إننا على مشارف مشهد جديد من مسرحية قديمة، في كل مرة يتم تقديم نسخة قديمة بمكياج جديد، يجعل المواطن العادي أو الرأي العام الوطني يظن فعلا أن المغرب شهد انتخابات نزيهة وديمقراطية، وبمساعد آلية الإعلام بجميع صنوفه، يسوق المخزن صورة وهمية مفادها أن المغرب عرف تغير حقيقي في المشهد السياسي بالتالي سيغير سياسة الدولة في جميع المجالات.وبالتالي ستتغير الظروف المعيشية للمواطن وستزدهر الدولة وينعم الناس بالكرامة والحرية والرفاه. لكن سرعان ما يكتشف المواطن أنه وقع ضحية خدعة كان أبطالها رجال السياسة، أو بتعبير أصح سماسرة الوعود الانتخابية.
يلقبونه عادة بأبي القوانين أو أسمى القوانين التي تنظم العلاقة بين المواطن الفرد أوالجماعة وبين الدولة، أو بعبارة أدق القانون التعاقدي بين الحاكم والمحكوم. إنه الدستور، ومنه تتفرع جميع القوانين ولا يمكن الحديث عن الانتخابات دون الحديث عن الدستور. ومحاكمة هذا الدستور يأتي من جانب الجواب على الأسئلة الجوهرية التالية
1 هل الدستور الحالي يمثل الإرادة الشعبية شكلا ومضمونا ؟
2 هل الدستور الحالي يضع السلط والصلاحيات بيد ممثلي الشعب ؟
3 هل الدستور الحالي يجعل السلطات الأساسية مستقلة عن بعضها البعض ” التنفيذية -التشريعية – القضائية “
إن السياق التاريخي الذي جاء فيه الدستور الحالي يشكل أحد المداخيل الأساسية لمعرفة إن كان يمثل الإرادة الشعبية شكلا ومضمونا. وكما هو معروف فقد شكلت سنة 2011 سنة تحرك المجتمعات العربية والشمال الإفريقية سنة الخطوة الأولى لسيرورات ثورية لشعوب المنطقة ضد الدكتاتوريات الجاثمة على صدرها لأزيد من 40 سنة هذه السيرورات لم تنتهي بعد. وقد شهدنا في المغرب حراك شعبي تجسد في حركة 20 فبراير، زعزعت نظام الحكم في المغرب وبات هو ومصالحه في مهب الريح. مما فرض على المخزن التحرك بسرعة واللعب بكل أوراقه ومن ضمن الأوراق التي لعب بها، ورقة الدستور، فقد ألقى الملك خطاب 9 مارس أو خطاب ” نعم ” هذا الخطاب الذي سخرت له جميع الوسائل لجعله خطابا تاريخيا كاد يصل لمستويات الخطابات المقدسة.إذن فقد حقق المخزن هدفه من ورقة الدستور وذلك أولا بتعينه للجنة فوقية والقول بفوقية اللجنة يعني أنها لم تنبثق من الشعب وقواه الحية طبعا لأن العمل بأذاة تنظيمية منبثقة من صلب الشعب، سيكون نهاية للطابع المخزني للدولة وبداية لتفعيل مبدأ تقرير المصير، لذلك سارع المخزن لتعيين لجنة من خدامه الأوفياء، للقيام بالتعديلات الدستورية ورسم لها خارطة الطريق والخطوط العريضة التي يجب لها أن تتحرك فيها وتتخذها كقاعدة للعمل ومن ضمن تلك الخطوط تكريس إسلامية الدولة والإحتفاظ بإمارة المؤمنين، والنظام الحكم الملكي، والوحدة الترابية. هذه اللجنة لها فقط طابع التشاور مع القوى السياسية والنقابية والجمعوية في ما يتعلق بمضامين الدستور لذلك فليس غريبا بعد إعداد الدستور والمصادقة عليه أن يخرج علينا بعض أعضاء هذه اللجنة مؤكدين أن الوثيقة التي تم إعدادها ليست هي التي طرحت للإستفتاء.
والقول بفوقية اللجنة التي قامت بإعداد الدستور معناه أنها ستعد دستور على مقاس من عينها وبالتالي فدستور 2011 غير ديمقراطي شكلا لهذا فوصفه بالممنوح هو تعبير سياسي صحيح في إشارة إلى منحه من طرف المخزن عوض صياغته من طرف لجنة منبثقة من الشعب وقواه المناضلة، ولم يلتزم الملك الحياد فقد جيش مشاعر المغاربة وعزف لهم في خطابه المعروف بخطاب ” نعم ” على سيمفونية العهد الجديد والقطع مع مظاهر الاستبداد والفساد والخيار الديمقراطي لذلك فالدستور ليمكن اعتباره دستور شعبي ديمقراطي بل هو في شكله دستور ممنوح وقبل الخوض في مضمونه فإن الغرض من وضع الدساتير في العالم هوالحد من سلطة الحكم الفردي المطلق، إلا أن العالم العربي وأغلب الدول الإفريقية تشد على هذه القاعدة، حيث تنحصر مهمة الدستور في تثبيت وتكريس الفردانية في السطو على مؤسسات الحكم. وهو ما يُعرف بظاهرة “الدستورانية” أي استعمال الدستور الممنوح لتكريس وضعٍ غير دستوري، لم يشارك في وضعه الشعب، يقول الدكتور المهدي المنجرة: “ما دام موجودا عندنا هذا الدستور وهذا النوع من البرلمان لا يمكن أن يحدث التغيير… فالمخزن والحرية وحقوق الإنسان تتناقض، من غير الممكن أن يتعايشوا أو كما قال المفكر الفرنسي ريمي لوفو: “قرأت الدستور المغربي فلم أجد إلا رجلا واحدا هو الملك ” ولن أخوض هنا بمجمل الهراء الذي الذي تناوله الدستور عن الهوية وخاصة اللغة الأمازيغية لسبب واحد أن واضعي الدستور كلهم معروفون بولائهم الأعمى للأعداء الهوية المغربية بشكل عام واللغة الأمازيغية بشكل خاص، ولعل أكبر دليل على هذا هو إخراج القوانين الرجعية التي توضح كيفية ترسيم اللغة الأمازيغية بل وتأجيل بعض الأمور بخصوصها الى أجل غير مسمى. وهذا ما سيجعل اللغة الأمازيغية لغة رسمية ثانوية مؤجلة تمشي على رجل واحدة.
ففي الدستور الممنوح يمكن اعتباره نمودح من المقاربة الكلامية واللعب بالكلمات والمصطحات دون أدنى تغيير في المضمون فهودستور مازال يكرس الحكم الفردي المطلق وتمركز السلط بيد الملك الذي يسود ويحكم كما سنبين فالتفصيل من خلال الخوض بمضامين ومواد الدستور .
ففي الفصل الثاني يقال بأن “السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم”.
هذا الفصل وحده كاف لتأسيس نظام ديموقراطي مدني برلماني حقيقي. فالأمة (أي الشعب) هي صاحبة السيادة ولا أحد غيرها. ولو أن واضعي الدستور لا يكتبون قاعدة لصالح الشعب وبعد حين ينقلبون عليها تماما ك ” طلع تاكل الكرموس نزل شكون قالها لك ” ونفهم من هذا الفصل بأنه مجال لغير المنتخبين لممارسة السيادة والسلطة. ليس هناك أي ذكر للملك ولا للعمال ولا للولاة ولا للفقهاء ولا للأعيان ولا لغيرهم. وبما أن الملك غير منتخب فالمنطق يقول (حسب هذا الفصل) أن لا يمارس الملك أي سلطة أو سيادة وأن يكون دوره شرفيا رمزيا (كما في المَلكيات الأوروبية) وأن يترك السيادة للأمة ويترك السلطة لممثليها المنتخبين.
ولكن لا تستعجلوا!… فبقية فصول الدستور ما بعد الفصل الثاني سيتجند لإثبات العكس. أي لإثبات أن السيادة ليست للأمة ولا لممثليها المنتخبين!
وها هي الفصول 42 و47 و48 و50 و51 و52 و53 و54 و56 وغيرها تفرغ الفصل 2 من محتواه وتبقي السيادة والسلطة العليا في يد الملك أو لدى بعض المؤسسات التي يرأسها أو يعين أعضائها.
تتبث هذه الفصول بأن الذين يحكمون فعليا غير منتخبين وهذا ما يجعل الإنتخابات في المغرب تنتج مجرد موظفين سامين وليس ممثلين للشعب.
تغيير “الوزير الأول” بـ”رئيس الحكومة” هو نموذج من “المقاربة الكلامية” في هذا الدستور. فالنظام المخزني يحاول إقناع الشعب بأن “رئيس الحكومة” قد أصبح رئيسا فعليا للحكومة وللسلطة التنفيذية. بينما الحقيقة هي أن الدستور يؤكد بقاء الملك رئيسا وقائدا فعليا للحكومة ومتحكما بالسلطة التنفيذية. فهو الذي يعين رئيس الحكومة من الحزب الفائز (نظريا يمكن أن يكون أي عضو في الحزب وليس أمينا عاما للحزب بالضرورة) ويعين كل الوزراء، ويعفيهم من مهامهم بمحض إرادته مع استشارة “رئيس الحكومة” (الفصل 47). وطبعا الإستشارة فقط رأيه كيفما كان ليهم، والملك هو الذي يرأس المجلس الوزاري ويحدد جدول أعماله والسياسة العامة للحكومة (الفصلان 48 و49). والملك وحده يصدر الأمر بتنفيذ القانون (الفصل 50).
في الدستور الممنوح لا وجود لفصل حقيقي للسلطات:
فصل السلطات لا وجود له إلا بالإسم. فعبقرية واضعي الدستور هي أنهم يؤكدون على وجود شيء ثم ينسفونه وينسخونه لاحقا بشكل هزلي في فصول الدستور الأخرى. الدستور يزعم أن السلطات مفصولة. ولكن الملك يقود السلطتين التنفيذية والقضائية فعليا (وليس رمزيا)، ويؤثر بقوة نسبية على السلطة التشريعية.
فالملك هو الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية (الفصول 48 و49 و50). له سلطة حل غرفتي البرلمان بعد استشارة غير ملزمة مع رئيس المحكمة الدستورية الذي يعينه الملك (الفصلان 51 و96). والملك يمكن أن يأمر البرلمان بإعادة قراءة مشاريع القوانين (الفصل 95). وخطابه لا يناقشه أي نائب برلماني (الفصل 52). وهو يرأس المجلس الأعلى للأمن ويحدد جدول أعماله (الفصل 54). والملك يرأس شخصيا المجلس الأعلى للسلطة القضائية ويعين رُبُع عدد أعضائه (الفصلان 56 و115). ويعين الملك نصف أعضاء المحكمة الدستورية ورئيسَها (الفصل 130).
يمكن للملك ولرئيس الحكومة ولأي برلماني التقدم بمبادرة لمراجعة الدستور (الفصل 172).
مبادرة رئيس الحكومة لمراجعة الدستور يجب أن تمر عبر المجلس الوزاري (يرأسه الملك) قبل مرورها إلى الإستفتاء الشعبي بظهير ملكي (الفصلان 173 و174). مبادرة البرلمان لمراجعة الدستور (بعد التصويت عليها بثلثي أعضاء البرلمان) أيضا تمر إلى الإستفتاء الشعبي بظهير ملكي (الفصل 174). والملك وحده يمكنه عرض مبادرة لمراجعة الدستور على استفتاء شعبي مباشرة، أي دون المرور بالبرلمان ولا بالمجلس الوزاري (الفصل 172). والملك يمكن له أن يعرض مراجعة بعض مقتضيات الدستور على البرلمان فقط، وفي حالة المصادقة عليها بأغلبية الثلثين تطبق بدون استفتاء شعبي (الفصل 174).
وجاء الدستور الجديد بمزيد من إضعاف البرلمان (الذي يمثل الشعب) بتمكين رئيس الحكومة من حل مجلس النواب (الفصل 104)، بجانب سلطة الملك في حل غرفتي البرلمان.
السلطة القضائية مستقلة (نظريا فقط) عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. ولكن الملك (الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية ورئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية) هو الضامن لاستقلالية السلطة القضائية (الفصل 107).
ولم يحدث أي تغيير في حكم الجهات وبقي الولاة والعمال المعينين من المركز عوض انتخابهم جهويا، مع احتفاظهم بالسلطة العليا في الجهات.
ولم يضمن الدستور تنظيم الإنتخابات والإستفتاءات عبر مؤسسة دستورية مستقلة عن الحكومة وعن وزارة الداخلية المسؤولة عن تاريخ وباع طويل من الشطط والتزوير و”طبخ” الإنتخابات والإستفتاءات.
ليكون فصل السلطات قد ذهب في مهب الريح.
الدستور الممنوح لا يذكر الدولة المدنية ولا يمنع استغلال الدين في السياسة:
لم يتم اعتبار “الحرية” و”حقوق الإنسان” من ثوابت الأمة في الفصل الأول من الدستور.
والدستور تجاهل “الدولة المدنية” تجاهلا تاما.
وليس هناك منع دستوري صريح لاستخدام الدين في السياسة والإنتخابات، رغم التنصيص على منع تأسيس أحزاب دينية (الفصل 7).
وليس هناك تنصيص على حرية العقيدة.
ورغم إيجابية إقرار مجموعة واسعة من حقوق الإنسان (الفصول 19 إلى 35)، إلا أن حرية التعبير والصحافة مقيدة بالخطوط الحمراء المتروك تحديدها لـ”للقانون التنظيمي” (الفصل 28).
في الدستور الممنوح تنعدم سيادة الشعب على العسكر والأمن:
الملك هو القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة ويتمتع بسلطة التعيين في المناصب العسكرية (الفصل 53). في حالة الحرب أو الاضطرابات يعلن الملك حالة الاستثناء ويتخذ كل ما يراه مناسبا من الإجراءات، ما عدا حل البرلمان وإلغاء الحريات والحقوق الأساسية (الفصل 59).
ورغم أن القوات المسلحة مؤسسة عمومية يجب أن تخدم الشعب باعتبارها تتقاضى مصاريفها من أمواله، لا يملك رئيس الحكومة ولا البرلمان (المنتخبان من طرف الشعب) أية سلطة واضحة على الجيش. ولا حتى مناقشة ميزانيتهما ولا الاعتراض عليها ولا الاعتراض على قرار ضرب أو إرسال الجيش لحرب ما ” اليمن نموذجا”
لا يذكر الدستور أي تغيير في تدبير الأمن الوطني وأجهزة المخابرات مما يعني بقاء التدبير في شكله القديم المنغلق.
الدستور الممنوح لا يصلح للشعب:
إذن فهو دستور مكتوب من طرف المخزن وراء أبواب مغلقة، وبمساعدة خبراء من الدوائر المالية العالمية، وأبرز ما أثار انتباهي هو تصريح الرئيس الفرنسي أنذلك فور المصادقة عليه بقوله ” أنه دستور ديمقراطي متقدم ” تمنيت خلالها لو أنتبادل الدساتير فنأخذ الدستور الفرنسي ونعطيه دستورنا الديمقراطي المتقدم. على أي فالوثيقة الدستورية الممنوحة مليئة بالمتناقضات، يكرس العقلية القديمة، عقلية المنع والمنح، عقلية الراعي والرعية، وعقلية التعامل مع الشعب على أنه لم يبلغ سن الرشد.
وفي الأخير وأمام هول السرقة الموصوفة لرغبة الشعب في التحرر والانعتاق كيف يمكن لبرلمان منتخب ولو بشكل نزيه وشفاف أن يطبق برنامجه وأن يدافع عن مطالب الشعب وهو لا يملك أدنى سلطة بين يديه.
إذن تبقى الانتخابات في ظل هذا الدستور مجرد انتخابات شكلية ستفرز برلمانيين شكليين لممارسة التمويه على الشعب من دخل برلمان شكلي بغرفتين شكليتين.
ولأن الذي يحكم بشكل فعلي غير منتخب وغير خاضع للمسألة والمحاسبة ستبقى الحرية والعدالة والكرامة مجرد خطب وحبر على ورق بين صفحات المخزن.
وأحد أهم أسباب المقاطعة الشعبية لأي انتخابات بالمغرب هو الدستور باعتباره غير شعبي وغير ديمقراطي فهو يساهم في تمييع المشهد السياسي بالمغرب مما يجعل المواطن البسيط يعي ويدرك قوانين اللعبة .
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.