- محمد بكريم //
المقصود هنا لقاء فكري. لقاء حول أسئلة المنهجية في إطار تخصص معين. وفي هذا الموعد مع الأستاذ حسن رشيق يتعلق الأمر بالأنثروبولوجيا. وهي أساسا لحظة أسئلة حول مقاربة المجتمع من زوايا متنوعة. مقاربة مجتمع متميز بكونه أولا منفلت التأطير النظري، منفلت من كل تفسير أحادي النظرة. عصي على الفهم أمام تعقيداته التاريخية والحالية. مجتمع يتيم التحليل. تتحدث الأستاذة رحمة بورقية “عن مجتمع ناقص التحليل” Une société sous-analysée
وأمام اصطدام بعض العلوم “الصلبة” /المؤسساتية بجدار الصمت وانهزامها امام تدفق الظواهر (ماجرى في الفنيدق شتنبر 2024) يمكن البحث عن مداخل أخرى والتنقيب في المتداول الدفين والذي يطفو الى السطح عبر سرديات “متوحشة” : الاساطير، أغاني الراب، الجداريات..
والحاصل أن السينما قد توفر مادة خصبة لفهم مجتمع معين. ليس هناك مثلا أبلغ من أفلام الوسترن أو سينما “الفيلم الأسود” (الأفلام البوليسية المدينية) لفهم المجتمع الأمريكي وظاهرة العنف التي تخترقه.
عندما أحضر احدى دورات المهرجان الوطني للفيلم (خارج / بعد مسؤولياتي التنظيمية) أجد نفسي أمام متن فيلمي يسمح بطرح سؤال وجودي: ما هو المغرب الذ ي تطرحه أمامنا هذه المادة الدرامية الخصبة؟ ماذا يقول السيناريو المغربي عن المجتمع المغربي؟
أمام هذه الأسئلة طرحت ذات مرة فرضية بأن الأفلام قد تكون بمثابة “العلبة السوداء” للمجتمعات الحديثة. العلبة السوداء التي يلجأ اليها المحققون في ميدان حوادث الطيران.
وفي سياق هذا البحث عن سبل مسائلة الفيلم عما يقوله بشكل متضمن عن مجتمعه، أو عن طرق مقاربته الفنية لهذا المجتمع كان اللقاء بدون موعد مسبق مع الانثروبولوجيا ومع اجتهادات ومساهمات الأستاذ حسن رشيق وصولا الى فرضية جديدة ألخصها في القول: أليس المخرج السينمائي – وخاصة مخرج الفيلم الوثائقي (علما أن كل الأفلام لها بعد وثائقي بما فيها أفلام الخيال العلمي) انثروبولوجيا بأدوات خاصة وبلغة خاصة؟
وجاءت هذه الفرضية بمناسبة اشتغالي على فيلمين أمازيغيين: الفيلم القصير “سين أغفاي” للمخرج لطيف لحلو (1967) حول طريقة تدبير توزيع الماء مستوحاة من التقاليد والأعراف المحلية، والفيلم الطويل “تيكمي ن إيكران” لتالا حديد (2017) حول حياة شابتين في فضاء قروي ورصد لطموحاتهما وأحلامهما.
وصادف ذلك أنني اقتنيت كتاب “القريب والبعيد، قرن من الأنثروبولوجيا بالمغرب” (2012) للأستاذ حسن رشيق والذي أصبح من كتبي المفضلة. العودة إليه أصبح طقسا، إلتزاما دوريا. وهو عبارة عن قراءة نقدية للمعرفة التي أنتجها الاخر عن المغرب (سوسيولوجيا المعرفة)، نوع من الاستشراق المضاد بطريقة علمية غنية بالمعطيات وخاصة أن العمل تحمله لغة واصفة جميلة جدا. وقد أفادني كثيرا في جزء هام من تحليل الفيلمين.
