د.محمد عبد الوهاب العلالي: الطوارئ الصحية وحرية التعبير والممارسة الصحافية.

بقلم الدكتور محمد عبد الوهاب العلالي/ متابعة من سعيد الهياق//
اعتمد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في 14 يوليو/ تموز الماضي، قراراً يطالب الدول بالامتناع عن استخدام مع قوانين الصحة العامة لتقييد حرية الرأي والتعبير بطرق تتعارض مع ذلك. وكان ذلك مؤشراً قوياً لطرح مسألة مدى توافق مقتضيات الحماية الصحية والأمنية مع احترام حرية التعبير وتداول المعلومات من الحكومات والمؤسسات والمجموعات الاجتماعية والأفراد واحترام الحقوق الأساسية والالتزامات الدولية والدساتير والقوانين الإقليمية والمحلية.
تحوّلت السلطة التنفيذية في دول عديدة، ومنها عربية، إلى مصدر رئيسي للمعلومات، مسنودة بمشروعية دستورية وقانونية ملزمة، مع نزعة يقينية بامتلاك الحقيقة لتدبير (إدارة) ممارسة الحريات الفردية والجماعية، من خلال قراراتٍ تهيمن فيها السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية. وإذا كان مبرّر ذلك حماية الصحة العامة وفق معايير محددة مفهوماً، فإن ممارسات سلبية ذهبت إلى تقويض علاقة السلطة ووسائل الإعلام والمجتمع، غير مبالية بمبادئ القانون الدولي ومكتسبات دستورية وديمقراطية كرّست عمل الصحافيين ووسائل الإعلام باستقلالية واحترام حرية التعبير، وحرية المعلومات، خصوصاً في ظروف الأزمات. ففي أكثر من مكان، برز سؤال بصدد مدى شرعية تحكّم السلطة التنفيذية في تداول المعلومات على نحو منفرد، باسم حماية الأمن العام، والاستئثار بالمشهد الإعلامي، والتضييق على الصحافيين في التحقق من صحية البيانات المعلنة والمساءلة، ونقل الأخبار، والوصول إلى مصادر المعلومات. وهو ما أفرز مسؤولية الدولة في ضمان المعلومات للمواطنين في ظروف أزمةٍ من مختلف المصادر، جزءاً من مهمة تحصين المجتمع وإشراكه في مواجهة الجائحة.
تحوّلت السلطة التنفيذية في دول عديدة، ومنها عربية، إلى مصدر رئيسي للمعلومات، مسنودة بمشروعية دستورية وقانونية ملزمة، مع نزعة يقينية بامتلاك الحقيقة ومع إجراءات حالات الطوارئ الصحية، استأثرت وسائل الإعلام الكبرى بتوجيه النقاشات والحوارات حول الجائحة ومظاهرها المختلفة، بنشر معلوماتٍ تهيمن عليها، في أحيانٍ كثيرة، الدعاية والتضليل على لسان المسؤولين. وهو ما أدّى، في أمثلة عديدة، إلى انحرافاتٍ تحت مسمى الحفاظ على النظام العام، وتحويل صوت الحكومات إلى صوتٍ يعلو فوق كل الأصوات، بقمع صحافيين ونشطاء تعرّضوا في أعمالهم وتدويناتهم لسوء أداء بعض أجهزة الدولة ومسؤوليها وبتقييم لسياسات عمومية خاطئة في مواجهة الجائحة، مقدّمين رؤى مغايرة، وتحقيقات، وشهادات عن معاناة الناس اليومية من قرارات جائرة أحياناً، ما وضع السلطات القضائية أمام امتحانٍ كبير في مواجهة القرارات المذكورة.
عملت السلطات في بلدان عديدة على التضييق على حرية الصحافة وتكريس هيمنة الرأي الواحد، وهي ظاهرة عالمية لقد عملت السلطات في بلدان عديدة على التضييق على حرية الصحافة وتكريس هيمنة الرأي الواحد، وهي ظاهرة عالمية، نبه إليها المعهد الدولي لحرية الصحافة في فيينا، في تقرير له نشر في مايو/ أيار الماضي، حين أكد أن “الأزمة الصحية أتاحت الفرصة للدول الديمقراطية والاستبدادية بزيادة سيطرتها على وسائل الإعلام، بذريعة محاربة نشر معلومات مضللة ومغلوطة”. ولكن وسائل التواصل الإجتماعي لم تبق على الحياد، فالنشطاء، بدعم من العلماء والأطباء والخبراء، تحوّلوا إلى متفاعلين ومتطوعين للإجابة عن تساؤلات الناس ومساعدتهم على فهم ما يجري، على نحوٍ حوّل المنصات إلى فضاءاتٍ للاحتجاج على سوء الأوضاع والمعاملة في المستشفيات، واختلالات سوء التدبير، وعدم شفافية تدبير الموارد المالية، والتعبير عن جوانب غير مرئية من حياة المجتمعات وصوتاً لها.
