الحسين بويعقوبي//
يحظى التعليم في كل الدول المتقدمة بمكانة خاصة وتخصص له ميزانيات مهمة تصرف من جهة على الموارد البشرية العاملة في هذا المجال ومن جهة أخرى على المضمون البيداغوجي و العلمي للمواد المدرسة. ومهما اختلفت السياسات والاستراتيجيات في الدول المتقدمة يبقى الإنسان هو المنطلق و الهدف، وهي فلسفة ورثها الغرب عن عصر الأنوار مند القرن الثامن عشر الذي جعل الإنسان محور كل تفكير ومصدر المعرفة وأساس كل تنمية مما جعل المدرسة/الجامعة في قلب المؤسسات التي تكون الإنسان-المواطن. داخل هذه المؤسسة، تحظر اللغة/اللغات الحاملة للمعارف الملقنة للتلميذ/الطالب كعنصر أساس في كل سياسة تعليمية.
في المغرب، ومند الاستقلال سنة 1956، كان ورش التعليم في قلب النقاشات العمومية وهو ما تؤكده المناظرات المتكررة والندوات الوطنية المنظمة حول الموضوع و سلسلة الإصلاحات المقترحة في كل فترة زمنية واللجان الملكية العديدة والمخططات الاستعجالية المتعاقبة والرؤى الاستراتيجية لكنها لم تصل للنتائج المرجوة لأن موضوع التعليم كان و لازال موضوع صراعات إيديولوجية بين مختلف الفرقاء السياسيين، الشيء الذي جعل “التلميذ المغربي” مجرد فأر تجارب لاختيارات ايديولوجية وسياسية بعيدة كل البعد عن البعد التربوي و التكويني المندمج في إطار سياسة تنموية مستدامة تجعل مصلحة المواطن والوطن فوق كل اعتبار. إن المتتبع للاختيارات اللغوية في التعليم المغربي مند الاستقلال إلى اليوم سيكتشف مدى هيمنة الايديولوجي والسياسي على التربوي و التنموي في علاقة الساسة المغاربة باللغات الأساسية المتواجدة بالمغرب بعد الاستقلال :الأمازيغية (بلهجاتها) والعربية (بلهجاتها) والفرنسية والاسبانية الموروثتين عن فترة الحماية (1912-1956). مباشرة بعد الاستقلال، تمت التضحية باللغة الاسبانية التي كانت مستعملة في الشمال و الجنوب وبذلك تمت التضحية بنخبة مهمة مكونة في هذه اللغة، كما تم إقصاء الأمازيغية بشكل كلي بعد ما كانت موضوع تجربة للتعليم في بعض المناطق الأمازيغية من طرف الإدارة الفرنسية وفي بعض المؤسسات المدبرة ل”الشؤون الأهلية” بهدف تكوين الأطر الإدارية المعدة للعمل في المناطق الناطقة بالأمازيغية، كما لقيت العبرية نفس المصير باستثناء الاهتمام المحتشم الذي تحضا به في بعض شعب اللغة العربية بالجامعة. في المقابل، وقع الاختيار على فرض لغتين، العربية الفصحى و الفرنسية، كلغات التعليم الأساسية. وفي سياق سياسي و ايديولوجي معين تم تبني المبادئ الأربعة للتعليم و ضمنها “التعريب” دون أن يؤدي ذلك، وبعد 60 سنة من الاستقلال، إلى الحد من جاذبية اللغة الفرنسية التي، رغم عدم توفرها على أي وضع دستوري، ظلت اللغة الأساسية للنخبة الاقتصادية والسياسية، ولم تظهر نتائج التعريب إلا على اللغة الأمازيغية التي فقدت الكثير من معجمها ومن مجالات استعمالها وعدد الناطقين بها (حسب المندوبية السامية للتخطيط) قبل أن تظهر حركات اجتماعية تطالب بالحقوق اللغوية و الثقافية الأمازيغية وتمكنت من إعادة النقاش حول مكانة اللغة الأمازيغية في النظام التعليمي المغربي، بل واستطاعت أن تعيد نسبيا هذه اللغة إلى قاعات الدرس مند 2003 واكتسبت مند 2011 صفة “لغة رسمية” للدولة المغربية مثلها مثل العربية التي احتفظت بصفة “اللغة الرسمية”. يأتي هذا النقاش متزامنا وسياق العولمة الذي فرض لغة أخرى وهي الانجليزية التي لا مفر منها مستقبلا.
إذا كان المغرب عبر تاريخه الطويل بلدا متميزا بالتعدد اللغوي وتعايشت فيه عبر قرون بطريقة خاصة وفي ظل البنيات التقليدية المتواجدة، فانه مطالب اليوم بوضع سياسة لغوية مبنية على أساس واضح يعطي لكل لغة وضعها الاعتباري اعتمادا على معايير معينة. إذا كانت اللغات متساوية علميا من منظور لسني وأنثروبولوجي، باعتبارها جميعا مجرد “دال” و”مدلول” باستعمال الخطاب اللسني وأداة تواصل ذو حمولة ثقافية ورمزية حسب المنظور الأنثروبولوجي فإنها تجد نفسها اجتماعيا في تراتبية لا تتحمل فيها أي مسؤولية بل هي نتاج تطور المجتمع الذي جعل بعض اللغات بسبب عوامل عدة تدخل مجالات جديدة وتنتج معارف حديثة في حين لم تصل لغات أخرى لذلك، وهو ما جعل قيمة اللغات تختلف في سوق الممتلكات الرمزية دون أن يفقدها ذلك قيمتها كموروث إنساني يجب المحافظة عليه وهو ما تدعوا إليه منظمة اليونيسكو مند اتفاقية 2003.
أمام هذا الوضع المتسم بالتعدد اللغوي، وهو ما عبر عنه دستور 2011، وبعيدا عن المزايدات السياسية و الإيديولوجية التي كان التعليم ضحيتها لمدة عقود أرى أن اللغات الأساسية المستعملة في المغرب اليوم يمكن تقسيمها إلى صنفين، مع ما يحمله هذا التصنيف من مغامرة، وعلى هذا الأساس يجب التعامل معها في النظام التعليمي المغربي. نسمي الصنف الأول ب”لغات الهوية” ويضم الأمازيغية (بلهجاتها) والعربية (بلهجاتها) والصنف الثاني نسميه “لغات التكنولوجيا” ويضم أساسا الفرنسية و الانجليزية مع فتح المجال لتعلم لغات أخرى (الاسبانية والألمانية واليابانية…) في مؤسسات معينة لتكوين متخصصين في هذه اللغات. بالنسبة ل”لغات الهوية”، فالأكيد أنها تحمل حمولة ثقافية وعاطفية كبيرة ومن خلالها نرى أنفسنا والعالم وهي وعاء ما نسميه بالهوية الوطنية، إضافة لأهمية “اللغة الأم” في نجاح كل تعليم وبالتالي يجب أن يضمن النظام التعليمي كل شروط تعليم هذه اللغات وتطورها واستمرارها بين الأجيال سواء كلغة للتعليم أو التعلم مع تحديد طبيعة المواد التي يمكن أن تدرس في هذه اللغة أو تلك. أما “لغات التكنولوجيا” فقد فرضتها علينا الثورة الصناعية و المعلوماتية والعولمة رغما عنا وهي نتاج تطور مجتمعاتها الذي أعطاها السبق إلى إنتاج معاجم ومعارف جديدة وتمكنت بفضل ذلك من توسيع مجالات استعمالها وبالتالي يجب أن يتم التعامل مع هذه اللغات في هذا الإطار، وبحس براغماتي، أي كلغات التطور التكنولوجي والانفتاح على العالم، وهو ما يفرض توسيع مجال استعمالها والمواد المدرسة بها، بما في ذلك بعض العلوم الاجتماعية.
إن عبارة “لغات الهوية” المستعملة هنا لا تحيل على هوية مغلقة قد تؤدي ل”هوية قاتلة” بل إنها هوية منفتحة قادرة على أن تجعل ل”لغات التكنولوجيا” مكانا داخلها بحكم تداخل هذه الأخيرة مع لغات الهوية وتأثيرها في طبيعة التمثلات التي نخلقها عن أنفسنا و عن الآخرين. إن استعمال العبارتين، “لغات الهوية” و”لغات التكنولوجيا”، تمليه فقط دواعي منهجية للمساهمة في النقاش حول مكانة كل لغة في نظامنا التعليمي علنا نخرج من المقاربات الإيديولوجية التي تحكمت في هذا الموضوع إلى اليوم والتي تؤدي إلى فشل كل مشروع تنموي. إن المتتبع لميولات مختلف فئات المجتمع المغربي في علاقتها باللغات سيستنتج بدون عناء كبير التعارض الواضح بين ما يختاره الساسة علنا ويدافعون عنه على مستوى السياسات العمومية في مجال التعليم (التعريب) وما يختارونه عمليا لأبنائهم (الفرنسية و الانجليزية) وهو ما تقلده أيضا الطبقات الوسطى و حتى جزء من الطبقات ذات مستوى العيش المحدود حين تختار تسجيل أبنائها في المدارس الخاصة أوفي مدارس البعثات الأجنبية وتشجيع الأبناء على التسجيل في المراكز الثقافية الفرنسية أو الانجليزية. إن المنطق البراغماتي الذي تحكم في اختيارات النخبة في علاقتها باللغات المتداولة في المغرب هو نفسه الذي يتحكم في اختيارات باقي الفئات الشعبية دون أن يعني ذلك عدم حبها للغاتهم المحلية ذات الحمولات العاطفية و الهوياتية الكبيرة.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.