رغم أن عنوان “الأمازيغية والاستعمار الفرنسي”، الذي اختاره الأستاذ الطيب بوتبقالت لدراسته المطوّلة، التي نشرها طيلة شهر رمضان بجريدة “هسبريس” الإلكترونية، مقسّمة إلى ثلاثين حلقة، بدءا من 17 ماي 2018، قد يوحي، استنادا إلى الإرث الأمازيفوفوبي “للحركة الوطنية” التي اجتهدت في ربط الأمازيغية بالاستعمار، بتورّط الأمازيغية وأصحابها الأمازيغيين مع الاستعمار من خلال استعمالهما من طرف هذا الأخير لتقسيم المغرب على أساس عنصري، إلا أن الأستاذ بوتبقالت كان، أثناء العرض والتحليل، “معتدلا” ومتحفّظا، ساعيا لتجاوز الأفكار الجاهزة حول علاقة الأمازيغية بالاستعمار الفرنسي، والظهور بمظهر الباحث الأكاديمي الموضوعي. لكن رغم هذا الحذر المنهجي الذي حاول الكاتب أن يلتزم به، إلا أنه لم يستطع التخلص من القراءة “الوطنية” (نسبة إلى “الحركة الوطنية”) لفترة الحماية، وللعلاقة بين الأمازيغية والاستعمار على الخصوص. ونقصد بالقراءة “الوطنية”، للعلاقة بين الأمازيغية والاستعمار، تلك القراءة التي صنعتها ـ وصنعت هي بدورها تلك الأسطورةَ ـ أسطورة “الظهير البربري”، التي ظلّت منذ الاستقلال هي المرجع الموجّه، بشكل مباشر صريح أو ضمني غير مباشر، لكل تفكير في الأمازيغية والأمازيغيين. وسيتضح لنا، في ما يأتي من مناقشة، كيف يستلهم الأستاذ بوتبقالت هذه القراءة “الوطنية” في فهم هذه العلاقة المفترضة بين الأمازيغية والاستعمار الفرنسي، التي يؤكد عليها في عنوان دراسته.
التفكير والتفسير بنظرية المؤامرة:
ولأن نظرية المؤامرة تشكّل لبّ هذه القراءة “الوطنية” للأمازيغية ولعلاقتها المزعومة مع الاستعمار، فقد جعل منها الأستاذ بوتبقالت ركيزة لتفسير أي عمل قامت به فرنسا أو كانت تعتزم القيام به في المغرب، مثل ما يخص نشر اللغة والثقافة الفرنسيتين قبل فترة الحماية وأثناءها. وهكذا أصبحت مدارس الرابطة الفرنسية في المغرب، التي بدأت عملها منذ 1882، ترمي، حسب هذا المنطق المؤامراتي، «إلى نشر ثقافة مغلوطة تجعل من المغاربة أداة طيعة يتم تسخيرها لفائدة الاستغلال الاستعماري» (الحلقة 3). حتى إذا كان هذا الهدف هو الدافع وراء إنشاء فرنسا لتلك المدارس بالمغرب، فهل التمكّن من اللغة والثقافة الفرنسيتين من طرف غير الفرنسي سيجعله بالضرورة “أداة طيعة” لخدمة المخططات الاستعمارية الفرنسية التي تستهدف بلده؟ أليس التكوين الفرنسي لمن يسمّون بـ”الوطنيين” هو الذي سمح لهم باكتشاف واستعمال مفاهيم “الوطن” و”الوطنية”، وجعلهم يدركون خطورة الاستعمار ويرفضونه ويطالبون بالاستقلال؟ هل كان غاندي، المتشبّع باللغة والثقافة الإنجليزيتين، وذو التكوين القانوني الإنجليزي، “أداة طيعة” للاستعمار البريطاني الذي احتلّ بلده الهند؟ هل كان البطل مولاي موحند (عبد الكريم الخطابي) “أداة طيعة” للاستعمار الإسباني، وهو الذي ألحق أكبر هزيمة بإسبانيا في معركة أنوال رغم أنه كان ذا تكوين إسباني، متضلعا في اللغة الإسبانية وكاتبا صحفيا في جرائد إسبانية؟ ألم يكن الكاتب الفرنكوفوني الجزائري كاتب ياسين من ألدّ أعداء فرنسا ومن الرافضين والمقاومين لاستعمارها للجزائر؟ هل نحن المغاربة، الذين ندرس الفرنسية ونتعلمها من المهد إلى اللحد، “أداة طيعة” لفرنسا تستعملنا لخدمة مصالحها، وحتى عندما يكون في ذلك إضرار بمصلحة المغرب؟
نريد بهذه الأسئلة أن نبيّن غياب أية علاقة سببية بين نشر وانتشار اللغة الفرنسية وبين الولاء لفرنسا أو نقص في الولاء للوطن، ذلك أننا قد نجد من بين الأميين والجاهلين للفرنسية من كانوا عملاء لفرنسا وخونة للوطن، ومن كانوا من أشرس المقاومين للاستعمار وأكبر المدافعين عن بلدهم المغرب. كما قد نجد من بين المتعلمين المتضلعين في اللغة الفرنسية وآدابها من كانوا عملاء لفرنسا وخونة للوطن، ومن كانوا من أشرس المقاومين للاستعمار وأكبر المدافعين عن بلدهم المغرب.
ومما يدخل في إطار التفسير بنظرية المؤامرة عند الأستاذ بوتبقالت، والتي هي شرط للإقناع بالعلاقة بين الأمازيغية والاستعمار، ترديده، رغم أنه يعترف أن «الدعاية التنصيرية بالمغرب لم تسجل آثارا تذكر» (الحلقة 7)، لأكذوبة “الحركة الوطنية” أن الاستعمار كان يعتزم تنصير المغاربة، متوقفا عند دور البعثات التبشيرية، ثم مُفردا الحلقة 27 لما سمّاه “معالم المشروع التنصيري”، الذي رأى فيها أداة كولونيالية تستهدف زعزعة إيمان المغاربة حتى يسهل على فرنسا السيطرة على المغرب، بعد إضعاف عنصر المقاومة التي يشكّلها الإسلام. هنا يكشف الأستاذ بوتبقالت أنه ينطلق مما هو شائع وعامّي، دون فهم عميق وعلمي للخطة الاستعمارية الفرنسية لاحتلال المغرب. ففرنسا لم تكن في حاجة إلى نشر نصرانيتها بالمغرب حتى تجد فيها سندا لاحتلاله. لماذا؟ لأن هذا السند وجدته، وبالشكل الذي ما كان لتوفّره لها الديانة المسيحية لو انتشرت بالمغرب، في الإسلام نفسه الذي يوحي تحليل الأستاذ بوتبقالت، مكررا أكاذيب “الحركة الوطنية”، أن فرنسا كانت تحاربه. ففرنسا عرفت كيف تستغل الإسلام وتستعمله لمصلحتها بالتظاهر باحترامه، بل وخدمته من خلال ترميم المساجد والعناية بالعلماء والأئمة والخطباء، الذين جعلت منهم شبه موظفين يعملون لحسابها ولفائدتها. والأستاذ بوتبقالت نفسه يُقر أن فرنسا استعانت بالإسلام لبسط سيطرتها على المغرب، من خلال كسبها بسهولة لولاء العديد من الزوايا الدينية التي وظفت تأثيرها الديني، الشعبي الواسع، لجعل المغاربة يقبلون الاحتلال.
نعم، المسألة الأمازيغية من صنع الاستعمار الفرنسي:
اختار الأستاذ بوتبقالت، كعنوان لموضوعه، “الأمازيغية والاستعمار الفرنسي” ليذكّرنا، كما سبقت الإشارة، بالعلاقة ما بين الأمازيغية والاستعمار، مع ما قد تعنيه ضمنيا تلك العلاقة من صلة خاصة للأمازيغية بالاستعمار والمحتل الفرنسي. هو إذن يكرر، من خلال هذا العنوان، أكذوبة “الحركة الوطنية” التي روّجت أن المسألة الأمازيغية هي من خلق الاستعمار الفرنسي عندما استعمل الأمازيغيين لنشر النصرانية بينهم بهدف محاربة الإسلام، وزرع الفتنة العنصرية، وتقسيم عرقي للمغرب ليسهل احتلاله والسيطرة عليه. إذا كان قد ثبت اليوم أن ادعاء “الحركة الوطنية” بأن فرنسا استعملت العنصر الأمازيغي لمحاربة الإسلام وتقسيم المغرب هو مجرد إفك وبهتان، فإن ترويجها أن المسألة الأمازيغية هي من خلق الاستعمار الفرنسي، هو حقيقة، في عناصرها وسياقها والأطراف المشاركة فيها. لكنها حقيقة “مقلوبة”، في أسبابها ونتائجها وأهدافها. كيف ذلك؟
قبل الاحتلال الفرنسي للمغرب لم تكن هناك مسألة أمازيغية، لسبب بسيط وهو أنه لم يكن هناك مغرب عربي، ولا حتى المغرب كاسم قُطْري خاص بدولة المغرب الحالية، التي كان يُطلق عليها “مراكش” وليس المغرب. وهذا ما يوضّحه الأستاذ بوتبقالت نفسه عندما كتب يقول: «من المعلوم أن اسم “المغربّ في جل اللغات الأوروبية (Marokko, Morocco, Maroc Marruecos, etc) هو في الأصل تحريف لكلمة “مراكش”» (الحلقة 1). كما أنه يؤكد أن ما يسمى اليوم بالمغرب العربي كان يسمى عند الفرنسيين بـ«إفريقيا “البربرسكية» (Barbaresque)(الحلقة 6)، نسبة إلى سكانها “البربر”، قبل أن يُستغنى عن كلمة Barbaresque وتُعوّض، مع أواخر القرن التاسع عشر، بكلمة Berbère الحديثة مقارنة بالكلمة الأولى. ويورد الكاتب مقتطفا من وثيقة فرنسية تتحدث عن الجزائر وتونس جاء فيها: «في البلدين البربرسكيين (الجزائر وتونس)، اللذين استولينا عليهما» (الحلقة 6). وهو ما يبيّن أن فرنسا كانت تعتبرهما بلدين أمازيغيين (بربرسكيين). ويضيف الأستاذ بوتبقالت: «وفي التاريخ الحديث ركز معظم الباحثين الأوروبيين على أن أغلبية ساكنة إفريقيا الشمالية من الأمازيغ، وأطلق بعضهم على هذه المنطقة من العالم اسم “بربريا” بمعنى “بلاد البربر”» (الحلقة 17). إذن فرنسا، لما احتلت المغرب (وكذلك الجزائر وتونس)، كانت تعتبره بلدا أمازيغيا، أي ينتمي إلى “بلاد البربر” بتعبير السيد بوتبقالت. ومن المنطقي أنه لا يمكن أن تكون هناك “مسألة أمازيغية” تخص جزءا من السكان، ما دام جميع هؤلاء السكان يشتركون في نفس الانتماء الأمازيغي إلى “بلاد البربر”.
لكن ليوطي سيقوم ـ وهو ما لم يقم به العرب ولا الرومان قبلهم ـ بعملية تعريب سياسي ـ وليس لغوي ـ للمغرب، وذلك بإنشائه لدولة عربية بالمغرب، ذات هوية وانتماء عربيين، مع خلق وتوفير كل الشروط السياسية والمؤسساتية والقانونية والرمزية (العلم والنشيد الوطنيان)، الضرورية لهذه الدولة العربية، ذات الصنع الفرنسي. الشيء الذي جعل السلطة السياسية للدولة المغربية تُمارس، سواء أثناء فترة الحماية من خلال توقيع السلطان للظهائر التي كانت تحررها سلطات الحماية أو بعد الاستقلال على الخصوص، باسم الانتماء العربي. وهو ما نتج عنه إقصاء سياسي للأمازيغية بسبب استفراد العروبة، التي صنعتها وفرضتها فرنسا، بالسلطة السياسية، مع ما نجم عن هذا الإقصاء السياسي من إقصاء لغوي وثقافي وهوياتي وتاريخي للأمازيغية. هكذا يكون خلق فرنسا بالمغرب لدولة بانتماء عربي تمارس سلطتها السياسية باسم العروبة، قد خلق في نفس الوقت، نتيجة لذلك، الشروط الموضوعية والسياسية والثقافية لظهور “مسألة أمازيغية” بالمغرب. ويتجلى ذلك في تهج السلطة السياسية، الاستعمارية في عهد الحماية ثم “العربية” (لنتذكر أن المغرب أصبح عربيا منذ 1912) في عهد الاستقلال، لسياسة خاصة بالمغاربة الذين بقوا محافظين على أمازيغيتهم ولم يتحوّلوا، كما فعل الكثير منهم، من جنسهم الأمازيغي الأصيل إلى جنس عربي منتحل، قصد إدماجهم في النظام العربي الجديد الذي أقامته فرنسا بالمغرب. هذه السياسة هي التي تسمى بـ”السياسة البربرية”، سواء القديمة التي طبقتها سلطات الحماية، أو الجديدة التي طبقتها دولة الاستقلال. بالإضافة إلى هذا الجانب من “المسألة الأمازيغية”، التي هي نتيجة للتعريب السياسي من طرف الاستعمار الفرنسي لدولة المخزن المغربية، وهو الجانب المتعلق بكيفية تعامل السلطات، الاستعمارية ثم الاستقلالية، مع الأمازيغية والأمازيغيين، بعد أن حوّلت فرنسا المغرب إلى بلد عربي، (بالإضافة إلى ذلك) هناك الجانب المتعلق بشعور الأمازيغيين بالحيف والإقصاء والتهميش. وهو ما أدّى، وخصوصا بعد الاستقلال، إلى ظهور أصوات وحركات ودعوات تطالب بإنصاف الأمازيغية والأمازيغيين. وهو ما سيشكّل ما يُعرف بالحركة الأمازيغية، التي هي تعبير عن وجود قضية أمازيغية بالمغرب، والتي ترجع أصولها إلى تعريب فرنسا للمغرب سياسيا، كما سبقت الإشارة.
“المسألة الأمازيغية” بالمغرب، سواء في مظهرها المتعلق بـ”السياسة البربرية”، أو ذاك المتعلق بظهور حركة أمازيغية مطلبية تدافع عن الحقوق الأمازيغية، هي إذن من خلق الاستعمار الفرنسي حقا وفعلا، وذلك عندما أنشأ دولة عربية فيها إقصاء سياسي للأمازيغية، وليس كما تزعم “الحركة الوطنية” أن ميلاد “المسألة الأمازيغية” يرجع إلى استعمال الاستعمار للأمازيغية لتقسيم المغرب ومحاربة الإسلام.
أين هي «الضربة الموجعة» وأن هو “الظهير البربري”؟
في تناوله لظهير 11 شتنبر 1914، قال الأستاذ بوتبقالت بأن هذا الظهير صوّب «ضربة موجعة في صميم الهوية المغربية» (الحلقة 16)، التي يبدو أنه، حسب السياق الذي أثارها فيه، يحصرها (الهوية) في ما هو ديني إسلامي. وعندما نعود إلى الظهير في نصه الفرنسي الصادر بالنسخة الفرنسية من الجريدة الرسمية عدد 100 بتاريخ 21 نوفمبر 1914، الذي نقله الأستاذ بوتبقالت مترجما إلى العربية، أو في نصه العربي الصادر بالنسخة العربية من الجريدة الرسمية عدد 73 بتاريخ 18 سبتمبر 1914، نجده يقول، بعد ديباجة يذكّر فيها أن القبائل الأمازيغية معروفة بالاحتكام إلى العرف منذ قديم الزمان، في فصله الأول، الذي اعتبره الأستاذ بوتبقالت «ضربة موجعة» للهوية المغربية: «إن القبائل البربرية الموجودة بإيالتنا الشريفة تبقى شؤونها جارية على مقتضى قوانينها وعوايدها (هكذا وردت الكلمة في نص الظهير) الخصوصية تحت مراقبة ولاة الحكومة». ما يعتبره إذن الأستاذ بوتبقالت «ضربة موجعة» للهوية المغربية هو إقرار سلطات الحماية لاستمرار القبائل في ممارسة أعرافها. فهل إبقاء هذه السلطات على الوضع القانوني والعرفي للقبائل الأمازيغية كما هو، فيه مس بالهوية المغربية؟ هل كان الكاتب ينتظر من الاستعمار أن يقوم بما لم يسبق أن قام به أي سلطان مغربي، وهو منع القبائل من الاحتكام إلى أعرافها؟ وحتى على فرض أن في هذه الأعراف ما يخالف الشريعة، فهل كان السيد بوتبقالت ينتظر من سلطات الاستعمار، التي قال عنها بأنها كانت معادية للإسلام، أن تكون أكثر غيرة على الشريعة من سلاطين المغرب المسلمين، فتقرر وقف العمل بالأعراف؟ فسلطات الحماية، بإقرارها لأعراف القبائل، لم تضف شيئا ولم تأت بجديد من عندها يمكن أن يكشف عن نيتها في ضرب الهوية المغربية، دائما حسب الفهم الديني للهوية لدى السيد بوتبقالت. فكل ما فعلته هو أنها صادقت على ما كان يجري العمل به قبل الحماية من ممارسة للأعراف الأمازيغية. كانت ستكون هناك “ضربة موجعة” للهوية المغربية، كما يفهمها السيد بوتبقالت، لو أن هذه السلطات قامت بفرض الأعراف على القبائل التي لم تكن تمارسها من قبل، أو لو أن هذه الأعراف كانت قد اختفت وانقرضت، ثم قامت سلطات الحماية بإحيائها وإلزام القبائل بممارستها من جديد.
ونفس الشيء يقال عن ظهير 16 ماي 1930، المسمّى زورا وبهتانا بـ”الظهير البربري”، الذي لا يختلف، من حيث الأسباب والأهداف، عن ظهير 11 شتنبر 1914 إلا بإضفائه للصفة القانونية الإلزامية على الأحكام العرفية، وبإنشائه لمحاكم عرفية مع تبيان اختصاصاتها الترابية والنوعية، دون أن يمس القواعد العرفية نفسها، التي كانت موجودة وممارسة قبل الحماية، كأن يزيد فيها أو يضيف إليها أخرى أو يعدّلها أو يلغيها، باستثناء ما يتعلق بالفصل السادس الذي أسند فيها الاختصاص للمحاكم الفرنسية بخصوص الجنايات، وذلك من أجل مطاردة ومحاصرة رجال المقاومة، الذين كانوا يقتلون المتعاونين مع جيش الاستعمار، قصد إضعاف هذه المقاومة بتخويف رجالها من تقديمهم للعدالة الفرنسية للانتقام منهم.
لن أحاول أن أبيّن، في هذه المناقشة، أن “الظهير البربري” لم يوجد قطّ في التاريخ الحقيقي والواقعي، وإنما هو أكذوبة من اختلاق “الحركة الوطنية” التي جعلت منه أسطورتها التي دخلت بها التاريخ. لن أفعل ذلك لأن كتاب المرحوم الأستاذ محمد مونيب: «الظهير البربري” أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر»، وكتابي: «الظهير البربري: حقيقة أم أسطورة» أثبتا ذلك بالدليل والحجة. سأقف هنا فقط عند بعض التساؤلات التي يثيرها تحليل الأستاذ بوتبقالت.
لقد كتب كل هذه السلسلة الرمضانية، من ثلاثين مقالا حول “الأمازيغية والاستعمار الفرنسي”، من أجل الوصول إلى النتيجة التي ختم بها دراسته، والتي (النتيجة) هي “الظهير البربري” الذي خصص له الحلقات الثلاث الأخيرة، ليخلص إلى أنه يمثّل أخطر ما وصلت إليه “السياسة البربرية” للاستعمار الفرنسي.
ـ لكن، إذا كان هذا الظهير هو قمة العدوان على هوية المغرب ووحدته ودينه وتلاحم شعبه، كما نفهم ذلك مما كتبه السيد بوتبقالت عن هذا الظهير، معتمدا في ذلك عما قالته “الحركة الوطنية” عن نفس الظهير، فلماذا لم يبسط لنا الكاتب أوجه الخطورة التي يمثّلها هذا الظهير بالنسبة لهوية المغاربة ووحدتهم وعقيدتهم؟ مادام أن الظهير مصاغ في شكل نص قانوني، فلماذا لم يذكر لنا السيد بوتبقالت الفصول أو البنود التي كان يرمي بها المستعمر الفرنسي إلى تقسيم عرقي للمغرب، وزرع التفرقة والفتنة العنصرية، كما يشير إلى ذلك “اللطيف” المشهور؟ هذا يبيّن أن “الظهير البربري” هو مجرد ادعاء كاذب لشيء لا وجود له. ولهذا لم يستطع الأستاذ بوتبقالت، ولا سابقوه من “اللطيفيين”، تحديد تلك الجوانب من الظهير التي تشكل خطرا حقيقيا على المغاربة وعقيدتهم ووحدتهم.
ـ من بين “المصادر” التي يبني عليها الأستاذ بوتبقالت خلاصاته حول “الظهير البربري”، كتاب “الحركة الوطنية والظهير البربري” لمؤلفه الحاج الحسن بوعياد. وإذا عرفنا أن صاحب هذا الكتاب كان عضوا نشيطا في مجموعة “اللطيفيين”، وأحد المشاركين الفاعلين في صنع أسطورة “الظهير البربري”، سيُطرح السؤال التالي على الأستاذ بوتبقالت:
كيف يصحّ أن نصدّق ما يحكيه صانع “الظهير البربري” عن “ظهيره البربري”؟ أي كيف يصحّ أن نصدّق ما يحكيه “الظهير البربري” عن “الظهير البربري”؟ الاعتماد على صانعي “الظهير البربري”” للتأريخ “لظهيرهم البربري” دليل كافٍ على أن هذا “الظهير البربري” مجرد اختلاق وافتراء ما دام لا توجد مصادر، من حارج مختلقيه وصانعيه، مستقلة ومحايدة تؤكد وجود هذا “الظهير البربري”.
ـ ذكر الكاتب مجموعة من الأسماء التي شاركت في الدعوة إلى قراءة “اللطيف” والتظاهر ضد “الظهير البربري”. لكن السؤال الموجه للكاتب، بخصوص هؤلاء، هو:
ـ لماذا لم يذكر أن غالبية هؤلاء المحرّضين على “الظهير البربري” كانوا من “المحميين”، الذين سبق له أن قال عنهم بأنهم خونة يعملون ضد بلدهم؟ فكيف نصدّق أن خونة الوطن هم أكثر غيرة على الوطن الذي سبق أن باعوه بثمن بخس؟
ـ يقول الأستاذ بوتبقالت: «وبالرغم من ظروف الاستعمار القاسية والمعاناة اليومية، يمكن القول بأنه انطلاقا من واقعة الظهير البربري شهدت الساحة السياسية المغربية تنظيما تدريجيا لجيل جديد ملتف حول ملك شاب» (الحلقة 30). قد نفهم من هذا الكلام أن الملك الشاب، وهو محمد الخامس، كان مؤيدا لموقف شباب “الحركة الوطنية” من “الظهير البربري”. لكن الكاتب سكت كما فعلت “الحركة الوطنية” قبله، بخصوص هذا الموضوع، عن حدث بالغ الدلالة والأهمية، وهو أن هذا الملك الشاب كان رافضا لموقف هؤلاء الشبان وغاضبها عنهم، كما يدل على ذلك خطابه الموجه لهؤلاء الشباب، والذي يقول فيه:«وقد قامت شرذمة من صبيانكم الذين لم يبلغوا الحِلم، وأشاعوا ولبئس ما فعلوا أن البربر بموجب الظهير الشريف تنصروا وما دروا عاقبة فعلهم الذميم وما تبصروا وموّهوا بذلك على العامة». فلماذا سكت الكاتب عن فضح محمد الخامس لأكاذيب “اللطيفيين” كما يظهر ذلك من قوله: «وأشاعوا ولبئس ما فعلوا أن البربر بموجب الظهير الشريف تنصروا وما دروا عاقبة فعلهم الذميم وما تبصروا وموّهوا بذلك على العامة»؟
الخلاصة أن لا شيء في ظهير 16 ماي 1930 السلطاني الاستعماري ـ وليس “الظهير البربري” الذي هو “وطني” وليس استعماري ـ ولا في ظهير 11 شتنبر 1914، يتضمن «ضربة موجعة» للهوية المغربية. أما هذه «الضربة الموجعة»، الحقيقية، التي صوّبها الاستعمار الفرنسي إلى الهوية المغربية الحقيقية، فهي تلك المتمثّلة في إنشائه لدولة عربية بانتماء عربي في بلاد البربر ذات الانتماء الأمازيغي، مع ما نتج عن ذلك، كما سبق أن شرحنا، من إقصاء سياسي للهوية الأمازيغية التي كان يُعرف بها المغرب والمغاربة قبل الاحتلال الفرنسي، كما يُقرّ بذلك الأستاذ بوتبقالت نفسه، كما سبقت الإشارة.
الأمازيغية والاستعمار أم العروبة والاستعمار؟
(يُتبع)
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.