الأمازيغية من الهامش الى المركــــز

اذا كان من الثابت تاريخيا وجغرافيا بل وحتى بيولوجيا علميا أن الشعب الامازيغي الذي كان يعرف قديما بالبربر، هو نفسه الذي أصبح اليوم يطلق عليه الشعب المغاربي ، فانه من الثابت كذلك أن هذا الشعب – في جل عصوره الماضية – لم تكن لغته الأمازيغية تشكل بالنسبة إليه قضية وجود ، أو قضية سيادة وكرامة ، أو وسيلة تقدم وارتقاء حضاري، بمعنى أنه لم يكن يدرك ارتباط حياته بوجود هذه اللغة ، أي إذا ماتت يموت ، ولم يكن كذلك يعي أن المساس بها يعتبر مساسا بسيادته الوطنية ، وبالتالي بكرامته، كما أنه لم يكن يشعر أن تشييد حضارته بلغة أخرى غير لغته الأصلية ، يعتبر بمثابة البناء في أرض الغير، أي أن كل ما بناه يمحى ويضيع ، بدليل وقوعه فعليا ضحية هذا البناء الضائع ، حتى ان بعض المؤرخين يسـخرون منه بكونه الشعب الذي لم يخلف في حياته أية حضارة ، لانه لم يرث عن أجداده سوى حلق الرؤوس وأكل الكسكس ولبس البرنوص.

وبالفعل فقد عرف عن هذا الشعب أنه عندما كان ينجح ببسالته المعهودة في طرد غاز من الغزاة ، فإنه يعتقد – في سداجة تكاد تكون بلهاء –  ان الغزو انتهى ، فيستولي على لغة الغازي ،  معتبرا إياها  من بين غنائم الحرب ، ويتملكها مستمرا في التعامل بها على حساب لغته الأصلية ، معتقدا أنه يقلص بذلك المسافة بينه وبين تقدمه  الحضاري أو الروحي ، غير أنه بفعله ذاك لا يمطــط هذه المســافة فحسب ، بل يحدث من غير ان يدري شرخا كبيرا في كيانه ، بين المحتفظين من شعبه بلغتهم الامازيغية ، وبين المتهافتين منه على اكتساب لغة الغازي الجديدة ، سعيا منهم الى الارتقاء المادي أو الروحي ، على اعتبار ان التهافت الشعبي المستعجل والعشوائي على تلك اللغة كان يؤدي مباشرة الى استحذات لغة دارجة جديدة ، تتشكل من خليط  من الامازيغية ومن اللغة الاجنبية المرسمة بقرار سياسي ، ما يجعل البسطاء الجاهلين بحقيقة الامور يعتقدون ان هذا الشرخ مصدره انقسام عرقي بين الامازيغ من جهة ،  وبين الاثنية المنتمية الى الشعب الغازي من جهة اخرى.

هكذا كانت حال هذا الشعب منذ العهد القرطاجي قديما ، مرورا بالعهد الروماني، ثم الإسلامي، الى العهد الفرنسي والإسباني والإيطالي في العصر الحديث.    

إذن ، يمكن القول أن غياب وعي هذا الشعب بالقيم الجوهرية المرتبطة بلغته الأمازيغية هو ما أدى بهذه اللغة الى ارتكانها الهامش ، الذي كان يتقلص بدوره مع مرور الزمن الى أن أصبح في الوقت الراهن محصورا في خيط رفيع في أقاصي الجبال والواحات  الصحراوية ، ثم على اعتبار ان غياب هذا الوعي كان عاما وشاملا ، لانه لم يكن مقتصرا على نخبتيه : الحاكمة والعالمة فحسب ، ، بل وحتى على العوام الناطقين في مناطقهم بالأمازيغية ، لأن حفاظ هؤلاء عليها لم يكن بسبب حمايتهم لها نتيجة وعيهم بقيمها ، بل فقط بسبب تواجدهم في الجبال الوعرة وفي الواحات المعزولة ، البعيدة عن نفود الدولة المركزية القوية ، التي تتبنى كما سلف الذكر لغة الغازي كغنيمة حرب ،  فتنشرها في ربوعها.

