المسلسل الأمازيغي “بابا علي” وسؤال الإبداع والفرجة 

أزول بريس – أحمد إدوخراز //

أكيد أننا نسجل عددا من الهفوات الفنية والجمالية والتعبيرية على هذا العمل الإبداعي، لكنه يبقى إضافة نوعية إلى الريبرتوار الفني الإبداعي الأمازيغي.

بداية، هذه مجرد كلمات بسيطة في إطار التفاعل العفوي كأي مشاهد أو متلق، ولا يمكن اعتبارها ـ منهجيا ـ قراءة نقدية للمسلسل لأنه من غير المعقول ولا يستقيم بالمنطق العلمي أن نتناول بالنقد عملا فنيا لم ينته عرضه بعد، ولأنني لا أملك الأدوات العلمية للممارسة النقدية، ولست مؤهلا لذلك.
أول ما ينبغي تسجيله وتثمينه بشأن المسلسل الأمازيغي” بابا علي ” والذي تبث القناة الثامنة “تامازيغت” حلقاته كل يوم خلال شهر رمضان 1442/2021 بعد الإفطار، ويستوجب أن نفرح به كمحبين للإبداع الأمازيغي ومشجعين له وداعمين معنويين له هو أن يجد الفنان الأمازيغي فرصة اشتغال وأيام عمل تعوضه ولو نزرا قليلا مما ضاع منه في زمن كورونا بسبب الإجراءات الاحترازية والشروط الوقائية التي فرضها قرار الحجر الصحي بسبب جائحة كوفيد19. طبعا، وللأسف الشديد، ليس كل الفنانين، ولكن المسلسل استوعب عددا مهما منهم سواء محترفين أو هواة وحتى ثانويين(كومبارس)، رغم أن الأجور مرة أخرى عرفت إجحافا يعكس استمرار التعامل التمييزي تجاه الفنان الأمازيغي مقارنة مع أخيه المغربي الناطق باللغة العربية، فالأجور والتعويضات حسب الجدول المتسرب والمنشور إعلاميا لا تكفي ولا توفر للبعض حتى قوت وتكاليف العيش لمدة شهر.

 

المسلسل الأمازيغي بابا علي وسؤال الإبداع والفرجة 
المسلسل الأمازيغي بابا علي وسؤال الإبداع والفرجة
كنا نود أن يحتضن المسلسل بعض الفانين الذين يعيشون وضعية اجتماعية بل إنسانية محرجة. نموذجا، الفنان الكوميدي المقتدر مبارك العطاش ولو من باب التقدير له والتكريم ورد الاعتبار بغض النظر عن كل المشاكل المهنية والمواقف النفسية التي تطفو على السطح الفني الأمازيغي.
أهم العناصر الإبداعية التي تشكل قوة لهذا العمل الفني الكوميدي ـ رغم أنه ووجه بكثير من التنقيص والنقد اللاذع، وأثيرت حوله ضجة كبيرة على واجهات مواقع التواصل الاجتماعي ـ هو اشتغاله على الموروث الأدبي الإنساني من خلال الحكاية العربية: ‘’علي بابا والأربعون لصا’’، وهي من الحكايات الملحقة بالمصنف الأدبي التراثي “ألف ليلة وليلة”، والذي هو في أصله تجميع وترجمة لحكايات من غرب ووسط وجنوب آسيا وشمال أفريقيا، وتعود هذه الحكايات إلى القرون القديمة والوسطى لكل من الحضارات العربية والفارسية والهندية والمصرية وبلاد الرافدين، يعني أنها إرث إنساني، وبالتالي لا أرى مبررا للتحامل عليه باعتباره مجرد نسخة طبق الأصل، مع أنني أعدت قراء النص الأصلي فوجدت تصرفا كبيرا في أحداث الحكاية وفي شخصياتها. لا ننسى هنا أن نذكر بأن حكاية “بوتفوناست” أو صاحب البقرة التي كان الفنان الكبير الرايس محمد أبعمران تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جنانه يحكيها في فضاءات الحلقة قبل أن تتحول إلى فيلم فيديو هي نفسها تمتح من هذا الموروث الحكائي. إننا في مسلسل بابا علي أمام حالة إبداعية معروفة في الحقل النقدي الأدبي بمصطلح “الاستنبات”. والاستنبات حاضر بقوة في الإبداع الأدبي والدرامي، ونجده بشكل أكثر جمالية في المسرح، ولعل النموذج الناجح مغربيا في الاستنبات هو الكاتب والفنان الأستاذ محمد قاوتي الذي اشتغل على نصوص عالمية، وقام بتكييفها مع النسق الثقافي المغربي بشكل يتجاوز الاقتباس النمطي ومجرد التعريب نحو محاورة النص الأصلي، وإفراغه في بنية ثقافية مغربية أصيلة. فمفهوم الاستنبات لديه هو بمثابة إنتاج نص جديد من معطيات سابقة في سياق اجتماعي جديد. وعلى سبيل المثال مسرحية «سيدنا قدر»، هي استنبات لمسرحية «في انتظار غودو>> للمسرحي رائد الاتجاه أو المدرسة العبثية صامويل بيكيت، ثم جاء تعامله مع مسرحية «بونتيلا وتابعه أو وخادمه ماتي» للكاتب للمسرحي الألماني برتولد بريخت، وصيرها – انطلاقا من مفهوم الاستنبات – مسرحية مغربية مائة بالمائة لا علاقة لها بالثقافة الغربية التي أنتجت النص الأول، وسماها «بوغابة» التي عشنا فصولها مع فرقة مسرح اليوم بقيادة المخرج المسرحي عبد الواحد عوزري والفنانة سيدة المسرح العربي الأستاذة ثريا جبران تغمدها الله برحمته الواسعة وأسكنها فسيح جنانه.
نفس الأمر ينطبق على المسلسل الأمازيغي “بابا علي”، فنحن أمام كتابة جديدة أو ولادة جديدة لنفس الحكاية ولنفس النص الحكائي أو ما يعبر عنه جماليا ونقديا بالاستنبات، وهو في حد ذاته تحد إبداعي لا يطيقه ولا يستطيعه الجميع، ويحتاج إلى ذكاء وإمكانيات خيالية وجمالية وإبداعية، فهو يعتمد ميكانيزمات تمنح النص الأصلي جنسية جديدة وتوفر له تربة يدخلها بذرة تنفلق وتتبرعم لتعطي نباتا إبداعيا جديدا يتطهر ويتخلص من كل الخصوصيات الثقافية للنص الأصلي. وهذا نفسه ما حدث في “بابا علي” مع الفنان المبدع ابراهيم علي بوبكدي والظاهرة الإبداعية الأمازيغية أحمد نتاما بتقديمهما لقيمة حكائية جديدة، من خلال إطار تَحَرُّكِ الأحداث وعبر كل مكوناته بدءً بالمجال بزخمه البصري(المجال القروي الأمازيغي بكل خصائصه الطبيعية ومعماره الأصيل وبنيته المجتمعية التقليدية بمنظومة قيمها وعاداتها وعلاقاتها…)، مرورا باللغة في أصالتها وغناها وبنيتها التركيبية وقدرتها التعبيرية حيث تم توظيف الموروث اللغوي الأمازيغي الأصيل على مستوى الحوار والتعابير التواصلية وعلى مستوى استحضار رصيد شفوي هائل من الحكم والأمثال والأقوال، وعلى مستوى أسماء الأشخاص مع نفَـسٍ أماكيني(طوبونيمي) لمجموعة من الأماكن المشكلة لفضاء المجال القروي الذي تدور فيه أحداث المسلسل، وعلى مستوى القيمة الإثنوغرافية حيث استلهم المسلسل الثقافة الشعبية الأمازيغية التي تغذي تمثلات ومعتقدات أبطاله وحتى بعض العناصر الأسطورية، مع تجنب السقوط في الفولكلورية.
المسلسل يعرف كذلك زخما فرجويا جاذبا للمشاهد والمتلقي، وفيه صناعة إبداعية احترافية للوحات الساخرة والمواقف الكوميدية التي تنتزع الضحكة من الأعماق، وينتظرها الجمهور يوميا للاستمتاع بها والانفلات بها ولو لحظيا من ثقل واقع تخنقه الأزمة وترهق كاهله كثرة الضغوطات والتناقضات.
من الميزات الإبداعية والوحدات الجمالية التي تضمن لهذا العمل الفني مستوى مشرفا من المتابعة والمشاهدة وبالتالي من النجاح، إضافة إلى التكثيف في الحركة والحوار والحدث والإيقاع، هناك النظافة الأخلاقية التي تجعل منه مسلسلا عائليا تتفاعل فيه مكونات الأسرة والعائلة الممتدة، وتتقاسم فيه متعة الفرجة الخالية من كل الشوائب والانزلاقات المجانية التي غالبا ما تستر عورة الضحالة والإفلاس الفني. ولعل ذلك هو ما منحه مؤشرا من مؤشرات القوة الإبداعية والمتمثل في قدرته التواصلية التي مكنته من استقطاب مشاهدين مغاربة غير ناطقين بالأمازيغية(فالإبداع لا لغة له) أمام مساحات التفاهة التي تعج بها قنوات أخرى.
بالنسبة للتشخيص وإدارة الممثل، أسجل بداية تنويها بالمستوى الإخراجي الذي أشرف عليه المخرج المغربي مصطفى أشاور بعد أن راكم تجربة إخراجية تستحق التقدير، ولا أجد حرجا في تسميته بمخرج الابتسامة كما يعكس ذلك نموذجا فيلمه السينمائي “دوار كونيكسيون”. غير أن المخرج يبقى دائما خلف الكاميرا ولا يراه المشاهد، وقد لا يعرف عنه شيئا. لا يعرفه إلا جمهور المهتمين والنقاد، كما أن تصوراته ورؤاه الجمالية ورصيده الإبداعي لا قيمة لذلك كله في حالة غياب ممثل كفؤ قادر على إخراجه وإيصاله إلى الجمهور الواسع والحصول على اقتناعه واكتساب تثمينه وتقديره. لهذا نجد المخرج مصطفى أشاور حشد ثلة من الطاقات الفنية الكبيرة المقتدرة التي لها وزنها وصيتها في السينما والدراما الأمازيغيتين من أمثال: الحسين برداوز، عبد اللطيف عاطيف، أحمد نتاما، أحمد عوينتي، فاطمة السوسي، الزاهية الزاهيري، أمينة اشاوي، خديجة سكارين، نورة الولتيتي، لحسن شاوشاو، مصطفى الصغير، عبد الرحيم أكزوم وآخرون استطاع أن يشتغل معهم باقتدار فقدموا أداء متميزا على العموم. أكيد أن مسألة إدارة المثلين عنصر حاسم في نجاح العمل الإبداعي الدرامي، والمخرج الموهوب يستطيع أن يُخرج ما يختزنه الممثل من طاقة إبداعية ليتألق به. لهذا نرى الممثل أحيانا في عمل درامي يرفرف عاليا بإبداعه وتفاعله مع دوره والشخصية التي يتقمصها بشكل جد مقنع، بينما في دور آخر يعيش التفاهة والضعف والعجز التام عن الإقناع، وربما يسبب له الفشل في مساره. ولعل مما تسجله السينما العالمية وجود مخرجين كبار استطاعوا بوجوه جديدة لا تجربة سابقة لهم ولا علاقة لهم نهائيا بالسينما والتشخيص عموما أن يحققوا بهم نتائج إبداعية باهرة من خلال جودة الإدارة. ففي المسلسل الأمازيغي بابا علي كما أسلفت ممثلون محترفون سهلوا مهمة المخرج وربما تجاوزوا إدارة المخرج فتألقوا، ولعل من بعض العلامات الدالة على النجاح في هذا المسلسل هو إدارة المخرج للممثل الفكاهي عبد الرحيم أكزوم الذي يمكن إدراجه في خانة تفجير طاقة مهدورة مغلولة سابقا، وسيصعد نجمه كممثل وليس مجرد فكاهي ألفناه في فن السكيتشات والتمثيليات، وذلك نتيجة إدارة جيدة اشتغلت على موهبته واستعداده وفجرت طاقته وقدراته، ومكنته من إتقان دور اليهودي موشي والبراعة في تقمص شخصيته بشكل يختلف عن كل الأدوار التي ظهر فيها سابقا، واستطاع بعفوية وتلقائية إلى جانب شخصية مهيرة(خديجة سكارين) أن يعكسا ملامح التعايش الاجتماعي بين المسلمين واليهود بالمغرب والاحترام المتبادل للاعتقاد رغم جملة من الشوائب التي شوشت على الفكرة. في المقابل أحسست شخصيا بنوع من تكبيل موهبة وطاقة الفنان الكوميدي مصطفى الصغير من خلال العاهة الصوتية التي لم تكن موفقة في اختيارها على عكس عاهة بريك الذي أدى دوره الفنان الكوميدي الحسن شاوشاو والتي ارتقت به وألقته، واستطاع أن يخلق بها لحظات ممتعة من الفرجة الغنية.
أكيد أننا نسجل عددا من الهفوات الفنية والجمالية والتعبيرية على هذا العمل الإبداعي، لكنه يبقى إضافة نوعية إلى الريبرتوار الفني الإبداعي الأمازيغي.
إشارة ختامية: شخصية “علي” في هذا المسلسل شخصية ذكية ونبيهة ويقظة وإيجابية، استطاعت أن تتخلص وتُخلص المشاهد من ثقل الموروث الإيديولوجي ومن إرث الصراع الطائفي، والذي خلف قاموسا من الكراهية والحقد والتنابز بالألقاب: “علي إيجان” بتفخيم الجيم، أي علي النتن ذي الرائحة الكريهة، ويطلق على نوع من الأسماك. و”الطالب علي” كنية ولقبا للثعلب الماكر المحتال المخادع.

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading