وتخرج من هذه المدارس العتيقة كبار الفقهاء والشيوخ، والدعاة المصلحون والوطنيون المتحمسون، الذين خدموا البلاد ودافعوا عن حوزتها فكانوا أوفياء لدينهم ووطنهم وملكهم.
والمدارس العلمية العتيقة بسوس تأخذ بيد الطالب بعد حفظ كتاب الله تعالى وإتقانه والتدرج في المعارف، بدءا بعلم النحو الذي هو الأصل، ثم اللغة والأدب ، والفقه والحديث والسيرة والتفسير وغيرها من مكونات الثقافة الإسلامية، إلى تهذيب سلوك المتعلم والطالب وتلقينه مبادئ التسامح والرقي.
ويقول الأستاذ محمد أيت بومهاوت، باحث وعضو جمعية علماء سوس، “إن أغلب مدارس سوس العتيقة تقوم بوظيفتي التعليم والتربية الروحية، وفقيه المدرسة تؤدي مهمتين، الأولى تعليمية تثقيفية، والثانية تربوية سلوكية”.
وأبرز الباحث، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن المدرس يعمل في مهمة التعليم على تدريس العلوم الشرعية التي درسها، ويعتمد على التربية الروحية التي تلقاها من شيوخه، ونقلها بعد ذلك إلى تلاميذه وطلبته، بعد أن مارسها في حياته. مشيرا إلى أن المدرس يكون قد جمع بين الحسنيين، وأدى مهمتين، وكان معلما ومربيا في آن واحد، وصار تلاميذه أيضا طلبة ومريدين في نفس الوقت.
وأضاف أن المهمة المزدوجة المتمثلة في التربية الروحية والتعليم الموكولة للمدرس هي التي جعلت طلبة وخريجي المدارس العتيقة أئمة معتدلين، ودعاة متسامحين، غير متشددين وﻻمتنطعين، وﻻ متطرفين ولا متعصبين، ﻷنهم تشبعوا بالعلوم الشرعية وفق المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، مما جعل هذه المدارس العتيقة منابع المعرفة والتسامح والوسطية والإعتدال.
وقال الباحث معتمدا على ما ذكره أحد شيوخ سوس “إن تلك البيئة الصالحة التي نشأ فيها فقهاء المدارس العتيقة، تأثرت بمدرسة الإمام عبد الوهاب الشعراني، الذي جمع بين العلم والتربية الصوفية، فكان يعلم ويربي في آن واحد، حتى تخرج في مدرسته آلاف العلماء…”.
وأضاف الأستاذ بومهاوت قائلا “وعلى هذا النهج وجدنا شيوخنا وأساتذتنا، فقهاء وعلماء المدارس العتيقة، كانوا يمزجون بين مهمتي التعليم والتربية الروحية، وهذا ما وجدته ولامسته بالخصوص في شيخنا المرحوم سيدي الحاج يحيى الزعنوني، ونحن ندرس عليه بمدرسة تفراوت الملود”، مشيرا إلى أن مدرسه كان يقوم بوظيفتي التعليم والتربية، ويمزج بين التعليم والتصوف.
وأكد الباحث أنه بفضل هذه المدارس ظل المغرب في منأى عن التطرف، وانتشرت قيم الوسطية والاعتدال والتسامح ليس في المغرب فحسب، بل حتى في مختلف الأقطار الإسلامية والبلدان الإفريقية وغيرها، مشيرا إلى أن هذه القيم انتشرت بفضل التصوف العلمي السني، الذي هو أحد مقومات الهوية المغربية عبر قرون، والفقه المالكي والعقيدة الأشعرية لأبي الحسن الأشعري والسلوك والتربية الروحية بطريقة الإمام أبي القاسم الجنيد رحمه الله.
وعن علاقة المدارس السوسية العتيقة بالطرق الصوفية، ذكر الباحث أن التصوف عندما انتشر منذ القديم في أغلب مدارس المغرب عامة، كان من الطبيعي أن ينتشر كذلك في مدارس سوس على وجه الخصوص، مشيرا إلى أن أغلب فقهاء هذه المدارس كانوا أتباعا للطرق الصوفية وهي بالأخص “الناصرية” و “الدرقاوية” و “التيجانية”.
وقال الباحث “قلما تجد في سوس مدرسة لا تحمل الصبغة الصوفية، وفي كثير من الأحيان لا بد أن تنتمي المدرسة العتيقة السوسية لطريقة من الطرق الصوفية المشهورة بالمنطقة، كالمدرسة الصوابية الماسية، والجشتيمية، والتمكدشتية الإيسية، والأدوزية البعقيلية، كلها مدارس ناصرية بامتياز، تصوف أغلب شيوخها على الطريقة الناصرية التي انتشرت في سوس خلال القرن 12 و13 وأوائل القرن 14 من الهجرة، وانتشرت بانتشارها مدارس العلم، فازدهر التعليم بفضلها، وفضل أساتذتها وفقهائها الذين نهلوا من الزاوية الناصرية العلمية الصوفية، وأسهموا بدورهم في تأسيس مدارس لنشر العلوم…”.
وذكر بومهاوت أن بعض المدارس السوسية تفرعت عنها مدارس أخرى كانت لها نفس النزعة، وأخذت ذات الاتجاه، فكانت تقوم بدور التعليم والتربية معا، كالمدرسة التمكديشتية التي تفرعت منها عدة مدارس تابعة لها، كالمدرسة الإيرازانية قرب تارودانت، فهي، حسب الباحث، “من بنات المدرسة التمگديشتية، أسسها الشيخ سيدي الحسن التيملي المتوفى سنة 1308 هـ”.
وحول الخصال التي يتسم بها فقهاء المدارس العتيقة، يقول الباحث “لا ينكر أحد أن فقهاء المدارس العتيقة هم من أنفع الناس، وأن التربية الروحية لديهم تلعب دورا مهما في تأصيلِ القيم الأخلاقية النبيلة في المجتمع المغربي، هذه القيم المتمثلة في الالتزام بالفضيلة والإيثار ونشر ثقافة الاعتدال والوسطية، ونبذ العنف والتشدد والانغلاقِ والتطرف بكل أنواعه”، مشيرا إلى أن علماء مدارس سوس نشأوا في بيئة مـحافظة حريصة على التمسك بالدين والقيم الروحية، وهم في أعلى طبقات المجتمع، إذ ينظر إليهم بعين الاقتداء والاهتداء، فأثروا في محيطهم الإجتماعى بأخلاقهم وسلوكهم ومخالطتهم للمجتمع.
وخلص الأستاذ بومهاوت إلى أن التربية الروحية ليست مجرد مقررات للتدريس، وإنما هي تفاعل عقلي ووجداني بين الخصوصية الإنسانية والتوجيه الثقافي، وأن المربي هو الذي يختار المنهج الملائم لكل مرحلة.
أكادير: إعداد: التهامي العم
التعليقات مغلقة.