الضجيج في وطني يقتلني
ليس لنا قانونا يحمي الناس من الضجيج الزائد عن اللزوم، فالبلد الذي انتمي إليه، لا يبالي فيه المجتمع لظاهرة الضجيج و أخطارها على الصحة السمعية، و عادي جدا أن لا يبالي بمثل هذه الظاهرة طالما جل أن أفراده يكتوون بسياسات عمومية في مجال الحقوق الاجتماعية و السياسية التي تنتج عنها أوضاع تزيد من حالة اختناقهم و تلهيهم عن أي إمكانية تسمح لهم باكتساب وعي بيئي في مجال الحفاظ على الصحة السمعية، إلى جانب الصحة العامة.
فمجتمعنا لا يعير اهتماما لمخاطر القمامة و المزابل المنتشرة في كافة الأزقة و الشوارع و داخل الاحياء، بما فيها أحياء وسط الدار البيضاء كانت تعد أحياء بورجوازية بامتياز، باتت اليوم مجرد مزابل متراكمة تفوح منها الروائح الكريهة، و باتت، مع مر الوقت، مشهدا عاديا يؤثث للجمالية القبيحة للمدينة يزيدها إهمال السلطات المحلية حضورا دائما. و من عادتي أني لا أحتمل أي من الظواهر المخلة، سواء بالتوازنات البيئية أو التوازنات الصحية الضرورية، فاختلال الأولى يساهم في اختلال الثانية، كما أكره، عادة، التدخين، و لا أحتمل الدخان الصادر من عملية التدخين الذي يمارسه المدخنون بالمقاهي بشراهة غير عابئين بصحة المواطن الآخر، الذي له الحق في عدم التدخين و حماية نفسه من أضراره الكامنة في السجائر لما تحتويه من مواد كيماوية و غازية عديدة.
فحتى القانون الذي مر عليه زمنا طويلا و صدر عن البرلمان المغربي و خرج في الجريدة الرسمية، و هو القانون الذي يمنع على المدخنين التدخين في الأماكن العمومية، لم تطبقه السلطات و هو يسائل الدولة عن دورها السلبي في عدم تطبيق قانون صادر عن مؤسستها التشريعية، ما يعرض، لسنوات عديدة، صحة غير المدخنين لأضرار خطيرة يسببها لهم المدخنون داخل المقاهي و في الأماكن العمومية. و يضاف إلى الظاهرتين السالفتي الذكر، ظاهرة الضجيج التي أصبحت تفرض نفسها بقوة في كل الأماكن، و من البديهيات، أن الزبائن يذهبون إلى المقهى من أجل أخذ قسط من الراحة، بعضهم يقرا الجرائد و آخر يقرأ الكتب أو يسبح في الشبكة العنكبوتبة، لكن آخرين لا يعرفون آداب الجلوس في المقهى، فيتحدثون بصوت مرتفع مزعج و أحيانا يصرخون، فضلا عن تفاهات المواضيع المطروقة في كلامهم الصارخ و المضر بمسامع آخرين منهمكون في القراءة أو جالسون من أجل الاستمتاع بقليل من الراحة.
لقد تذكرني، هذه الأجواء المسمومة، بمقاهي و أماكن عمومية عرفتها في نيقوسيا بقبرص و في أتلانتا بولاية جورجيا و في كطلونيا شمال اسبانيا، فالزبون لا حق له في ممارسة الضجيج و لا في التدخين، لأن الناس تحترم نفسها أولا، و تاليا تحترم القانون. مع مر الوقت، اكتشفت أن من لا يعرف قيمة الهدوء و مردوده الإيجابي على الصحة النفسية و العقلية، لا يمكن له أن يعرف خطر الضجيج على الصحة السمعية.
في نيقوسيا كنت ألتفت للحضور القوي لظاهرة الهدوء السائد ليس فقط داخل المقاهي، و إنما حتى في الأماكن العمومية مثل الحدائق و الأزقة و الشوارع، و من غرائب الصدف، و هذه الملاحظة نشرتها في تحقيق حول الإشكالية القبرصية المنشور بجريدة أنوال عام 1988، حيث أن العصافير في العاصمة نيقوسيا تقوى زقزقتها على محرك السيارات، و كنت ممن يعشقون حالة الهدوء المطلق، لذلك كانت نيقوسيا ضالتي و قبلتي المفضلة، و اليوم الذي أغادرها عائدا إلى دمشق، كأنني عائد إلى الجحيم. أما مقاهينا المغربية، مجرد أن تنطلق واحدة من مباريات “الليغا” أو مباراة الفرق الوطنية، حتى تجد صحتك السمعية هدفا للقصف بعد أن يقوم صاحب المقهى برفع صوت التلفزة لمستوى عالي جدا إرضاء لجمهور سكنه الشغب و الضجيج و باتا مكونين لشخصيته المهووسة فقط بالنتيجة الإيجابية لفريقه المفضل.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.