يُعَدُّ هَذَا الكتَابُ أَحَدَ الأسفارِ النَّفيسَةِ التي ظهَرَتْ في العَقدِ الأخيرِ مِن القرنِ الماضي (1998) في حقلِ نظريَّةِ الأدَبِ. مُؤلِّفُهُ هو أنطوان كومبانيون (1950 – …) أحَدُ أنشَطِ نُقّادِ الأدَبِ ودارسِيهِ في فرنسا في يومِنا هذا. وهو يُعنى في هذا الكِتابِ بمَسارِ النَّظريَّةِ الأدَبيَّةِ في سِياقِ المشهَدِ النَّقدِيِّ الأدَبيِّ خِلالَ القرنِ العِشرينِ، مُنطَلِقًا مِن التّجربةِ الفَرنسِيَّةِ تحديدًا. فقد وُصِفَ مَسارُ النَّظَريةِ في فرنسا بالضَّحالةِ والقُصورِ من النّاحيةِ النَّظريَّةِ، لأسبابٍ مِنها، في نَظَرِ المؤلِّفِ، أنَّ هذا البلَدَ لَم يَشهَدْ، كبعضِ البُلدانِ الأُخرى، تقَاليدَ نَظَريَّةً عريقَةً، ما عَدا شِعْريَّةَ بول فاليري، بسببِ هيمنَةِ التَّصوُّرِ الوَضعيِّ (تين، وبرونتيير، ولانسون) على الدِّراساتِ الأدَبيَّةِ زمَنًا طويلًا، وهو تَصَوُّرٌ ظلَّ مُؤَثِّرًا حتّى النِّصفِ الأوَّلِ مِن القرنِ الماضي، فضلًا عن هَيمَنةِ المُمارسَةِ المدرسيَّةِ على شَرحِ النَّصِّ، التي لَم تَكُنْ سِوى وصفٍ ضَيِّقٍ للأشكالِ الأدبيَّةِ حالَ، للأسَفِ، دونَ تطوُّرِ مَناهِجَ صَارمَةٍ وفعّالةٍ.
لِذلكَ كُلِّهِ، يُعَدُّ هذا الكتابُ بِمَنزلةِ تقييمٍ لحَصيلَةِ النَّظريةِ الأدَبيَّةِ كما تجلَّتْ في فضَاءاتٍ عِلميَّةٍ مختلفةٍ، ولدى أعلامٍ اختلفَتْ تَصوُّراتُهُم للأدبيِّ باختِلافِ خَلفيّاتِهِم الأدبيَّةِ والفكريَّةِ والفلسَفيَّةِ. ومع ذلِكَ، لا يؤرِّخُ الكتابُ للنَّظريَّةِ الأدبيَّةِ ولا لأعلامِها، ولا يَستَعرضُ جَوانِبَها استِعراضًا تاريخيًّا، بل هو، في المقَامِ الأوَّلِ، حِوارٌ وسِجالٌ نقدِيٌّ لا يَرمي إلى الحُكمِ أو التَّصنيفِ أو القَولِ الفَصلِ، وإنَّما يَتَوخّى المُساءلَةَ النَّقديَّةَ، وتحديدَ التَّقاطُعاتِ، وخَلعَ هالَةِ الأُسطورَةِ عن النَّظرِيَّةِ demythifier la théorie في سبيلِ تشخيصِ أهمِّ مَحَطّاتِها في علاقتِها بالمفاهيمِ الكُبرى التي ميَّزَتْ مَسارَها الطَّويلَ. إنَّهُ، إذَن، كتابٌ يندَرِجُ في إطارِ نقدِ النَّقدِ، أو اللغةِ الواصفَةِ. وقد اعتمدَ فيهِ المؤلِّفُ على كلِّ ما أوتيَ من مَهاراتٍ في التَّوصيفِ النَّقديِّ والتَّقييمِ والتَّعليقِ والمقارَنَةِ.
إنَّ بَسطَ مُشكلاتِ النَّظَريَّةِ الأَدبيَّةِ، في بَعضِ مَظاهِرِها المذكورةِ آنفًا، اقتَضى من الباحثِ استحضارَ مَرجعيَّةٍ مُتعدِّدةِ الخلفيّاتِ، مُتنوِّعةِ المشارِبِ، توزَّعَتْ بينَ الإسهاماتِ الأوروبِّيَّةِ والأمريكيَّةِ، ولَم تقتَصِر في المنجَزِ فيها على الحديثِ والمُعاصِرِ، بل وَقَفَتْ عندَ أبرَزِ المحطّاتِ التي تركَتْ بَصَماتٍ في تاريخِ النَّظريةِ الأدبيَّةِ. لذلك، بدَتِ الخلفيَّةُ المرجعيَّةُ غنيَّةً ومتنوِّعةً، يَرفِدُهَا تنوُّعٌ في رُوّادِ النَّظريَّةِ الأدبيَّةِ وأعلامِها في الشَّرقِ والغَربِ، فضلًا عن عدَدِ النَّظريّاتِ الـمُحالِ عليها في كلِّ فصلٍ من فُصولِ الكتابِ على حِدَةٍ، والاستِقصاءِ شبهِ الشّامِلِ الذي حاوَلَ من خِلالِهِ الباحثُ قراءةَ الأُطُرِ المرجعيَّةِ للنَّظريَّةِ الأدبيَّةِ ونقدِها، وما يتَّصِلُ بها مِن كُتُبٍ ومقالاتٍ تأسيسيَّةٍ في مجَلّاتٍ دوليَّةٍ، وهو ما فرَضَ عليهِ نوعًا من الانتقاءِ، لا بوصفِهِ تَرَفًا مَنهجيًّا، بل بوصفِهِ ضَرورةً يُمليها اتِّساعُ الموضوعِ، وامتدادُهُ في الزَّمان والمكانِ.
مِن ثَمَّ، اختارَ كومبانيون طريقةً ذكيَّةً تُمكِّنُهُ من الإحاطةِ بأكثرِ مُشكِلاتِ النَّظريَّةِ إثارةً للجدَلِ، وهي التَّصدِّي لمفاهيمَ رئيسَةٍ لا يخلو منها أيُّ نقاشٍ بشَأنِ الأدَبِ، وهي: الأدبيَّةُ، والمؤلِّفُ، والعالَمُ، والقارئُ، والأُسلوبُ، والتّاريخُ، والقيمَةُ. مفاهيمُ ونظريّاتٌ أخضَعَها الباحِثُ لمحكِّ النَّقدِ ونَقدِ النَّقدِ في آنٍ واحدٍ، متنقِّلًا بين مُختلفِ التوجُّهاتِ التي تقاسَمَتْ هاجِسَ النَّظريَّةِ في العصرِ الحديثِ، بدءًا من شَكلانيَّةِ الرُّوس، وبنيويَّةِ براغ، والنَّقدِ الأمريكيِّ الجَديدِ، وعِلم نَفْس مدرسَةِ جنيف، والماركسيَّةِ، وما بعدَ البنيويَّةِ، والهيرمينوطيقا، والماركسيَّةِ الجَديدَةِ.
لقد أثارَ هذا الكتابُ عند ظهورِهِ جدَلًا واسعًا في فرنسا، ووجَدَ طريقَهُ إلى عِدّةِ لغاتٍ، كالإنجليزيَّة، (منشورات جامعَةِ برينستون عام 2004)، والبرتغاليَّةِ (عام 2014)، والإسبانيَّةِ (منشورات أكانتيلادو عام 2015). وإنَّ صُدورَ هذه التَّرجمةِ العربيَّةِ لكتابِ “شَيطان النَّظريَّة” لحَدَثٌ ثقافيٌّ وعلميٌّ جاءَ بعدَ طولِ انتظارٍ من القارئِ العربيِّ المتلهِّفِ على دُنيا البَحثِ الفاتِنَةِ في حقلِ نظَريَّةِ الأدَبِ من جهةٍ، واستكمالًا لمشروعِ دارِ الكتابِ الجديد في ترجَمَةِ أُمَّهاتِ المَراجِعِ العِلميَّةِ في هذا الحقلِ المتجَدِّدِ من جِهَةٍ أخرى.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.