سفر فني مع الروايس

يكتبه عبد الرحمان بلعياشي

كلما أشد الرحال على متن سيارتي إلى بلدتي الصغيرة والتي تقع على أقدام جبال الأطلس الشامخة،  على بعد ما يقارب خمسون كيلومترا عن مدينة ورزازات، أستمتع بالإستماع  إلى أشهر وأحسن الأغاني أو المقاطع الغنائية من الريبيرطاور الأمازيغي الغني والمتنوع والذي يأخذك لتقوم بسفر بواسطة أمارگ، سفر يمتد على رقعة جغرافية واسعة، منطلقها إقليم ورزازات مروروا بوادي أونيلا الممتد من آيت بنحدو إلى تلوات أو من تابورحت وتمدلين وإيميني فتزگي نوزاليم ووادي تامسطينت وتديلي وتعود إلى تامناط وأگلموس، لتعبر منعرجات تيشكا الرائعة قبل أن تحل بإقليم الحوز أو أزغار، مرورا على تدارت وتازلياضا وتوفليحت فالتوامى وأيت اورير، وتزور تاملالت وتاحناوت وبعد ذلك وديان مولاي إبراهيم وإمليل وأوريكا، وتواصل المسير نحو منطقة حاحا الكبرى وتزور تاصورت، قبل العودة جنوبا نحو سوس الكبير ويمتد حتى منطقة ماسة، وتتوقف في الدشيرة  وتارست وانزكان وأيت ملول، وتتجه بعد ذلك إلى تيزنيت مرورا على سيدي بيبي واشتوكة وماسة، دون أن  تنسى مناطق تافراوت وآيت باعمران،  ومن تم تعود لتعرج على تارودانت وتتجه نحو أولوز فتالوين وبعدها تازناخت وأنزال ومنطقة إزناگن، لتعود إلى نقطة بداية هذا المسار الفني الفسيح والمتنوع والغني.

رايسة صفية اولت لاوات

كما أن هذه الأغاني التي يؤديها أهم رموز هذه الأغنية الأمازيغية لفن الروايس تحديدا يقومون برسم هذه المسارات كلما قاموا بجولة فنية في مناسبات معينة وطنية كانت أو دينية أو موسمية أوخاصة.

بل وكنت منذ صغري أستمع إلى هذه الأغاني ولم أكن بعد أسافر أو أعي مغزى السفر  وفوائده، وكنت أحفظ أسماء الأماكن التي يتغنون بها من شمال المغرب إلى جنوبه، أو أسماء بعض المناطق المتواجدة  داخل المثلث الذي رسمته في البداية من قبيل أملن وأگلو وتحناوت وإيداو گنظيف وحاحا وتازناخت وبنسرگاو واكادير أوفلا وأورير وتغازوت وماسة وسيدي بيبي وتلوات وأمزميز وتاصورت أو الصويرة وتالوين وزگموزن وأزغار وغيرها.

هي أسماء  أماكن رسمتها في ذاكرتي هذه الأغاني ولم أكن بعد أعرف موقعها في الخريطة، إضافة إلى الوديان والجبال والسهول وأسماء الأضرحة وأولياء الله الصالحين المنتشرين عبر كل هذه الربوع، لكن كنت أتمثلها بطريقتي وكنت أتخيلها اعتبارا من الأوصاف التي كان هؤلاء الروايس يستعملونها، إضافة إلى بعض الأعيان البارزين في كل منطقة، ويتحدثون عن كرمهم وجودهم عليهم بما يقدمون لهم أولا من كرم الضيافة ومن العطايا المادية في نهاية كل حفل أو سهرة. 

من منا لم يسافر مع أعمدة هذا اللون الغنائي المتميز والذين ذاع صيتهم وفاقت شهرتهم كل الحدود، بقصائدهم الخالدة والرائعة ونظمهم الهادف وألحانهم الاصيلة وأصواتهم القوية وحناجرهم المعبرة وكورالاتهم الفريدة بأصواتها ورقصاتها البديعة. من منا لم يتغنى بأغاني هذه العلامات الشامخة والقامات الكبيرة والخالدة في أذهان اجيال عايشتهم أو عايشت فنهم، بأن كبروا عليه ومعه، وساهموا في تربية ذوقهم الفني وحسهم الابداعي، بحفظ أغانيهم وترديدها عند القيام بأعمال البادية المتعددة فرادى أو جماعات.

الرايس الحاج بلعيد

هي قامات معروفة لدى الجميع بمن فيهم الغير الناطقين بتاشلحيت في كل ربوع البلد. وأصبحت أسماء مثل الدمسيري أو ألبنسير وبيزماون وسعيد أشتوك والحاج بلعيد والحاج الحسين أوتزناخت والحاج عمر واهروش وابن يحيى أوتزناخت وأمنتاگ وبولمسايل وبيهتي وإحيحي وأتحناوت والرايس أعراب أتيگي والطالب لمزوضي وأگلاوو وأمراكشي والحسين الباز ومبارك أيسار وغيرهم، على لسان عشاق هذا اللون الأمازيغي داخل المغرب وفي بلدان المهجر. ولا يمكن حصر القائمة، حيث هي طويلة وتمتد إلى جيل جديد أخذ على عاتقه مسؤولية حمل المشعل والتجديد في هذا النمط التراثي الغني الذي يميز رقعة جغرافية واسعة من الوطن. 

الرايس محمد ألبنسير

بالموازاة مع الأصوات الذكورية، برزت أصوات نسائية وتألقت وعلا صيتها وصوتها في هذا الوسط الفني الذي يعتبر ذكوريا في غالبيته وفي وسط محافظ باترياركي. وكان لهذه الأصوات الفنية النسائية دورها الفعال في كسر كل الحواجز وفتح الباب على مصراعيه لتجد أصواتا جديدة نفسها وسط هذا الميدان الصعب، وتشق طريقها نحو النجاح والتألق وتعطي بذلك الدليل أن هذا الفن لن يكون فقط حكرا على الرجال.

وكانت البداية التي أتذكرها على الأقل بأصوات خالدة للفنانات تحيحيت مقورن وفاطمة تحيحيت مزيين ورقية الدمسيرية وصفية أولت تلوات، صاحبة أغنية أو  تالغات وااصيح أتاونزا الخالدة وفاطمة تباعمرانت بأغانيها الملتزمة، وغيرها من الأسماء الجديدة التي أخدت المشعل من رائدات هذا اللون الأمازيغي الفريد من نوعه.

 غير أن الساحة الفنية الأمازيغية عرفت حلول أصوات نسائية أجنبية، ما أعطاها إشعاعا وبعدا دوليا مهما وانعكس عليها إيجابا بإثارة انتباه الجيل الجديد بجمالية هذا اللون الغنائي وأهمية إحياءه والتجديد فيه.

ويعود الفضل في بداية الأمر إلى الرايس حسن أكلاوو الذي باغتته الموت وهو في عز شبابه وعطائه، في إدخال أول صوت نسائي جميل، ويتعلق الأمر بالرايسة كيلي الفرنسية الجنسية. وقد كان لأدائها بالغ التأثير في إعادة إحياء الأغنية الأمازيغية وإعطائها نفسا جديدا وضخ فيها دماء جديدة.  والرايسة كيلي كانت معروفة بتحركاتها الرزينة فوق الخشبة وبأدائها الرائع للأغاني إلى جانب الرايس حسن  أگلاوو.

الرايس سعيد أشتوك

وكانت تتقن الغناء رغم أنها لا تتكلم الأمازيغية على ما أظن. بعدها ظهرت تجربة جديدة وهي حديثة، قام بها الفنان الشاب سعيد أنروز، الذي أبدع وجدد في هذه الأغنية عندما أقحم الفنانة الأمريكية جنيفير گراوت، فأديا معا أجمل الأغاني بإيقاعات متجددة وكلمات تتغنى بالحياة والحب والوطن.

أما التجربة الثالثة وهي ناجحة أيضا فقد قادها الفنان المغربي فتاح المقيم بأمريكا. فتاح هذا إلى جانب دور إقامة  آر تگمي   الفنية التي يملكها الفنان المخضرم والمتجدد علي فائق، مهدت الطريق لفنانات أمريكيات ليس فقط من أجل الغناء بالأمازيغية، ولكن ايضا ليتعلمن آلة الرباب والعزف عليها بإتقان على شاكلة الروايس. وقد أسس الفنان فتاح عبو مجموعته الموسيقية  تاوجا ن ؤمارك، التي تقيم حفلات في المغرب وخارجه. 

الرايس الحسين الباز

وقد اتسمت القصائد التي يتغنى بها الروايس بتنوع الموضوعات، وهي في مجملها ترتبط ارتباطاً وطيدا بالواقع اليومي المعيش وبما يشغل بال الساكنة عموما. ويمكن تقسيمها إلى مواضيع عامة تتغنى بالحياة في شكلها العام ومن عدة منطلقات وزوايا، فنراها تخوض في الحب والتضامن والتآزر وحب الخير، ونبذ الشر والكراهية والحسد، ونظمت في السعادة والشقاء، وفي الحياة والموت، وهي كلها تيمات وقيم كونية تجد لها مكانا في أشعار وغناء المجتمعات الأخرى.

الرايس المهدي بنمبارك

كما خصص الروايس قسطا وافرا من أشعارهم أيضا للحديث عن أمور الدين من قبيل مناسك الحج والعمرة أو الخوض في ما يحيط ببعض العادات التي لها علاقة بالإحتفالات الدينية من قبيل رمضان وعيد الأضحى وعيد المولد النبوي وعاشوراء، كما تتغنى وتحتفي بسير وقصص الانبياء والرسل والسلف الصالح وشخصيات تاريخية وطنية ومحلية، إضافة إلى رموز ميزت تاريخ مناطق سوس والمناطق التي جابوا وصالوا فيها وأقاموا فيها حفلات وسهرات موسيقية.

كما تم نقل الحكايات الشعبية المحلية إلى ساحة الغناء، وتم ذلك عبر نظمها، ما أعطاها بعدا جماليا آخر وانتشارا واسعا لها، وقد برع في هذا اللون الغنائي بالخصوص الحاج عمر واهروش الذي سجل اشهر الحكايات مثل حمو أونامير وتاوتمت ولقيصت نتافروخت وغيرها، وهي حكايات تتيح لك سفرا ممتعا في الخيال وتحمل رسائل وعبر وتحتفي بدورها بالقيم الكونية، فيكون دورها بالأساس تأديبي وتعليمي إضافة إلى دور التسلية والمتعة.

صورة قديمة لمجموعة من الروايس

كما نجد أغاني كثيرة ترتبط بالواقع اليومي للإنسان الأمازيغي في بيئته، وتتغنى بالأرض والماء والغابة والجبل وتمازيرت والمطر والحر والبرد والغلة من حبوب وخضار والحليب والزيت والسكر والعسل والحمام والغزال والطاووس والحجل والأسد والفرس والأفراح وغيرها من المناسبات، كما ترتبط بأسماء لأشخاص أو عائلات بعينها أو دواوير ومدن معلومة ايضا. فيما يخصص جزء آخر من القصائد للتغني بالوطن ورموزه وأعياده ونضالاته من أجل الحرية واستكمال الوحدة الترابية. ليكون هذا اللون الغنائي ملتزم مع الفرد والمجتمع والوطن والقيم الإنسانية والكونية. 


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading