رحيل ميسي: المال يهزم الجمال، والمصلحة تدحر العاطفة.(1).
أزول بريس : الدكتور محمد همام
ليونيل ميسي، لاعب موهوب، وطاقة فنية غير عادية. ولو أنني من جيل مارادونا، ومازلت متيقنا، بعواطفي وحدسي وذوقي الكروي، أن دييغو هو الأفضل والأجمل والأمهر في كل الأزمنة، مع اختلاف السياقات والتشريعات والمحفزات الرياضية، ولامشاحة في الأذواق، في الأول وفي الأخير.
أدخل ميسي السعادة والفرح على جمهور عريض من المولعين بكرة القدم في العالم، ممارسين وغير ممارسين، طيلة عشرين سنة، من دون توقف، ومن دون عياء، أو تهاون. جسد نموذج الإنسان الطموح الذي تحدى ضعف البدن، وقلة ذات اليد، وحول ضعفه وضعفه إلى مصدر قوة غير محدود. وٱمن بقوته الكامنة فيه، فانفجر بركانا هادرا من العطاء والإبداع والذكاء والاستمرار، مع الاتقان والجودة في الأداء.
حمل ميسي بين جنبيه اعترافا مقدسا لجميل البارصا عليه، مذ كان طفلا يافعا، يعاني من صعوبات صحية واجتماعية. كما حمل بين جنبيه وفاء غير محدود لفريقه ولمحبيه، لذا سماه ( بيتنا)، بكل معاني الارتباط الخالد والدائم بالبيت، باعتباره ملجأ وجوديا وعاطفيا للذات. لذلك بكى ميسي بحرارة شديدة، كما يبكي أي طفل يغادر بيته مرغما، حتى لا أقول يتم إخراجه قصدا من بيته!!
بكى ميسي الجمهور العاطفي الذي يعرفه على رقعة المستطيل الأخضر، مراوغا ومسجلا وفارسا وبطلا، يجلب الفرح للحزينيين، والانتصار للمهزومين في الحياة. أصبح ميسي بطل من لابطل لهم، ومنبع فرح لمن لا يعرفون الفرح في حياتهم الاجتماعية. هذا الجمهور العاطفي هو الذي سيبكي ميسي، لأن ميسي نفسه من هذه الطينة العاطفية، طينة العالم الثالث التي لم تخضع لتدريب اجتماعي، ولم تفارق بعد روابطها العاطفية والأسرية، ومازالت تعتبر أي تجمع هو تجمع عاطفي صلب بالأساس. لا أريد هنا أن استحضر مقولة: العاطفة للعالم الثالث والعقل للعالم الأول.
أخطأ ميسي المسكين، لأنه استحضر في الوداع انتماءه للبارصا، ولم يستحضر انتماءه للأرجنتين، وفي انتمائه الأخير وحده قبل إنجازاته، مايجعله يفتخر بذاته، ويبدو قويا متماسكا؛ يكفي أنه من بلد مارادونا!! لقد ظن المسكين أنه يعيش في أسرة، إسمها فريق برشلونة لكرة القدم! وليس في هذه المقاربة أي مساس بالقيمة الفنية والكروية لفريق البارصا؛ فهو فريق كبير، وسيبقى كبيرا، وأمتع العالم في تاريخه، بكرة جميلة، وبنجوم عظام ليس ٱخرهم ميسي. إنما مابكى له ميسي هو الصورة الظاهرة والسطحية من المشهد؛ وإلا فللمشهد صورة باطنة، وهي أنه يشتغل في مؤسسة راسمالية نيوليبرالية متوحشة، تقدم الربح والمال على ميسي وعلى غيره من الموهوبين. أما كلمات: الإنجازات، البطولات، التاريخ، الأسطورة،… فتوجد في قواميس العشاق والمحبين.
وقد جسد هذا المشهد الخفي رئيس البارصا خوان لابورتا إستروش Joan Laporta Estruch، في مؤتمره الصحفي؛ مؤتمر التخلص من عبء إسمه: ليونيل ميسي! فقد تكلم بلغة رجل المال والأعمال الذي يقدس الأرباح على حساب الفن والجمال، وعلى حساب العواطف الإنسانية، كما تكلم بلغة السياسي المخادع الذي يظهر القليل ويبطن الكثير. تكلم بصفاقة وبغرور وبثقة في قراراته. ليس في قاموس لابورتا مصطلحات: البكاء، والعاطفة، ورغبة البقاء، التي لم يكن ميسي موفقا في التعبير عنها. لابورتا كان يعرف أن ميسي وصل الرابعة والثلاثبن، وأن توقيع عقد لخمس سنوات، رغم تسهيلات ميسي، والطرق المريحة للبارصا لصرف الراتب، هو مغامرة مالية. فالنيوليبرالية لاتؤمن بالتاريخ ولا بقيمة الوفاء ولا بالإنجازات الماضية، بل بالأرباح الٱن وغدا.
لقد غلف لابورتا طرده لميسي، بعدما استنفذ أغراضه، بقاعدة أخلاقية مبهمة، هي: ( قواعد اللعب النظيف)، وإجراءات الاتحاد الإسباني لكرة القدم. وأنا لا استبعد في هذه الحالة عوامل سياسية متورطة في الموضوع مرتبطة بعلاقة كاطالونيا بالدولة المركزية في مدريد، ولكن اعتقد أنها غير مؤثرة جدا، من منظور مقاربتنا القائمة على كشف النزوعات النيوليبرالية في فرق كرة القادم العالمية، والتي تطأ العواطف الإنسانية للاعبين، خصوصا غير الأوروبيين، من الموهوبين، ويستعملونهم كأدوات( وظيفية) لتحقيق الأرباح، ثم يتخلون عنهم فجأة، إما لإصابتهم، أو لتقدمهم في السن، أو يستغلون تدفقهم العاطفي غير المحدود وغير المعقلن، وعدم نضجهم الثقافي، وفقدانهم ل ( النخوة الهوياتية)، كما في حالة البرغوت/الظاهرة ميسي.
وعليه، لا أخال لابورتا إلاّ مستلقيا وهو يضحك ملء فيه على ميسي وهو يبكي وينتحب في مؤتمره الصحفي. وهي معادلة معقدة بين نموذجين ثقافين متباينيين؛ واحد أخلاقي صلب، على سذاجته وفطريته، يمثله ميسي، والٱخر مصلحي/ربحي/ سائل يمثله رئيس البارصا. يعبر الأول على الاستقامة الأخلاقية خارج منطق الربح والخسارة، ويعبر عن أخلاق الوفاء والتضامن العميقين مع محبين صادقين، وهي أخلاق الشهداء وأصحاب التضحيات في التاريخ، في مقابل النموذج الثاني؛ نموذج لابورتا، نموذج السيولة الذي لا يرى البطولة إلا بمنطق الربح، وعندها لاحاجة للقيمة ولا للعاطفة، ولا للبكاء، لأنها ببساطة لغة المخدوعين والسذج، بمنظور أبطال المال والأعمال.
(يتبع).
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.