أتابع منذ مدة السجال السياسي والانتخابي الذي أفضى في المغرب إلى إعادة تبويء حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية صدارة المشهد الحزبي في البلاد عن جدارة ودون منّة من أحد. ولقد نال إلياس العماري، زعيم حزب الأصالة والمعاصرة، نصيب الأسد من مختلف التهم التي مست شخصه كمواطن، وصفته كأمين عام لذلك الحزب المطعون في ملابسات تأسيسه.
منذ تولى العماري هذا المنصب قرأت وسمعت نعوتا وأوصافا جعلت منه “زعيم مافيا المخدرات” والرجل “الذي له نفوذ رهيب” والسياسي “الخطير على عقيدة المغاربة” و”الأمي الذي ليس لديه مؤهل دراسي”، وغيرها من الأوصاف التي تكفي واحدة منها للزج به في السجن أو تجريده من حقوق المواطنة.
سبق لي أن التقيت بإلياس بضع مرات، في نطاق غير رسمي، مع مجموعة من الأصدقاء المشتركين، منذ كان يعمل على ملف ضحايا الغازات السامة التي استخدمها المستعمر الاسباني ضد أجدادنا في جبال الريف خلال النصف الأول من عشرينيات القرن العشرين.
أما حزب الأصالة والمعاصرة فلا تربطني به أي صلة تنظيمية أو سياسية أو فكرية أو مادية، اللهم الانتماء للوطن المغربي.
لقد أحدث هذا الحزب بلبلة في المشهد الحزبي المغربي منذ إنشائه، قبل ثمانية أعوام، في سياق عملية تجميع لكفاءات يسارية سابقة وأخرى يمينية وثالثة من وسط اليمين، إضافة إلى مستقلين وأعيان تقليديين. لكن التركيز في البداية كان على فؤاد عالي الهمة، مستشار الملك محمد السادس، الذي غادر الحزب فورا ليلتحق بالديوان الملكي.
نعم كان من حق الأحزاب التقليدية أن تتخذ موقفا حذرا، بل وتستنفر صفوفها، وهي تتذكر ما فعله المستشار الملكي الراحل رضا اگديرة في أواسط ستينيات القرن الماضي حين أسس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (FDIC) بتنسيق مع الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي أعار لاحقا حزبه (الحركة الشعبية الدستورية) للسيد عبد الإله بنكيران وإخوته لكي يدخلوا العمل السياسي من باب الشرعية، وقد كنت شاهدا، من موقعي الصحافي، على المؤتمر الذي احتضن جماعة الاصلاح والتجديد التي ستتحول لاحقا إلى حزب العدالة والتنمية.
لقد أثبت هذا الأخير قدرته التنظيمية المتراصة، ودينامية قل نظيرها في الأحزاب التي ترهلت بفعل الزمن والتشعبات الأسرية التي حولت بعض الهيئات إلى مجرد “زاوية” لها مريدوها، أو “گريمة” تذر الكسب المادي والجاه والنفوذ لأبناء بعض العائلات المحظوظة والمدن دون سواهم.
حين تم إنشاء حزب الأصالة والمعاصرة كان له السبق في أمور ظلت غائبة في أحزاب تقليدية عريقة، فقد وضع لأول مرة في تاريخ المغرب الحديث (باستثناء السياسي المغربي الموريتاني المرحوم الداي ولد ييدي بابا في سبعينيات القرن الماضي) مواطنا صحراويا على رأس أمانته العامة، وهو الدكتور بيد الله محمد الشيخ، أحد مؤسسي جبهة البوليساريو، والأخ الشقيق لرئيس مخابراتها الملقب بـ”گريگاو”، كما انتخب لينوب عنه عبد الحكيم بن شماس، ذلك الشاب الريفي الأمازيغي الذي تربي في أحضان أسرة متدينة حتى النخاع، إلا أنه سرعان ما تمرد عليها في بدايات شبابه لينضم إلى اليسار المتطرف، ويذوق من أجل أفكاره ونضالاته عذابات السجن لسنوات عدة حين كان طالبا في جامع محمد الأول بوجدة.
لقد أطلق حزب الأصالة والمعاصرة من خلال إسناد قيادته إلى مواطنيْن من أقصى الجنوب وأقصى الشمال، ومن منطقتين عرف عنهما أن علاقات سكانهما بالمركز طبعها سيلان الدم خلال مراحل معينة من بناء الوطن الحديث، (لقد أطلق) إشارة قوية مفادها أن الوطن بحاجة إلى كل أبنائه مهما كانت نزعاتهم وانتماءاتهم المناطقية.
وحين تولى إلياس العماري قيادة الحزب انبرى عدد من السياسيين للطعن في ذمة هذا المواطن المغربي الأمازيغي الريفي، فمنهم من يقول إنه الرجل النافذ صاحب القدرات الخارقة على التدخل في كل الأمور والتحكم في مقاليد البلاد والعباد. ألا يكفي هذا الكلام أنه استخفاف بعقل المواطن. المغرب وبموجب الدستور تحكمه المؤسسة الملكية، وتعينها في ذلك مؤسسات الدرك والجيش والشرطة والمخابرات والجمارك والإدارات المركزية والخارجية والهيئات المنتخبة والمنظمات الموازية والأذرع الاقتصادية. فهل تتخيلون على سبيل المثال أن جهاز الدرك سيمتثل لأوامر إلياس العماري؟ اتقوا الله في عقولكم.
لقد سبق اتهام إلياس بأنه مافيوزي وله علاقة بشبكات تهريب المخدرات. فما الذي يمنع النيابة العامة من بدء اجراءاتها، لأنه لا يجوز السكوت على شخص يهرب المخدرات أو يتواطأ مع أباطرتها، فما بالكم إذا كان رئيسا لجهة طنجة تطوان الحسيمة، الواجهة المتقدمة للمغرب أمام أوروبا. هذه التهمة لا تقل إثارة عن تلك التي كالها حميد شباط، زعيم حزب الاستقلال، لعبد الإله بنكيران حين قال إنه عضو في “داعش” والموساد!!
لقد سخر الكثير من إلياس لأنه لم يتمكن من إكمال مشواره الدراسي، وبالتالي لم يحصل على دبلوم يؤهله ليكون ضمن النخبة المؤهلة لتسيير البلاد. على أصحاب هذه الضحكات أن يخجلوا من أنفسهم حين يعلمون أن نظامنا التعليمي ضاق ذرعا بمراهق مشاغب كل مطالبه كانت تختصر في توفير حياة كريمة للتلاميذ في الاعدادية التي درس بها في إقليم الحسيمة قبل أن يكون الطرد التعسفي مصيره. ومع ذلك تمكن ذلك الشاب الفقير من شق طريقه بدون ديبلومات أو دخول مدارس بوليتيكنيك ولا جامعات خاصة.
لقد بذلت كثيرا من الجهد خلال أيام الدراسة الجامعية وما بعدها لإقناع أبناء منطقة الريف بجدوى العمل ضمن نطاق بلدنا الواسع بغض النظر عن الأخطاء التاريخية التي ارتكبت في المنطقة أواخر خمسينيات القرن الماضي وفي أحداث عام 1984 الدامية. وحين جاء محمد السادس إلى الحكم استبشر الجميع خيرا بهذا الملك الذي دشن عهده بزيارات متتالية إلى الحسيمة والناظور وتازة لإعطاء إشارة لا لبس فيها بأن الدولة عازمة على طي صفحة الماضي مع أهل الريف، وأن الوطن قادر على لعق جراحه المشتركة.
حينها لمست تعاطيا ايجابيا من قبل نخب ريفية كانت فقط تنتظر ما يطيب الخواطر لتخرج من شرنقة الانتماء اللغوي والثقافي الضيق إلى كنف الوطن التاريخي الواسع المتنوع بمكوناته العربية والأمازيغية والحسانية والإفريقية والأندلسية.
إلياس العماري كان واحدا ممن استقطبه هذا البعد الوطني. وحين حط الرحال بحزب الأصالة والمعاصرة كان يختصر تصالح المواطن الريفي والشاب اليساري والمعارض المراوغ والعلماني المشاكس مع دولة بلاده.
أرجو أن تصوبوا سهامكم إلى مكامن الخلل مباشرة، فلا أظن أن الأصالة والمعاصرة يضم فقط إلياس العماري، ولا أظن أن التزوير أو “التحكم” يوجد بيد ابن أمي خديجة “مربية الدجاج”.
مرة أخرى أؤكد أنه لا يربطني بإلياس العماري سوى الانتماء للوطن ببعديه الجهوي والعام، ولا تربطني بالأصالة والمعاصرة أية رابطة سياسية أو تنظيمية أو مذهبية أو مادية.
إذن أقول لكم كفوا عن الشخصنة والتبخيس، فكل المواطنين سواسية مهما اختلفوا في الفكر والانتماء، وتحديات المغرب تكمن في تشحيم مفاصل الإدارة وإصلاح منظومة التعليم وتطهير الفضاء الاقتصادي وتفعيل سريان القانون على الجميع، واقتحام “جيوب المقاومة” الذين تحدث عنهم ذات زمن المجاهد عبد الرحمن اليوسفي ووزيره عباس الفاسي.
* صحفي مغربي مقيم في بريطانيا
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.