نظمت رابطة كاتبات المغرب فرع الرباط بمناسبة اليوم العالمي للغة الضاد يوم السبت 29دجنبر 2018بنادي الصحافة بالرباط حفل توقيع المجموعة الشعرية “حقائب الأوجاع” للزميلة وللشاعرة جميلة محمد والقراءة النقدية للأستاذ محمد الملواني والفقرات الموسيقية للاستاذ رشيد عبدون وتخلل الحفل قراءات المحتفى بها وعدد من الشعراء والشواعر وفي ختام الخفل قدمت شهادة تقديرية للشاعرة جميلة محمد باسم رابطة كاتبات المغرب فرع الرباط وحفل شاي على شرف الحضور.
هنا لحظات من الاحتفاء بالشاعرة وبديوانها :
وهذه مقدمة الديوان كما كتبها الدكتور عبد المنعم كامل وهو مفكر وأديب مصري :
قرأت هذا الديوان للشاعرة جميلة محمد مرات كثيرة قبل أن أشرع في كتابة هذه المقدمة ، وكنت في كل مرة أتساءل من أين يأتي الجمال ، وكنت في كل مرة أفشل في البحث عن جواب حاسم لتساؤلي ، فالشاعرة تكتب بعيدا عن المواضعات الشكلية للقصيدة الكلاسيكية التي عرفناها ، كما تكتب بعيدا عما ألفناه في شعرنا التفعيلي الذي يتخذ من وحدة التفعيلة أساسا موسيقيا ، وعلى الرغم من ذلك فقد جمعت في يدها كثيرا من خصائص الشعرية الرحبة العميقة . لا تلجأ جميلة محمد إلى الزخرفة الشكلية إلا في الحدود التي تخدم المعنى ، فهي تنتمي لقافلة شعراء وشاعرات المعاني ، وهي القافلة التي اهتمت على امتداد تاريخنا الأدبي بتقديم رؤية مبدعيها للوجود ، وموقفهم النقدي من قضايا الواقع وهموم الأمة أكثر من الاهتمام بالزخرفة الجمالية ، ولا يعني هذا أن جميلة محمد تلفظ الاتجاه الجمالي برمته وإنما هي تلجأ إلى التشكيل الجمالي في الحدود التي تبين المعنى وتوضحه ولا تحجب الدلالات أو تلقي بها في أتون الغموض ، وهي أيضا شاعرة تعرف كيف تنجز نصوصها الشعرية من خلال شحن الجملة بطاقة وجدانية كبيرة دون أن تتوه في سراديب الغنائية أو تبتعد عن معانيها الجلية الواضحة ، وهي تصل إلى روح النص من خلال هذه الوفرة في الجمل شعرية المتتابعة في نسيج لغوي محكم من حيث فصاحته وعمق مغزاه تقول الشاعرة في قصيدة ( برلمان الطفل العربي ) طفلنا يا سادة
لا يبتسم
لا يلعب
ليس له سقف
ليس له أم
ليس له أب
هو آخر من تبقى
من ضحايا الحرب
في غزة .
ليجد القارئ نفسه إزاء تشكيل لعالم هذا الطفل العربي على المستوى النفسي ، فهو لا يبتسم ولا يلعب وليس له بيت ، وهو يتيم الأبوين ، وهو وحيد منفي في عالم خربته الحرب في هذا البلد العربي الصغير غزة ، فالطفل العربي في أي بقعة من بقاع الوطن العربي ليس إلا هذا الوحيد المتبقي من ضحايا الحرب في غزة ، فلا وجود له خارجها ، ولا فرار له من تداعيات الموت فيها ، هذا الموت الذي هدم المنزل وقتل الأبوين فقتل معهما البسمة والسعادة والمعنى ثم تستطرد القصيدة لتصور ما تبقى لهذا الطفل العربي من طفولته ، فتقول لعبه تحت الثرى مثل جثامين أبويه مثل أطراف أخويه وأشلاء بعض أولاد حارته معفرة بالتراب هذه صورة لما ورثه الطفل اليتيم من طفولته ، جثث الأهل وأشلاء الأصحاب مختلطة بلعبه ومعفرة بالتراب ، وهي صورة تسعى من خلالها الشاعرة لخلق الألم في نفس متلقيها وبعثه بعثا جديدا ، وهي تحاول دفعه إلى التعرف على الخراب الذي غمر عالمه هادفة إلى بعث روح المقاومة في هذا المتلقي ، والواقع أن هذا المعطى الدلالي ( المقاومة ) يكاد يملأ كل قصائد الديوان مما يجعلنا قادرين على وضع اسم جميلة محمد ضمن قافلة الشاعرات العربيات المقاومات بحق والمؤمنات بوحدة هذا العالم العربي وضرورة خروجه من وهدة الصمت والعجز إلى امتلاك مكانه الذي هو خليق به على خريطة الكون في عصرنا الحديث ، وفي هذا السياق الدلالي تقول الشاعرة في قصيدة ( معزوفة التحدي ).
