الملح بين المقدس والمدنس!

عبد الكريم أضرضور

عبدالكريم أضرضور//

علاوة عن كون الملح مادة غدائية  فهو يعتبر سلعة تجارية  على مر العصور ،وقد بذلت الجهود في الحصول عليه، تارة على مستوى استخراجه من معادنه في الأرض، واخرى بتجفيف مياه البحر لصناعته ،ولتجارة القوافل دور بالغ في تداوله بين مختلف المناطق بأواسط افريقيا، كما لا يخفى  دوره في حرب الاستقلال ضد الإمبراطوية الانجليزية التي لا تغيب عنها الشمس المترامية مستعمراتها حيث كان الملح مادة معتمدة ، واستخدمه الهنود ورقة ضغط على أركان سياستها الاستعمارية ، وقبل ذلك وخلال معاركهم   فحين ينتقم فرد من قبيلة البيما من عدوه  بقبيلة الاباتشي يعود الى بيته ممسكا عن تناول الملح والمضاجعة لأسبوع كامل!!

ولما تقدم من شأن الملح في معاملاتهم الاقتصادية  ،احتل كذلك مكانة رمزية، حيث عظّمته الامم  كما قدست الماء، وفي  المسرح الياباني  يرش الملح على الخشبة قبل العرض ليحمي الممثلين من الارواح الشريرة، أما اهل الحبشة فيقدمون قطعا  من صخور الملح  ترحيبا بالضيوف ؛ طقوس للتطهير من الدنس، و يرى هوميروس انه مادة إلهية، وهو  أعز المواد الى قلوب الالهة  في نظرافلاطون ،مقام يتسنمه الملح في طقوس معتقدات الامم واعمال السحر لدى الشعوب ، تصور عجيب انتشر في كل بقاع الارض،ميل انساني تجاوز كل عادة وتقليد، تشير المصادر التاريخية الى ان الرومان يطلقون على الرجل العاشق رجل مملح “salax” ومنها اشتقت كلمة بالانجليزية “salacious” ، في جبال  Les alpes bernoises يذهب العروسان الى الكنيسة وجيوبهما اليسرى ملأى ملحا لكي يتقيا شر ضعف القدرةالجنسية ،وفي مناطق قروية بفرنسا تحمل العروس إناء مملوءا بملح لحظة الزفاف، في احدى خطاباته أشار شارل ديغول ميل الامة الفرنسية الى العصيان قائلا :”من الصعب السيطرة على امة تأكل 265 نوعا من الجبن ” فاراضي فرنسا تشكل توليفة متعددة من ثقافات وأراضيها تشبه مضلعا سداسيا غنية بصخور الاطلسي وتدفق ينابيع المتوسط ،زينت موائد ممالكها وقتئذ باطعمة مملحة ففي القرن السادس عشر ،قدم النحات الايطالي بينيفينتو سيلليني  مملحة  للملك الفرنسي فرانسوا الاول المغرم بالفن والحرب،على هيأة وعاء للملح ،فحضور الملح على الطاولة مظهر  الغنى  ،وملحت الطبقات الاجتماعية كلها أطباقها،  ولدى الجرمان ينثر الملح  على حذاء العروسين، يمتنع الرهبان في مصر القبطية  عن أكل الملح خشية أن يحرك شهوتهم الجنسية ، و عند العرب فشأنه عظيم ، ولعل ما يوحي به  الأصل اللغوي “ملحة” تنصرف لدلالات مثيرة ، فالملح غذاء، ويقال فلان ملح الطعام أي أنه زينة المجالس، وحديثه ممتع، وشبيه دلك أن الملح  يضفي مذاقا لذيذا على الطعام ،والملح علاج  فصلاح الدين عالج ريتشارد الصليبي  بالملح الممزوج أعشابا ،يؤكد  جدر كلمة(ملح) مكانة الملح في أنفسهم، ودروجه في الذاكرة الشعبية، فاشتقوا منه لعلاقات بلونه وبطعمه وبمائه معان كثيرة ، علاوة عن طيب تنهض به حاسة الذوق، فقد صرفوا ذلك إلى طيب من نوع آخر، تنهض به حاسة البصر، وهو الحسن والجمال من قولهم: فتاة مليحة على نحو  قول الشاعر:
قل للمليحة في الخمار الأسود******* ماذا فعلت براهب متعبد؟

والملاحة هنا بمعنى الحسن والجمال، و لاستخراجه  من ماء البحر، أو الشطوط ، أطلقوا اسم “الملاحة” على المكان ،ولما كانت السفن والبواخر تبحر فيه، وكان بحارتها ينزلون فيه من حين لآخر، يجف ماؤه عنهم، ويبدو اثارملح دقاق عليهم ، سمي الواحد منهم “ملاح” وبذلك سميت ملاحة بحرية،  ولزرقة الفضاء وأخده لون البحر، وانعدام العلامات فيه، لم يجدوا حرجا في إطلاق الكلمة نفسها (الملاحة) على الطيران ، فقوبلت ملاحة الجو بملاحة البحر.
اما عند الامازيغ ففائدة الملح لا تعدو  انزياحا عن عموم التصور ، ولما كان دوره يسرّع إخراج الماء من اللحم، والماء سبب العفونة في كل شيء ،كما أنه سبب الحياة في كل حي، أخذوا برش الملح على الجلود أول سلخها، حيث يحول دون تعفنها ،وكثيرا ما عظموه كالماء والخبز، ولعل في هذا ما يفسر تصرف الاهالي ، إذا سقط بعض الملح على الأرض، سرعان ما يجتهدون في التقاطه، وان لم يفعلوا  فالعقاب في اعتقادهم التقاطهم له عن صخور جهنم بأهداب العيون ،  اعتقاد ساد في قرى سوس إلى عهد غير بعيد. وبما ان الملح مادة حافظة مضادة للتعفن،  فهم اول من استخدم الملح لحفظ القديد وهو اللحم المملح المجفف، وكثيرا ما يرشون عتبات البيوت بالملح حماية من الاشرار وهوام الليل ،ولا تخلو تمائمهم منه ممزوجا بعشبة الحرمل وغيرها، واثناء موسم الحصاد بعد أن يذر الفلاح زرعه وينقيه من التبن ،ينثر ملحا مسحوقا عليه قمحا كان ام حنطة.. مدعاة للاطمئنان  أن تبدو إلينا معتقدات الآخرين  غبية، جوفاء من كل منطق  ، حينها نرى  بالمنظار ذاته كثيرا من ارثنا الثقافي ،وعاداتنا اليومية وبالأخص منها سلوكنا التي كبرنا معها وعظم ترسيخها فينا انها شديدة الغرابة !!


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading