بقلم عبد الرحيم اريري * //
حين سقطت الخلافة العثمانية في العشرينات من القرن 20 على يد القوى الأوروبية، كان ذلك إيذانا بتفريخ حركة «الإخوان المسلمون» بمصر الذين أوهموا المجتمع بأن تحلل الإمبراطورية التركية وانهيار الخلافة العثمانية هو انهيار للدولة الإسلامية بالعالم، فشرعوا في التعبئة والتمطط داخل المجتمع لحشد الأتباع لبناء الدولة الإسلامية وإعادة التوهج للخلافة الدينية. وفي الوقت الذي كانت دول العالم الإسلامي تحت وطأة الاستعمار بدأت جماعة الإخوان المسلمين »تتسرطن« في مصر، إلى أن جاء جمال عبد الناصر وخاض حربا شرسة ضد هذا التيار في الخمسينات من القرن الماضي. وهذه الفترة تزامنت مع بداية منح الاستقلال للدول العربية التي كانت في أمس الحاجة إلى الأطر الإدارية والتعليمية لتحريك دواليب المرافق العمومية.
شدة القمع الناصري ضد الإخوان المسلمين وحاجة البلدان إلى الأطر شكلت المناخ الملائم لنشر المذهب الإخواني بالعالم الإسلامي. وهي العدوى التي لم يسلم من شرورها المغرب الحديث العهد بالاستقلال، إذ جلب الآلاف من رجال التعليم من مصر بهدف تعليم المغاربة. والواقع أن المغرب جلب معه السم لقتل المغاربة. إذ أن معظم أولئك القادمين من مصر كانوا هاربين من بطش عبد الناصر ومتشبعين حتى النخاع بالفكر الإخواني، فغسلوا الأجيال الأولى من مغاربة الاستقلال في المدارس والكليات الذين كونوا سياسيين يحكمون المغرب اليوم.
الحق يقال إن رجال التعليم المصريين المنتمين للإخوان المسلمين لم يكونوا الأداة الوحيدة لغسل دماغ التلاميذ والطلبة، بل حتى الصراع بين القصر، في عهد الراحل الحسن الثاني، والحركة الوطنية (اليسارية منها على وجه الخصوص)، أدى بالدولة إلى خلق علماء لها، بالنظر إلى أن الحركة الوطنية كان لها رجالات ذو سمعة علمية لا ينازعهم فيها أحد (المختار السوسي، علال الفاسي، أبو شعيب الدكالي، المختار بلعربي العلوي، المتوكل الساحلي…إلخ)، فيما الدولة وجدت نفسها بدون علماء أقوياء، فخلقت دار الحديث الحسنية عام 1965 وصنعت رجال دين ومولت وساعدت على ميلاد تيارات أصولية لوقف زحف اليسار وتغلغله في المجتمع.
ومع مجيء ثورة الخميني في إيران عام 1979زادت الجرعة لدى الأصوليين في العمل السياسي، وهي الجرعة التي ارتفعت بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان بالنظر إلى أن هذا الغزو منح الفرصة لإكثار سواد “الأمة الإسلامية المنشغلة بالسياسة”.
عقب اشتداد الخناق على الدولة في أواسط الثمانينات بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة الناجمة عن تطبيق برنامج التقويم الهيكلي وزيادة مصاريف المجهود الحربي في حرب الصحراء ضد الجزائر والبوليزاريو من جهة، وتعالي أصوات المنتظم الدولي ضد الدولة البوليسية بالمغرب آنذاك من جهة أخرى، اضطر المغرب إلى الانفتاح على اليسار وبدأت الإشارات تتوالى مع أواخر الثمانينات من القرن 20. وبالموازاة مع ذلك شرعت الدولة في ضخ “الدوباج” في جسم الحركة الأصولية التي خرجت منقسمة ومشتتة بعد اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بنجلون.
هذا “الدوباج” سيرافقه عام 1992 الحديث عن إنجاز تناوب توافقي بين القصر والمعارضة الوطنية، إلا أن القصر بقدر ما كان يمد يده لليسار وللوطنيين بقدر ما كانت التعليمات تعطى في الخفاء لإدماج الأصوليين في المسرح السياسي حتى يكونوا «رويضة سكور» لا قدر الله، والقولة للباحث عثمان أشقرا.
بالفعل، انطلقت محاولات خلق حزب التجديد على يد عبد الإلاه بنكيران عام 1992، بالموازاة مع مبادرات أحمد الريسوني لخلق حزب الأمة، إلا أن المحاولتين باءتا بالفشل لأن تجربة الجزائر آنذاك كانت مثالا أسود، لكن دون أن تنهار العملية. إذ توجت بدمج رابطة المستقبل الإسلامي وحركة الإصلاح عام 1996 في إطار هيأة واحدة وهي «حركة الإصلاح والتوحيد» التي رأت النور في نفس اللحظة التي وجه فيها الأصوليون للدخول إلى حزب الدكتور الخطيب (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية) الذي سيغير اسمه في ما بعد ليصبح حزب العدالة والتنمية.
وما أن استتب الأمر للتناوب عام 1998 وتصالح اليسار مع القصر بعد التصويت على دستور 1996 حتى كان التيار الأصولي مؤهلا لخوض تمرين لاكتساح التنظيمات الطلابية والنقابية بغية إحكام القبضة على مختلف مفاصل المجتمع، حتى إذا نادى المنادي: “حي على الحكم” تكون حركة الإسلام السياسي في الموعد. إلا أن الأحداث الإرهابية في أمريكا (2001) وتفكيك خلايا إرهابية كانت تستهدف البواخر المارة بشمال المغرب (2002) ووقوع الأحداث الإرهابية بالدار البيضاء (ماي 2003)، جعلت الأجراس تقرع محذرة من نوايا الحركات الأصولية، خاصة وأن ولاء هذه الحركات لا يكون لأوطانها بقدر ما يكون لمرشدها العام في القاهرة الحالم بإرجاع دولة الخلافة الإسلامية!.
من خلال هذا السرد يحق مساءلة قادة الإسلام السياسي ببلادنا: ها أنتم في الحكم منذ يناير 2012؟ ماذا قدمتم للمغرب والمغاربة؟ هل كان تفكيركم منصبا على إقامة الدولة الإسلامية (الدولة الإسلامية المتخلفة كما نظر لها عند السودان وطالبان) أم كان منشغلا بتحسين جودة عيش سكان الدولة المغربية الإسلامية القائمة منذ قرون، والتي لا علاقة لها بالنموذج العثماني أو الطالباني؟
*افتتاحية نشرتها بأسبوعية “الوطن الآن” وموقع” أنفاس بريس”
التعليقات مغلقة.