أعزف على الجراح
أنثر على الأنقاض هوى التحدي
أبعث من تحت الرماد …
حياة الزهر
أرقص على الأوجاع
….رقصة النصر
…..رقصة التصدي
أصدع بعذب الألحان
أغني للأوطان
أغنيات المجد
كفكف الدموع
لملم أشلاء أولادي
ارفع الرأس
وسر للأمام
لنا الغد الجميل
فهي تحاول أن تبعث الحياة قوية خلاقة في الرميم المتناثر على أرض العالم العربي ، فتجعل التحدي هواها فتنثره على الأنقاض ، وهي تحاول أن تبعث الروح في الرماد فينمو فيه الزهر من جديد ، وذلك هو المعنى الأصيل للمقاومة ، أن يستعيد الإنسان قدرته على إعادة البناء في شموخ . والشاعرة لا تلجأ إلى ترميز غامض أو حيل تكنيكية تحمل القارئ خارج الوضوح الفكري الذي تسعى إليه ، وإنما هي تعتمد استعارات قريبة وكنايات تنتج حميمية التلقي ، فالعزف على الجراح استعارة فنية موحية إذ تحولت الجراح إلى آلة موسيقية وهو تحول يشير بقوة إلى تعوُّدِ الإنسانِ جراحَهُ واحتضانِهِ إياها ، وتتضافر مع هذه الصورة الجزئية صورة جزئية أخرى بها يكتمل المشهد ، وهي صورة الرقصة على الأوجاع ، وبهما معا تتخلق الحياة من تحت الرماد ، فهذه تفاصيل صغيرة تتضافر في بناء مشهد شعري فعال ومؤثر ، ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائد الديوان من هذه التفاصيل الصغيرة التي تحتشد من أجل بناء المشاهد وإنتاج الدلالة . في قصيدتها ( طفل الحجارة ) تقول الشاعرة على لسان الطفل الفلسطيني الذي يتحدى الموت أنا قادم ، من أعماق المحيطات أنا قادم، من لهيب و دخان البراكين أنا قادم ، من تحت رماد المدافن أنا قادم، من بين صخر ورفات أنا قادم ، من ثرى مقدس مخضب بالدم أنا قادم بي عزم الأحرار جينات شجعان فرسان الأغوار الشهداء الأبرار جبابرة عشقوا التراب وقلوب أسرى أحرقها جمر الانتظار من بين أطلال المآثر من بين المساجد والمدائن يحاول المتلقي أن يكون صورة للمنبع الذي يأتي منه هذا الطفل فإذا هذا المنبع كون من جزئيات تصويرية هي أعماق المحيطات ولهيب الدخان والبراكين ورماد المدافن والصخور والثرى المقدس المخضب بالدم ، وكلها جزئيات يتلاقى في جوهر إحالاتها الموت بالحياة ، في محاولة من الشاعرة للإشارة إلى العالم الداخلي للطفل الفلسطيني وهو بالفعل عالم تتلاقى فيه الحياة بالموت تلاقيا لا نظير له ، ثم يحاول القارئ أن يكون صورة لوعي الطفل نفسه فإذا هي تفاصيل تنتج من جينات الشجعان وفرسان الأغوار الشهداء وقلوب الأسرى ، هذه القلوب التي تكابد جمر الانتظار ، ليجد هذا القارئ نفسه في عالم فني بالغ الخصوبة وعميق المعنى .
إن جميلة محمد شاعرة تجيد حشد التفاصيل لبناء مشاهد تقع على منحنى خاص بين الحس والتجريد ، وهي لا تسعى إلا إلى خلق المعنى عبر تأثيرية رحبة من أجل إشعال جمرة المقاومة في روح متلقيها .
وبعد فهذه ليست دراسة تحليلية لقصائد الديوان الجميل وإنما هي محض مقدمة حاولت من خلالها إبراز الدلالة الأكبر فيه ، وأعلم أن الكثير من القصائد الذاتية التي احتفلت بالحب من ناحية والغربة في الوجود من ناحية أخرى تمثل جانبا بالغ الثراء في الديوان ، والوقوف عندها ليس من طبيعة المقدمات ، وإنما يحتاج إلى دراسة نقدية مفصلة أرجو أن يوفقني الله لإنجازها قريبا ، وبعد فلعل هذه المقدمة القصيرة أن تكون مدخلا يلج القارئ منه إلى ما في هذا الديوان من قيمة وجمال .
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.