وهكذا ظلت الأمازيغية في ركنها الهامشي تنتظر الموت النهائي ، هذا الموت الذي كان الجميع مقتنعا به لدرجة أن مؤرخ المملكة السابق عبد الوهاب بنمنصور تنبأ به في كتابه “قبائل المغرب”مؤكدا حتمية انقراضها كليا بعد 50 سنة من صدور كتابه.   

غير أن الأمور جرت بغير مجرى المنتظرين لموتها ، إذ ظهرت في الستينيات من القرن الماضي حركة ثقافية فريدة من نوعها ، لم يشهد تاريخنا كله مثيلا لها ، هي الحركة الثقافية الامازيغية التي آمنت بالقيم التالية:

اولا – أن الأمازيغية في جوهرها تعتبر قضية وجود ، أي مسألة حياة أو موت ، ولذلك فهي في نضالها من أجل إعادة الحياة لها وكذا للشعب الامازيغي العريق ، تجعل من نفسها بامتياز حركة احيائية بالنظر الى هدفها النبيل الرامي الى ضخ الحياة في هذين الكائنيين الطبيعيين.

ومما يضفي على هذه الحركة الطابع الوحدوي الملم للشمل ، أنها لا تحصر الشعب الأمازيغي المراد إحياؤه في الناطقين بالأمازيغية فحسـب ، بل تعتبر أن كافة مواطني شمال أفريقيا ينتمون الى هذا الشعب ، من دون تمييز بينهم في اللغة ، أو في اللون، أو في النسب العائلي الخاص، أو في الموطن، وسندها في ذلك أن الهوية الأمازيغية العامة المشتركة ، تستمد أصلها من الانتماء الى أرض شمال أفريقيا الأمازيغية ، وليس من أي انتماء آخر عرقي، أو ديني ، أو ثقافي، فشعارها في هذا هو: أن كل من يعتز بشرف انتمائه الى هذه الأرض يكتسب تلقائيا هويتها الطبيعية الامازيغية ، تماما كما يكتسب الهوية الفرنسية، من ينتمي الى أرض فرنسا، والهوية الفارسية من ينتمي الى أرض الفرس، والعربية من ينتمي الى أرض الجزيرة العربية وهكذا دواليك.

ثانيا –  أن هذه الحركة آمنت كذلك بأن الأمازيغية تعتبر قضية سيادية من منطلق إدراكها أن سيادة الشعوب الحقيقية تقوم على ثلاثة مقومات أساسية هــي:

– سيادة الوطن.

– سيادة الكيان.

– وسيادة اللسـان

فهذه المقومات او بالاحرى هذه الأثافي الثلاث للسيادة الوطنية قام شباب الحركة الأمازيغية باختزالها في الشعار المشهور التالي : أكال أي: الأرض، وأوال أي: اللسـان،  ثم أمادان أي: الكيان أو الشعب، معبرين عن ذلك برفع ثلاثة أصابع اليد.

ولذلك فإن هذه الحركة في نضالها كذلك لتحقيق هذه السيادة الكاملة تجعل من نفسها حركة تحررية حقيقية.

ثالتا – أما الشيء المهم الذي تتميز به هذه الحركة فهو اعتمادها على العقل وما أفرزه هذا العقل من علوم وتقنيات حديثة في إقناع شعبنا بتصالحه مع ذاته، ومع تاريخه، ومستقبله، ومع وطنه، ومع ثراته الحضاري، ومع دينه، ومع نظامه السياسي، وهي في ارتكازها على العقل تجعل من نفسها بحق حركة تنويرية لسعيها الى تخليص مجتمعنا من القصور الفكري الذي قيده عن الالتحاق بفضاء الأنوار والتطور.

والحق أن المقارنة بين المرتكزات التي استندت عليها هذه الحركة في مسارها ، مع المرتكزات التي سبق للشعوب الأوروبية أن استندت عليها في نهضتها ، نجد أن هناك تطابقا وتشابها بينهما  يكاد يكون تاما ، ذلك أننا نعلم أن الشعوب الأوروبية اعتمدت في نهضتها على الأسس الكبرى التالية :

1)- انفتاحها على ثراتها القديم وعلى التاريخ اليوناني والروماني.

