عُرض الفيلم الموسوم ب “ثغرابوت ن نوح: قارب نوح” يوم 22 أبريل 2022 بقاعة العروض بالمركب الثقافي لمدينة الناظور، واضطلع فيه محمد بوزكو بمهام السيناريو والحوار والإخراج، كما قام بالتمثيل فيه مجموعة من الفنانين أمثال: (رشيد أمعطوك، شهيرة كرطيط، محمد المكنوزي، محمد سلطانة، نجيم بلغربي، سلوى الوهبي، محمد الزعيمي، بنعيسى المستيري،…)
فيلم “ثغرابوت ن نوح” يرصد بشكل أساس تيمة الهجرة السرية، ومجموعة من الآفات اللصيقة بها. إنه فيلم ينصبّ على إبراز مظاهر هذه الهجرة في الريف وبالأخص في مدينة الناظور باعتبارها منطقة مستقطبة للمهاجرين الذين يتخذونها محطة عبور نحو الضفة الأخرى. الفيلم يتطرق إلى مجموعة من المسببات لفعل الهجرة، من قبيل أثار جائحة كورونا، وإغلاق معبر مدينة مليلية المحتلة، التي كانت تستقطب شريحة عريضة من أهالي المنطقة والوافدين من باقي المدن الأخرى لممارسة التهريب المعيشي، والانكماش الاقتصادي الذي يعرفه الغرب، والذي أثر في الجالية المقيمة هناك التي كانت تمد يد العون لعائلتها في الريف.
وبهذا يسلط الفيلم الضوء على انسداد الأفق في وجه الشباب وتفشي البطالة، والحلم بواقع أفضل يسود فيه العيش الكريم والحرية والمساواة، مما يجعلهم يفضلون خوض مغامرة ركوب البحر نحو الضفة الأخرى رغم كل المخاطر المترتبة عن ذلك.
لذا نرى شخصيات من قبيل (جمال) الوافد من مدينة بني ملال و(سعيد) الذي ينتمي للمنطقة بمعية شباب وأطفال آخرين يعيشون وضعا مزريا وعرضة للتشرد والضياع، ويلجؤون للسرقة، ويركضون وراء الشاحنات قصد تسلقها لعلها تعبر بهم إلى أوروبا وتنتشلهم من واقعم البئيس، مما يجعلهم عرضة لمطاردات بوليسية مستمرة، وفي المقابل نجد شخصية بطل الفيلم (ماسين) الذي يتظاهر برغبته في الهجرة ويعاشر هذه الفئة، لكنه في حقيقة الأمر صحفي ينجز ربورتاجا حول الهجرة السرية، فنراه يقتنص فرص تصوير مشاهد الهجرة في غفلة منهم.
الفيلم يشير كذلك إلى شخصيتين هما (ثزيري)، وصديقتها (نوميديا)، تشتغلان في إحدى المصحات بالمدينة، وهذا سيجعلهما تستقبلان بعض أفراد هذه الفئة المشردة التي تسعى للهجرة طلبا للعلاج. وهو ما سيخول لثزيري التعرف إلى ماسين المصاب إثر سقوطه بعد فراره من إحدى مطاردات الشرطة، وستتطور العلاقة بينهما بعد ذلك إلى أعجاب متبادل وحب، سيما وأن ماسين مثقف وحاصل على ماستر في القانون، وسيتقرّب أكثر إلى أبيها نوح، وسيتردد على المنزل، ويرافق الأب (نوح) في قاربه أثناء صيده في بحيرة مارتشيكا، إلى أن حصلت حادثة اختطاف قارب نوح من قبل سعيد وجمال بعد أن أغريا ماسين الذي كان مكلفا بحراسته بقيادة القارب بعض الأميال في البحيرة.
لكن الأمر كان عبارة عن حيلة من قبلهما بعد أن كشفا وضعه، وتظاهره بالهجرة، وهذا ما جعلهما ينفردان بالقارب ويهاجران به، ويجبران ماسين بالنزول إلى البحر، ليعود إلى الضفة سباحة، وهو ما جعل نوح وابنته يعتقدان أن ماسين سرق القارب وفر به مع أصدقائه مستغلا طيبوبة الأسرة.
عموما نجد الفيلم يبني أحداثه معتمدا على ثلاث حكايات أساسية، كل حكاية تعتمد على عقدة درامية nœud dramatique خاصة بها لتنصبّ في العقدة الأساس للفيلم، ولتنوع من أحداث الفيلم، ولتضفي عليها بعض التوتر وهي كالآتي:
- حكاية البطل (ماسين) وعلاقته بالبطلة ثزيري، وهي أهم حكاية في الفيلم وتشكل عنصرها الأساس، إذ ستتطور العلاقة بينهما إلى إعجاب، ثم تَقَرُّب من العائلة، ثم توتر بعد ذلك بعد سرقة القارب، لكن بعد ظهور الحقيقة، وانكشاف أمر ماسين، الذي هو صحفي في الأصل، جعل العلاقة بينهما تتقوى.
- حكاية ميمون مع نوميديا التي استغلها واختلى بها في شقته بعدما وعدها بالزواج، وتسوية وضعيتها والالتحاق به في بلاد المهجر، لكنه اختفى في نهاية المطاف، وتنكر لوعوده.
- حكاية سرقة القارب وقذف ياسين منه والمصير المجهول الذي ينتظر الخاطفين، والذي انتهى بهما بالغرق في وسط البحر، وظهور حقيقة ماسين وإعادة القارب لنوح.
وينتهي الفيلم نهاية سعيدة تجلت في الحب المتبادل بين بطلي الفيلم (ماسين وثزيري)، وتأسيس وكالة لتقديم خدمات إدارية كان قد اقترحها نوح على ماسين، ضمت كذلك بشكل غريب نوميديا المنتقلة من العمل بمؤسسة صحية إلى ميدان آخر وهو (وكالة عمومية). الفيلم يكرس بشكل واضح فكرة البقاء والارتباط بالأرض، ويقدم صورة وردية ومتفائلة عن كل ما هو محلي، بل ويذلل جل الصعاب التي اعترضت شخصيات الفيلم.
عنوان الفيلم مثير ودال وحمّال أوجه وتفسيرات، فهو يتناص مع ما هو ديني باعتبار أن سفينة نوح ترمز إلى النجاة والخلاص، ومقاومة الطوفان والغرق، والوصول إلى بر الأمان، وبطبيعة الحال الخلاص هنا هو خلاص جماعي (الجماعة المؤمنة) وذو منحى كوني إنقاذا للإنسانية ولكل الكائنات الحية. القارب في الفيلم عامل استقرار، ومحدود القدرات، هو للصيد فقط، حتى إنه عندما استعمل في ميدان الهجرة نحو الضفة الأخرى فشل في ذلك، وغرق من ركبه، وعاد في نهاية المطاف إلى مكانه الأصلي. وشخصية نوح في الفيلم تتشبث بالأرض وتدعو إلى المكوث فيها، والعمل على إنمائها وإعمارها. لهذا ليس غريبا، أن يتحول الأمر من (قارب نوح) إلى (وكالة نوح) التي تم تأسيسها في نهاية الفيلم، فإذا كان القارب متنقلا خائضا للبحر ووسيلة سفر، فإن الوكالة بناية ثابتة، لكنها قد تكون عاملا مهما في الهجرة من حيث تجهيز الملفات اللازمة لذلك، وكأن الفيلم يدعو هنا إلى هجرة قانونية وآمنة بالطرق الشرعية، التي تساهم فيها هذه المؤسسات من تيسير للخدمات ووساطة بين الإدارات.
فكرة الفيلم جيدة، والموضوع المعالج هو موضوع الساعة، وآثار الهجرة السرية، ومعاناة المدينة من تبعاتها بادية للعيان، تسبب أحيانا في اضطراب حركة السير، وبعض الاعتداءات والانحرافات الناتجة عن هؤلاء الشبان والأطفال المجتمعين بشكل فوضوي في أماكن معينة يتربصون بالمارة والشاحنات، غير أن طريقة بناء الفيلم ومعماريته انتابته بعض المزالق
نلخصها في النقط الآتية:
1 طغيان البعد الوثائقي
يتميز الفيلم بطابعه التسجيلي، فهو أٌقرب إلى الشريط الوثائقي منه إلى الفيلم ذي البناء المحكم والقصة السينمائية المتماسكة، ولعل طغيان ما هو وثائقي في الأفلام عموما يجعلها تولي اهتماما كبيرا للموضوع الواقعي على حساب القصة او الحكاية الخيالية المبهرة، أو ما هو فني وجمالي محض، إذ تسعى لطرح مشكلة أو آفة مبرزة مواقف معينة إزاءها، لذا لجأ الفيلم إلى الاعتماد على تقارير جاهرة بمثابة قصاصات أخبار يتم الاستماع إليها بواسطة الهاتف النقال، وهو ما أسقط الفيلم في بعض الرتابة، وجعل الصراع الدرامي يبدو خافتا.
2- الطابع التقريري
يسعى الفيلم منذ بدايته وبشكل واضخ لا رمز فيه إلى معالجة موضوع اجتماعي شائك يتعلق بالهجرة السرية، لذا كان الفيلم في كثير من لقطاته ومشاهده تلقينيا، يمرر خطابا مباشرا، ويسقط فيما هو وعظي وإرشادي، يحذر المشاهد من الهجرة عبر شعارات معينة، ويدعو إلى البقاء مستحضرا مقولات من مثل (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية) باعتبارها رهانا تبناه الخطاب الرسمي في البلاد، كما أن الفيلم يشير إلى أن خيار الهجرة أمر غير صائب حتى من الناحية المادية نظرا للأزمة الاقتصادية التي تعرفها أوروبا.
3- مَلْء ثقوب النص الفيلمي
قد نجد في أفلام معينة بياضات أو ما يمكن تسميته ب(الثقوب)، وهو ليس عيبا بل هو اختيار جمالي وتوجه فني، وهذا يبرز بشكل خاص في السنيما التجريبية، فالفيلم لا ينبغي أن يقدم كل شيء بطريقة جاهزة، ولا ينبغي أن يتمادى في شرح التفاصيل، ووضع النهايات الواضحة، سيما وأن الصورة بليغة جدا قد تستغني عن العبارة والحوار المسهب والمؤدلج أحيانا. ويبدو أن مخرج الفيلم سعى نحو ملء مجموعة من البياضات أو الفراغات التي صادفته، وذلك بإقحام مشاهد معينة مثل مشهد وكالة نوح الذي انتهي به الفيلم، وأعتقد أنه لم يضف شيئا جديدا للفيلم بل رسخ بديلا آخر وصل إلى المشاهد بوضوح من خلال الحوار السائد بين نوح وماسين، مما جعل النهاية تبدو واضحة ومتوقعة، وتتمثل في الوكلة بدل القارب، أو البقاء بدل الهجرة، ومن ثم الظفر بالحبيبة في نهاية المطاف.
4- القَطْع الحاد لبعض اللقطات التصويرية
إن القطع الحاد (CUT)، وهو عبارة عن مرور من لقطة لأخرى بشكل مفاجئ، وهو ليس معيبا في المشهد السينمائي أو التلفزي، شريطة أن يكون له معنى وفي صميم سياق السرد الفيلمي، ولقد رأينا مثل هذا القطع في لقطة مقتضبة كررت أكثر من مرة لشخصية ثزيري وهي تركض في كورنيش المدينة، وقد دأبنا على مشاهدة مثل هذا القَطْع وبالضبط ممارسة الجري أو الرياضة في أفلام الأكشن الغربية التي تحيل على استعداد البطل جسديا لمعارك قادمة، غير أنه في هذا الفيلم، تبدو هذه اللقطة غير مفهومة ، هل لأن ثازيري فتاة متحضرة ومتحررة، هل للإشارة إلى خصوصية المكان الذي صور فيه الفيلم (كورنيش المدينة)، هل لمجرد تأثيث الفيلم فقط. !!
ختاما، هذه مجرد انطباعات، لا تنقص من مزايا الفيلم ورسالته، ولا من مجهود محمد بوزكو المتميز في مجال الأعمال التلفزيونية والسينمائية التي راكمها منذ مدة، إنتاجا وكتابة، وإخراجا، حتى إن لرؤية بوزكو الفنية ميْسَما خاصا وخصوصية متميزة، ويمكن أن نعده بحق راصدا وموثقا لذاكرة الريف ومثيرا لكثير من قضاياه الشائكة باقتدار بالغ، مختارا الفن السابع لإيصال صورة الريف لكل التخوم والأصقاع.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.