يجد صانع الأفلام الذي يذهب لتصوير مجتمع ما نفسه في موقع الأنثروبولوجي في علاقته مع مجال البحث. إنه مدعو إلى تدبير مجموعة من المعطيات والمعايير المكونة لما يسميه حسن رشيق” الوضع الاثنوجرافي أو الحالة الاثنوجرافية” وهي معطيات تسمح بالقول إن المشاكل التي يطرحها إنتاج فيلم وثائقي تشبه مشاكل النص الأنثروبولوجي: إنها مسألة تقييم موثوقية المعنى…عبر أربع مسارات -معطيات محددة للحالة الاثنوجرافية والتي تطرح على مخرج الفيلم الوثائقي أيضا:
– تحديد مجال التدخل (الفضاء المعني/ المكان)
– الفترة الزمنية للعمل
– لغة التواصل مع الفاعلين موضوع العمل
– المبادئ الموجهة للتواصل مع الناس المعنيين بالبحث /بالفيلم. أي نوع من البروتوكول الضابط للعلاقة مع الأخر والمحدد لدرجة القبول أو الرفض.
بالنسبة لتحديد المجال وفضاء الاشتغال فقد كان واضحا بالنسبة للفيلمين. كلا الفيلمين يحددان مجال العمل بوضوح: عائلة في قرية في الأطلس الكبير (على طريق ممر تشكا نحو ورززات) بالنسبة لتيكمي ن اكران، وقرية بالحوز، بالأطلس الكبير (سيتي فاطمة) بالنسبة لسين أغفاي.
يعتمد محتوى المعرفة وطبيعتها إلى حد كبير على طول الفترة الزمنية التي يقضيها المخرج في الميدان. وتتحدث تالا حديد عن” خمس سنوات من الاتصال مع العائلة “التي ستشكل محور الفيلم وإقامة شبه دائمة تتراوح مدتها بين شهرين وثلاثة أشهر. في حين استند لطيف لحلو في عمله على المعرفة الميدانية التي راكمها الباحث السوسيولوجي الكبير بول باسكون وفرقه التقنية. وحكى لي لطيف لحلو أن باسكون الذي كان يشتغل على موضوع توزيع الماء هو الذي اقترح ذلك المكان.
لغة المتحاورين:” إن معرفة لغة الآخر ليست حلاً سحرياً؛ إذ يمكن تعلم لغة الآخر للسيطرة عليه أو إدارته“(حسن رشيق). وقد استعانت تالا حديد بمتحدثين أصليين من أبناء القرية؛ أما لطيف لحلو فقد استعان بمتعاونين في الميدان، ولا سيما بمساعدة موظفين تقنيين من مكتب الحوز.
– درجة قبول الناس الذين يتم الاشتغال معهم /حولهم وهي نقطة حاسمة بالنسبة للفيلم الوثائقي الذي يوظف الصورة في مجتمع محافظ.
في الماضي الاستعماري كان أحيانا على الأنثروبولوجيين الأوائل أن يتنكروا في زي اليهودي أو المسلم كحيلة لكسب ثقة الآخر، كان على صانعي الفيلمين استخدام أساليب أخرى لتحقيق علاقات هادئة مع القرويين: فقد حشدت تالا حديد فريقاً تقنياً نسائياً صغيراً (قامت بنفسها بالتصوير والتقاط الصوت)؛ وهذا لم يمنع الأصوليين من استدعائها” للتوضيح“.
وقد استفاد لطيف لحلو من خبرات موظفين من إدارة مكتب الحوز ومضى بعيدا في التفاوض مع الفلاحين وصولا إلى عقد صريح مع شيخ القرية:” لا اتصال مباشر مع النساء والفتيات الصغيرات، لا تدخلوا بيوت الناس دون دعوة، احترموا ممتلكات الجميع ولا تتدخلوا في العلاقات بين الناس“.
لقد اعتمد المخرجان بروتوكولات ممارسة صارمة، يوجههم سؤال فني وأخلاقي حول الوصول الى “المسافة الصحيحة” مع الموضوع الذي يشتغلون عليه. من أجل بناء” وجهة نظر“، مؤسسة سينمائيا وحاملة لتصور مدني مواطن أو متعاطف ان صح التعبير: إنهما ليسا مراقبين بالمعنى” الأجنبي “يصوران الآخرين” كالحشرات“؛ أو كمادة مختبرية.
أسئلة قادتهم الى ضبط مسار التصوير لفهم ما يحدث هناك، والاشتغال معًا: أنا والآخر. كيف يمكننا أن نفكر/ نصور، على قدم المساواة، دراما” حقيقية“. وكلما شهدت الفيلمين تتأكد قناعتي الأولى: لطيف لحلو وتالا حديد نجحا في تفكيك معادلة الفيلم الوثائقي في تحقيق التوازن الصحيح. بين المبنى والمعنى.
التعليقات مغلقة.