2)- اعتمادها في نهضتها على لغاتها الوطنية المحلية بدلا من اللغة اللاتينية السائدة.

3)- اعتمادها أيضا على استخدام العقل بغير توجيه من أي كان، وإيمانها بقدرة هذا العقل على السير بها في طريق نهضتها.

ومن المحقق أن الحركة الأمازيغية قامت بدورها بتأسيس مشروعها المجتمعي النهضوي على نفس تلك الأسس، لثبوت انفتاحها على تاريخ شعبنا القديم ، بعد أن كان هذا التاريخ يعتبر في عرف ثقافتنا التقليدية من مخلفات الجاهلية المنبوذة ، ثم لثبوت ايضا قيام هذه الحركة بالدعوة الى اعتماد اللغة الأمازيغية الوطنية ، ثم لثبوت كذلك استخدامها للعقل وما أفرزه هذا العقل من علوم وتقنيات حديثة في الدفع بمجتمعنا الى التصالح مع ذاته ومع تاريخه ومستقبله وكل مكونات وطنه.

ومن ألطف الأقدار أن جل الأفكار الاحيائية والتحررية التي ناضلت من أجلها هذه الحركة نجدها منعكسة في دستور 2011 الذي أعلن المغاربة فيه لأول مرة في التاريخ عن كشف هويتهم الأمازيغية وعن اعتزازهم بها، بعدما كانوا طيلة قرون عديدة يخجلون منها ويخفونها عن الأنظار، كما أعلنوا فيه كذلك عن ترسيم لغتهم الأمازيغية مع إدماجها في جميع مجالات الحياة العامة ، مقررين في شجاعة بطولية ناذرة تحرير أرض وطنهم من التبعية للوطن العربي في الشرق ، وتأكيد انتمائها الى وطنها الأصلي ((المغرب الكبير ))

إذن إذا ما صح تجسيد مضمون الفصل الخامس من الدستور لفكرة إحياء اللغة الأمازيغية وإعادة الاعتبار لها، فيصح القول كذلك الإقرار بانتقال اللغة الأمازيغية من الهامش الذي كانت تقبع فيه منذ مئات السنين الى بؤرة المركز.

وهذا الانتقال الذي يبدو بحق في عداد تحقيق المستحيلات إن كان كما سلف الذكر قد تحقق بفعل نضال الحركة الأمازيغية ، فانه من الإنصاف ومن الموضوعية العلمية الاعتراف كذلك بان هذه الخاتمة السعيدة  التي انتهت بها دراما الأمازيغية ، ما كانت لتكون بذلك الشكل الجميل الذي انتهت به ، لولا فضل عاهلنا المستنير جلالة الملك محمد السادس الذي اقتنع بعدالة القضية الأمازيغية محدثا من أجل ضمان حقها في البقاء وفي النماء ، مؤسسـة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ،  وانه ما من شـك أن انفتاح المؤسسة الملكية على هذه اللغة هو من مهد لأن يجري انتقالها رسميا من الهامش الى المركز في سلاسـة ويســـر، بمقتضى دستور سنة 2011.

لكن ان كان هذا الانتقال بحمولته التحررية والتنويرية العميقة يشكل لحظة تحول فارقة ومفصلية في مسار حياة شعبنا ، فان حزب العدالة والتنمية الحاكم لم يكن – مع الاسف الشديد – في  مستوى هذه اللحظة التاريخية الهامة ، لانه باضرابه الحصار عن صدور القانونين التنظيميين المتعلقين بتفعيل ذلك الانتقال ، يعتقد ربما  أنه سيعيد الامازيغية الى مربع الهامش الذي كانت فيه ، غير انه هيهات ان يحقق هدفه الغير النبيل هذا  ، من منطلق انه بفعله ذاك لم يقم في الحقيقة الا بتهميش  وتقزيم نفسه لمعاكسته ارادة الشعب ، أما الامازيغية فستحيا وسترقى لانه طالما ان الشعب أراد لها الحياة  معلنا عن هذه الارادة في دستوره ، فلابد حتما أن يستجيب القدر .

الصافي مومن علــي


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading