وكيم الزياني//
منذ إنطلاق إنتفاضة الريف المعاصرة على خلفية “طحن” شهيد الحكرة والكرامة ولقمة العيش “محسن فكري” في حاوية النفايات بمدينة الحسيمة بشكل إجرامي بشع يوحي إلى الكثير من السلطوية والظلم تجاه أبناء المنطقة في عقلية السلطة، منذ ذلك اليوم كتب وقيل الكثير عن هذه الصرخة الريفية في وجه الظلم والحصار العسكري المفروض منذ فجر “الإستقلال الشكلي” على المنطقة، ورغم أن أغلب الكتابات تناولت الموضوع من خلال مقاربة المطالب المطروحة من ساكنة الريف المنتفضة وكذا من خلال طبيعة الإحتجاجات الراقية الحضارية والسلمية التي إختارتها الساكنة كأسلوب ومنهج في الدفاع الذاتي عن نفسها ومن أجل انتزاع حقوقها.
في هذه المقالة المتواضعة سنحاول أن نقف لهذا الموضوع من خلال مقاربة غير المقاربات السابقة ذات التحليل التاريخي لصراع الريف مع المخزن وإفرازاته وإنعكساته ومدى توغل هذه المقاربة في عقل الذاكرة الجماعية عند الريفيين، وبعيدا كذلك عن مدى وجود ارادة سياسية حقيقية للقطع مع ماضي سياسات المخزن بالريف بكل انتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان.
ينطلق أغلب السوسيولوجيين عند دراستهم للحركات الإجتماعية “الإحتجاجية” من قاعدة تقول بضرورة وضع ذات الحركات في سياقاتها السياسية العامة التي برزت فيها وسياقات تطورها أو فشلها وإفشالها أو كبحها والتضييق عليها.
لذلك حتى تتضح الصورة، ومن أجل فهم ما يحاك ضد الحراك بالريف لا بد منا الوقوف عند “خيارات السلطة” التي يواجهها الحراك، والسياسات التي تنهجها للحفاظ على توازناتها السياسية من داخل النسق وفي المجتمع، وكذلك لفهم لب الإشكالات التي تطفوا على سطح الأحداث ويتأكد أن للجهات “حزبية سياسية” يد في صناعتها، من أجل هذا لا بد من وضع الحراك الشعبي في سياقه الصحيح وذلك بربط بعض الخطابات ب “تكتيكات السلطة” من حيث التغير والتجديد حسب استمرار الحفاظ على مصالحها الكبرى.
ولأجل ذلك سنعود بكم قليلا إلى الوراء، لنستحضر تجربة من تجارب النظام المخزني التي حاول أن يخلق من صناعتها توازنا سياسيا داخل نسقه السياسي، وهنا سنتحدث عن تجربة “الحركة لكل الديمقراطيين” التي كان وراء تأسيسها عراب القصر “فؤاد علي الهمة” بهدف تكسير التوجه إلى “الحزب القوي” (حزب الإستقلال المتوغل في دوالب الدولة والمؤسسات، وحزب العدالة والتنمية المتوغل في المجتمع) جاءت هذه الحركة وحرثت الفعل والمشهد السياسي بالمغرب وإستقطبت الأنصار من أقصى اليمين لأقصى اليسار، بالإضافة إلى إحتواء بعض معتقلي سنوات الرصاص بهدف إدماجهم في العملية السياسية، وكذلك إستقطبت رجال أعمال كبار ذات سوابق التورط في قضايا الفساد، وبعض أباطرة المخدرات وكل هذا تم تحت أعين ملفات وزارة الداخلية، فمهندسو الفكرة كانوا يخططون لشيء غير “الحركة” المؤسسة ذاتها، بل كان مهمتهم خلق توازنات السياسية بإضعاف الأحزاب القوية، ومن أجل إعداد ل “بديل سياسي” يمكن أن يمارس “التدافع السياسي الحزبي” الذي تريده السلطة في معركة الأحزاب بينها، ومن هناك سيولد “حزب الأصالة والمعاصرة”.
سنأتي للحديث عن انعكاس “توازنات السلطة” وانعكاس صراع الأحزاب على مستوى الحراك الشعبي السلمي بالريف. لكن قبل ذلك ولكي نفهم جيدا بعض سياسات المخزن اليوم تجاه الإحتجاجات الشعبية السلمية بالريف بعد أزيد من ستة أشهر من إنطلاقها، لا بد منا أن نخوض تحليلها من جانب تلون السلطة حسب كل مرحلة على حدى، وخاصة أن “التجربة السياسية” التي أسسها لها المخزن لخلق توازنات سياساته بدأت تتراجع اليوم ولم تنجح كما خطط ليها مهندسو سياسة المخزن.
إبن القصر أعد تجربة “البام” من أجل قيادة “العمل السياسي الحزبي” سنة 2012 وبعد إنتخابات سنة 2007 التي عرفت أضعف نسب المشاركة مقارنة مع الإنتخابات السابقة وبالأخص في العالم القروي. إلى أن رياح “الربيع الديمقراطي” الذي إنطلقت شرارته من تونس بعد إحراق البوعزيزي لنفسه، غيرت الكثير من حسابات صناع القرار السياسي بالمغرب، وبالأخص بعد إسقطاء حكام وأنظمة في دول الجوار وزحف الإسلامويين على قطف ثمرة الربيع الديمقراطي، الذي سيتحول فيما بعد بكثير من البلدان إلى خريف وجحيم ودمار يومي. بعد قيادة الإسلامويين للحكم والحكومات في مجموعة من البلدان المغاربية والعربية، وخروج حركة 20 فبراير بالمغرب رافعة صور قيادات “حزب للأصالة والمعاصرة” تطالبها الرحيل عن مراكز القرار والمسؤولية وتقديمها للعدالة بسبب تورطها في مجموعة من قضايا الفساد، أمام هذا باء الهدف من صناعة “البام” يخفق شيئا فشيئا، لذلك فمن أجل الحفاظ على توازنات السلطة كان على مهندسيها سحب هذا الحزب للوراء، وإعطاء فرصة للإسلاميين لقيادة حكومة 2011، وبالأخص أن “العدالة والتنمية” بالمغرب كانت تهدد وتشتكي بأن “الدولة قامت بتزوير إنتخابات 2007″، أضف إلى ذلك دور الذي لعبه هذا الحزب الأخير الذي كان يقدم نفسه هو منقذ المخزن من غليان الشارع المغربي، وإن لم يتصالح المخزن مع الحزب بتصحيح خطأ 2007 سينتقمون عبر الإلتحاق بالشارع.
في إنتخابات 2016 عمل مهندسوا المخزن على صناعة “قطبية حزبية” لدا الرأي العام، قطب تقوده “العدالة والتنمية” وآخر تقوده “الأصالة والمعاصرة” تيار يقدم نفسه “محافظ” وتيار آخر “حداثي” وما بقي من الدكاكين الحزبية تتوزع بين هذا وذاك.
كان أمل المخزن يعول على إعادة تجربة “الفلاح المغربي المدافع عن العرش” بلغة ريمي لوفو، وبالأخص في ظل توغل “البام” في مناطق الهامش، حيث فضل أن يقدم هذا الأخير نفسه على أساس صوت الهامش ليس بالفهم المناطقي فحسب بل حتى بالفهم السياسي “خطاب الهامش”. إلى أن نتائج “إنتخابات” 2016 جاءت عكس ما كان يريد مهندسو السلطة بالمغرب.
قبيل التأكد من نتائج الإنتخابات أعلن “حزب البام” التشبث بالمعارضة، وإنسحب من المشهد السياسي وكأن هذا الحزب لم يكن ك “قوة حزبية قطبية” مما يحيل أن هناك شيء ما ليس عاديا في حسابات مهندسي سياسات المخزن.
نداء على “أخنوش” ليلعب الدور الذي فشله فيه العماري، ووضعه على رأس الأحرار هي رسالة واضحة على أن الحزب الذي أعده المخزن لحفظ توازناته منذ سنة 2009 لم يعد يستطيع القيام بذات المهة، لذلك ما فشله فيه “البام” يمكن أن ينجح فيه “أخنوش الأحرار” من داخل الحكومة نفسها، بالإضافة إلى إبن الداخلية “حصاد” الذي يستعد لقيادة الحركة الشعبية. البحث عن لاعبين جدد من مهندسي سياسات المخزن رسالة تلقاها “البام” وعلى رأسه العماري بنوع من التحفظ حتى وإن لم يطفوا ذلك على مستوى الرأي العام، إختيار الإنسحاب من المشهد السياسي قبيل إعلان النتائج، وعودة البام للبحث عن موقعه مؤخرا بما أسموه “حكومة الظل” من شفرات فك تغير سياسة مهندسي المخزن.
ربما سيقول الكثير أن هذه المعطيات ليس لها أدنى علاقة مع “الحسابات السياسية” للسلطة في الريف من خلال حفظ توزناتها في علاقتها ب”الأحزاب” من جهة، وبين صراع “الدكاكين السياسية” نفسها التي تبحث عن التموقع من داخل ذات التوازنات من جهة أخرى.
لذلك سنحاول أن نبين ذلك من خلال:
– حزب “البام” منذ تأسيسه وبفضل “قياداته الريفية” المنخرطة فيه -إن لم أقل المؤسسة للحزب- كان يقدم نفسه إلى مهندسي سياسات المخزن على أنه هو “المنقذ” الذي يمكن ممارسة سياسة التدجين والتركيع والإحتواء للقوى الحية المشتغلة في الميدان بالريف سواء المدنية منها أو السياسية والحقوقية والثقافية، وكذا استحواذ التحكم في القطاعات الإقتصادية الحيوية، وبالفعل نجح في ذلك إلى حد كبير. حيث خلق لنفسه تنظيمات موازية في مختلف القطاعات والمجالات والمستويات من أجل تصريف سياساته وسياسة ما يعرف ب “العهد الجديد” بالريف.
– بفضل تموقعه هذا إستطاع حزب “البام” أن يقدم نفسه إلى الرباط كوسيط بين الريف والمركز، ويستطيع إطفاء جميع الإحتقانات الإجتماعية والحركات الاحتجاجية الشعبية بالريف، وذلك بفضل النفوذ التي خلقها لنفسه أو خلقت له من مهندسي السلطة بالريف، نفوذ تتحكم في أغلبية القوى المجتمع المدني، كما خلق لنفسه لوبيات إقتصادية محلية، إستقطاب مافيا العقار وأباطرة المخدرات وغير ذلك.. ولا ننسى أن بعض تلك “القيادات الريفية” المنتمية للحزب لعبت أدوار جد مهمة وكان لها يد في إطفاء شرارة الإحتجاجات بعد زلزال 2004، وإحتجاجات الحراك العشريني بالحسيمة سنة 2011 وبالأخص في أيث بوعياش التي راح ضيحتها عشرات المعتقلين السياسيين، وجريمة قتل الشهيد “كمال الحساني”.
– وأمام إكتساح هذا “الحزب” للمشهد الإنتخابي بالريف سنة 2011 و 2016 بطرق مشروعة وغير مشروعة تأكد مهندسي سياسة المخزن بالريف وفي الرباط بأن الحفاظ على التوازنات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالريف لا يمكن أن تنجح بغير هذا الحزب.
– إلا أن هذه المعادلة ستتكسر أمام إنتفاضة الريف المعاصرة والتي إنطلقت بعد جريمة قتل شهيد لقمة العيش “محسن فكري” بمدينة الحسيمة، أزيد من ستة أشهر من الإحتياجات الراقية، لم تستطيع السلطة بمختلف سياساتها احتوائها، وتأكد عند مهندسيها بفشل من أعدوه خصيصا لذلك منذ سنوات في دواليب القصر من أجل مهمة الحفاظ على توازناتها بالريف والصحراء خاصة والمغرب عامة.
– “الوافد الجديد” الذي كان يقدم نفسه للرباط ب “المنقذ” و”المتحكم” رغم لوبياته السياسية والمدنية لم يستطيع إحتواء غضب ساكنة الريف المنتفضة من بدايته، والفضل يرجع إلى نشطاء وناشطات الحراك وعلى رأسهم أيقونه الريف ناصر الزفزافي، حيث بيقضتهم إستطاعوا بالفعل أن يحصنوا الحراك من المتربصين، وأقفلوا الأبواب في وجه الدكاكين السياسية، وإستطاعوا أن يكسبوا الرهان في الشارع عبر التواصل مع مختلف ساكنة الريف بالخطاب الشعبي البسيط الذي تفهمه الجموع، وأخءهم الحذر من “رجال المطافئ” الذي سبق وأن لعبوا أدوارا خبيثة في إطفاء مجموعة من الإحتجاجات الشعبية بالريف بالمساومات لصالح السلطة ومصلحتهم الخاص الضيقة. وكذا توعية الجموع بأن معركتهم هي معركة مع المخزن وضد الحكرة التي قتل بها سماك الحسيمة “محسن فكري”، ومعركة من أجل كرامة الريفيون وحقهم في العيش الكريم.
فبعد أن تأكد مهندسي سياسة المخزن بالريف أن الأطراف المعول عليها لإحتواء هذا الغضب الذي لم يتوقف إلى حد الآن وبل يتسع رقعته ويتمدد ليشمل جل مدن ومداشر وقرى الريف، ليس لها وسطاء لهم صلة بالجماهير يمكن أن يقوموا بتحوير الحراك والتحكم فيه وتوجيهه في أفق فرلمته، بعد هذا إختارت السلطة “سياسة الإعفاءات” لمجوعة من المسؤولين، ليس لكون المعفيين متورطين في قضايا الفساد والشطط في إستعمال السلطة والتجاوزات الحقوقية في حق الساكنة. بل الواقع أشمل من ذلك، وهي رسالة تأكد فشل هؤلاء في تقاريرها المقدمة لوزارة الداخلية والجهات العليا بالبلاد، وهي رسالة كذلك إلى أن معادلة الحفاظ على توازنات السلطة القديمة لم تعد تجدي نفعا.
أكبر خاسر من إنتفاضة الريف المعاصرة من الدكاكين السياسية بالريف هو حزب “البام” لذلك اليوم يعمل بكل جهده حفظ ماء الوجه وإستعادة موقعه “داخل الحسابات السياسية عند السلطة” بعد أن بدأت تطفوا على المشهد بوادر التخلي عنه وطنيا بالبحث عن وسطاء سياسيين خارجه وصناعة وسطاء جدد من داخل المشهد السياسي الحزبي.
بلاغ إستعداد جهة طنجة تطوان الحسيمة الأول للحوار من أجل تحقيق مطالب الحراك، وكذا بلاغ دعوة أتباع “البام” للإنخراط في الحراك الشعبي والمشاركة في الاحتجاجات، وتسريب ما عرف ب “حركة ضمير” كإطار موزاي بجانب الحراك، وبعض كتابات قيادات الحزب على مستوى الريف وتصريحاتهم.. كل ءلك يراد منه قلب معادلة “البام” الخاسر الأول من الحراك سياسيا إلى المستفيد الأول منه.
هذه بعض الأفكار التي نراها من الضرورث أن نتقاسمها مع نشطاء وناشطات ومتتبعي الحراك الشعبي بالريف حتى نفهم جيدا طبيعة بعض السياسات التي تتعامل بها السلطة بالريف مع الحراك ونشطاءه وبعض المواقف التي تأتي من هنا وهناك على خلفية ذلك ومن أجل أخذ بعض الأمور في سياقها السياسي العام بدل تحكيمها للواقع الإقليمي والجهوي فقط. وتأكيد الحديث عن “حزب البام” على غرار إستبعاد الأحزاب الأخرى الممارسة في الريف في هذه المقالة جاء من باب أن هذا “الحزب” كان يقدم على أنه هو “البديل السياسي” الذي يمكن أن يلعب دور الحفاظ على “توازنات السلطة” في الدولة والمجتمع.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.