يعتبر تقديم التعازي في كل المجتمعات فعلا إنسانيا واجتماعيا يقوي الروابط المجتمعية ويعزز التلاحم بين الأفراد في لحظة الشدة. ولارتباطها بالموت لما له من دلالات وتمثلات ميثافيزيقية، فتقديم واجب العزاء يبدو أكثر حساسية من تقديم “تهنئة”. ولذلك قد يتجاوز الفرد عدم تهنئته في مناسبة سعيدة، لكن لن يغفر عدم تقديم واجب العزاء في حالة الوفاة، خاصة من المقربين ولو كانت بينهم عداوة.
لم تعد التعزية اليوم مجرد فعل فردي من شخص لآخر لا تتجاوز أبعاده العلاقة الثنائية بين فردين، بل أصبحت اليوم فعلا ذو أبعاد سياسية واضحة، لأنها تصدر عن ملوك ورؤساء وهيئات سياسية ومنظمات دولية، وقد ينتقل وفد رسمي لبيت الفقيد لتقديم واجب العزاء، وتسير الحشود في موكب الذفن، حسب المكانة الإعتبارية للمتوفى في المجتمع، أو التمثلات التي نخلقها عن مكانته ومدى استحقاقه لتعزية رسمية أم لا. وقد يسبق ذلك مشاورات داخل اللجان المختصة لتقييم مدى أهمية تقديم هذه التعزية أم لا. ولذلك من الصعب معرفة المعايير المتبعة في هذا المجال والمحددات الأساسية في اتخاذ القرار.
وتعتبر حالة التعازي الرسمية المقدمة بعد وفاة المرحوم الفنان أحمد بادوج والنقاش المجتمعي الذي صاحبها أنموذجا واضحا لما يطرحه هذا الموضوع من إشكالات. ومما زاد الطين بلة وفاته في نفس أسبوع وفاة فنانين مغربيين آخرين ، ثريا جبران و عبد الجبار لوزير، ولا يتنابز إثنان في أهمية الفنانين الثلاث في الساحة الفنية المغربية إذ لا يختلفان إلا في لغة الإبداع، الدارجة المغربية لجبران و لوزير والأمازيغية (تاشلحيت) لبادوج.
بعد وفاة هذا الأخير بدأ النقاش من جديد عن التمييز الحاصل ضد الأمازيغ على مستوى التعزيات ليأتي الرد من القصر بتعزية ملكية عددت مناقب الفقيد وأهميته في الساحة الفنية المغربية، وهو ما تم القيام به سابقا بعد وفاة الفنانين عموري مبارك و عبد العزيز الشامخ وآخرون. ولهذه التعزية دلالات كثيرة أهمها التعامل بالمساواة مع جميع المغاربة، باختلاف لغات إبداعهم. بعد ذلك لم تتأخر تعزية رسمية من السيد عبد اللطبف وهبي، زعيم حزب الأصالة والمعاصرة ثم تلتها تعزية أخرى من عزيز أخنوش، زعيم حزب التجمع الوطني للأحرار، وفسرها الصحفي دافقير في تدوينة له على أنها استثمار سياسي ذكي للأمازيغية. لكن تدوينة رئيس الحكومة سعد الدين العثماني التي ترحم فيها على الفنانين ثريا جبران وعبد الجبار لوزير، ذون ذكر أحمد بادوج، أعادت النقاش من جديد حول هذا الموضوع. فإذا كانت برقية التعزية القادمة من القصر الملكي تعزز رمزيا مسار الإعتراف بالتعدد اللغوي والثقافي في المغرب خاصة بعد دستور 2011 الذي أعطى للأمازيغية وضع “لغة رسمية للدولة” وراعت نظرة المساواة بين المغاربة فإن تدوينة رئيس الحكومة لم تكن موفقة، خاصة وأنها أقصت فنانا توصلت عائلته بتعزية ملكية وينتمي لإنزكان، مدينة الدكتور العثماني.
من خلال ما سبق تظهر أهمية وفي نفس الوقت صعوبة فعل التعزية القادم من الجهات الرسمية لأنه يحمل في طياته أبعاد متعددة، تتجاوز الفعل الإنساني وحتى الديني. فقد تكون التعزية دليلا على الرضى على الشخص لما قدمه من خدمات جليلة، وقد تقدم لعائلة معارض سياسي شرس دليلا على العفو… كما أن عدم تقديمها، قصدا أو عن غير قصد، يحمل دلالات سياسية عميقة، وقد يؤول ذلك في جميع الإتجاهات.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.