتمنى شاعرتنا بأن تكون مظلة لتنقذهم, ربما تكون حالة الضياع خارجية وربما تكون داخلية مُتعلقة بمشاكل نفسية وما أكثرها.
“و أرقص على أصابع بحيرة
بمصاحبة عزف أوركسترا نقيق الضفادع
وتهتف بإسمي جماهير من الأجنحة.”
هنا تخلق لنا الشاعرة إلهام أجواء حميمية من خلال تماهيها مع الطبيعة, فهي ترقص على أصابع بحيرة , هنا ثمة تشبيه مُركب حيث باتت البحيرة بمثابة جسد, وأطرافها أصابع, هنا تثور الهواجس بثراء غادق وتعزف أوركسترا الأحزان معزوفة البقاء الخالد وتصمد القيم في مواجهة الرغبات السالبة.
” أمنيات صغيرة” للشاعرة الخلوقة إلهام عرابى نصّ ذو صبغة إنسانية عميقة تتبرعم في عرين الحديقة الحالمة والتي تطل على رابية المعرفة البيضاء.
محمّد مجيد حسين – كردي سوري
التعليقات مغلقة.