وعلى الرغم من مواجهة الحكومات وسائل التواصل الاجتماعي، بادعاءات إسهامها في تقويض جهود مواجهة الأزمة أمام أحادية كثير من وسائل الإعلام الكبرى، فإن بعض عيوبها، مثل نشر أخبار كاذبة وإشاعات، وخدمة أجندات أيديولوجية، أثر سلباً على مصداقيتها، فبحث الناس عن المعلومات يعبّر عن حاجة المجتمعات إلى متابعة الأحداث، وسط انقسام في الرأي العام بين من يمنح مصداقية عالية لوسائل الإعلام الكبرى في تقديم المعلومات حول الجائحة ومن يرى أن وسائل التواصل الاجتماعي هي الأوْلى بذلك، في وقتٍ سجلت القنوات العمومية استعادة جمهورها في تزامنٍ مع تنامي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. لقد بدا جلياً أن وسائل الاتصال الاجتماعي أربكت الدول والحكومات، وقوّضت هيمنتها على العملية الاتصالية حول كوفيد 19، وحرّرت المتلقي من سيطرة وسائل الإعلام الكبرى لصالح مالكيها، دولاً أو شركات إعلامية كبرى أو مجموعات مالية.
تتسع الوظائف الاجتماعية والنفسية والتربوية والتواصلية والأمنية لوسائل الإعلام والإتصال على نحو كبير، في ظل الأزمات الشاملة
تتسع الوظائف الاجتماعية والنفسية والتربوية والتواصلية والأمنية لوسائل الإعلام والإتصال على نحو كبير، في ظل الأزمات الشاملة، فوسائل الإعلام، باعتبارها طرفا ضمن المنظومة الثلاثية “سلطة – مجتمع – وسائل إعلام” تحظى بالثقة بتقديم الحقائق. لذلك، فإن إبعادها عن لعب أدوارها ووظائفها المختلفة يضعف دور الدولة، ويخفض من مستوى الثقة بها، وقد يشكل تهديدا خطيرا لأمن المجتمعات واستقرارها. وهو ما لا يمكن اعتباره إلا انحرافا تمارسه الدول والحكومات، مستغلة ظروف الجائحة. لذلك، فإن الصحافيين مطوقون بمهمة تقديم الحقيقة في حدودها القصوى، والالتزام بوصف الأحداث بتوازن واستقلالية واحترام لأخلاقيات المهنة، ما يضفي على الخطاب الصحافي مصداقيةً أعلى من خطاب المؤسسات الكبرى، أو بعض وسائط التواصل الاجتماعي، التي تسقط، في حالات كثيرة، في أصناف الخطابات الإشهارية والدعائية والخطابات الإيديولوجية، التي تفتقد النزاهة والحياد.
الحضور القوي لوسائل التواصل الاجتماعي لا يبرّر اللجوء إلى تقييد حرية التعبير بقدر ما يطرح الحاجة إلى تبنّي رؤية إدماجية
كما أن الحضور القوي لوسائل التواصل الاجتماعي لا يبرّر اللجوء إلى تقييد حرية التعبير بقدر ما يطرح الحاجة إلى تبنّي رؤية إدماجية تعترف بها باعتبارها جزءاً من المنظومة الراهنة لفضاء الإعلام والاتصال العالمي والتعامل معها إيجابياً، فحين تقدّم أخباراً موثوقة صحيحة، تسبق فيها وسائل الإعلام الكبرى، أو معلومات غير كاملة، يُفترض من وسائل الإعلام الكبرى متابعة الأمر، خصوصاً بشأن القضايا الكبرى، والاشتغال المهني عليها بتسليط الضوء عليها من زوايا متعددة، كمعطى جديد للممارسة الاتصالية. ليس ذلك وحسب، فحتى حين تسقط في تقديم أخبار كاذبة لنشطاء يعانون من العوز في التربية الإعلامية، ويقومون بممارسات شبه صحافية، لم يتعلموا أسرار الكتابة الصحافية ومبادئها وأخلاقياتها في أي مكان، فإن نزول وسائل الإعلام الكبرى إلى الميدان، للبحث والتقصّي وتقديم الحقائق، مسؤولية تخدم دينامية تكاملية بين الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي، في احترام لحرية التعبير وتعدّدية المصادر والقيم الصحافية. وهو ما سيقود إلى جعل خطابات الإعلام الاجتماعي تأخذ مكانتها في خدمة الاندماج الاجتماعي والصالح العام ككل. فسواء في ظل أوضاع الأزمات، أو في ظل الحياة العادية، فإن المجتمعات الديمقراطية في حاجة إلى ممارسات صحافية قوية، بغض النظر عن الأوعية المستعملة، فهي بمثابة الأكسجين الذي تتنفس منه، ويجعلها تنظر إلى نفسها في المرآة، خصوصاً في ظروف الأزمات، حيث الإكراهات والضغوط والآثار المترتبة على القرارات تتسم بالآنية والزوال السريع. وهو ما يجعل مسؤولية الحفاظ على الممارسة الصحافية النزيهة والديمقراطية والاحترافية في سياق الأزمة مسؤولية مشتركة للدول والحكومات والمجتمع ووسائل الإعلام والصحافيين على حد سواء، كما يفرض على الصعيد العالمي ضرورة بلورة رؤيةٍ لاستشراف المستقبل، بالنسبة للممارسة الإعلامية التكاملية القائمة على أسس ديمقراطية إبّان فترات الأزمات.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading