كما أشارنا في مقال سابق حل وفد روسي هام بمدينة اكادير باستضافة من مؤسسة تعليمية خصوصية ، لتتبع اطلاق اسم الشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين على هذه المؤسسة والحضور في انشطة ثقافية وعلمية بالمدينة، ومن بينها توشيح المفكر المغربي الامازيغي الدكتور حسن اوريد بوسام رفيع يحمل اسم الشاعر الروسي الكسندر بوشكين ، حيث تفضل ممثل عن اتحاد كتاب روسيا بالقاء كلمة مؤثرة في حق اوريد وسلمه الوسام / الجائزة باعتباره احد المفكرين المغاربة المتميزين في الابداع والكتابة، وبدوره القى اوريد كلمة معبرة امام الحاضرين من الوفد الروسي وعدد من المتتبعين في ساحة المؤسسة المحتضنة للقاء..وهنا الكلمة الهامة لحسن اوريد ننشرها تعميما للفائدة :
كلمة السيد حسن أوريد بمناسبة التتويج بجائزة بوشكين
هل التتويج ترف في مسار الكاتب، أم هو أمر ملازم لمسيرته، لا تستقيم من دون محطات تقف عند نتاجه فتحتفي به ؟ إن كانت الكتابة رسالة، فالتتويج يضحى حشوا، وإذا كانت تروم الشهرة والذيوع والحظوة، فالتتويج من جوائز واحتفاء وتكريم، هي إحدى الأدوات لقياس شهرة كاتب ما. نعم نحن نعيش وضعا جديدا يتعين علينا أن نحدد فيه فهمنا للأدب، هل هو متعة، هل هو سلعة، أم هو عملية تَجْلية لكشف الواقع وحمل رسالة وتلمس الحقيقة، دونما التفريط في الجمالية والمتعة اللتين ينبغي أن يكونا ملازمين للإبداع الأدبي.
مهما كان تساؤلنا وفهمنا للأدب، فالتتويج يكتسي بالنسبة للكاتب المبتديء شحذا، وهو بالنسبة للكاتب الذائع الصيت تكريس. وأنا لست في هذا الوضع أو ذاك.. لست بالمبتديء قد يمهد له اعتراف ما السبيل، ولست في نهاية مشوار من أجل تتويج مسار.
ومع ذلك كله، لست أكتم بهجتي بالحصول على جائزة بوشكين التي تَفضَّلَ اتحاد كتاب روسيا بمنحها إياي. أدرك رمزية بوشكين، وأدرك أهمية الأدب في بلد تولستوي ودوستويفسكي وتورغنيف…وهل رواية القرن التاسع عشر إلا الرواية الروسية ؟ ألم يُجمل فرويد عصارة الأدب الغربي في مؤلفين فريدين، هامليث لشكسبير والإخوة كرامازوف لدوستويفسكي… كان لافتا أن البلد الذي كان يقفو أثَر أوربا في كل أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية منذ بطرس الأكبر فكاثرينا، أن يتبوأ مدارج الأدب، وأن ينتقل من طور التلميذ إلى الأستاذ…هل يمكن فصل تفتق الأدب الفرنسي في بداية القرن العشرين، مع جيد وسارتر وكامو، عن تأثير دوستويفسكي مثلا ؟
يعرف كل مهتم بالأدب الروسي أن بوشكين هو واضع أسس الأدب الروسي الحديث، وواضع معالم زينته كذلك، في لغته الشاعرية، التي لا أقوى إلى النفاذ إليها للأسف الشديد لعدم معرفتي للغة الروسية، وهو مَن يلتقي لديه التحليل الدقيق لدخائل النفس الإنسانية مع قوة التصوير، ويمتزج عنده الاهتمام بالرواية، والقصة القصيرة والمسرح والشعر… لا غرو أن يكون بوشكين أبَ الأدب الروسي الحديث. وما تزال الجملة التي كان يرددها الجنود الروس لدفع خطر النازية، “دافعوا عن بلد بوشكين” عالقة في الأذهان، معبرة عن مكانة بوشكين في وجدان روسيا… ولعل أجمل ما في حياته مماته. مماته في صورة بطولية، ولمَّا يبلغ الأربعين من عمره، في مبارزة من أجل شرفه. ما الأدب، بل ما الحياة، من دون قيم الفروسية أو الشهامة ؟
نعم أنا سعيد بهذه الجائزة لأنها تأتي من بلد طرح أسئلة عميقة في القرن التاسع عشر، كانت صدى لما يعتمل في أوربا الغربية ؟ وكان ساحة لأسئلة ألحت على حضارات تعرضت لتحدي الحضارة الغربية، كما الصين والهند والعالم الإسلامي. ألا يمكن تصور التحديث إلا بداخل القوالب الغربية ؟ أم أن هناك سبلا أخرى، لا يمكن أن تقوم من دون روح الأمم، تلك التي عبر عنها دوستويفسكي، في الحالة الروسية، بالروح السلافية، والتي تنتصب ضد تشييء الإنسان، وسلبه الإرادة..هي من الضروري أن نخضع لنظرة ماكس فيبير من أن التحديث لا يمكن أن يتم إلا بتقسيم المهام، وتجزيء العمل، ولو أدى الأمر إلى انتفاء المعنى..ماذا يبقى من الإنسان إذا انتفى المعنى، وإن أصبح آلية في آلة، أو أداة استهلاك، أو رقما، أو بطاقة ائتمان ؟
أسئلة القرن التاسع عشر تعود إلى الواجهة..عادت قبل عشرين سنة، حين ربط فيلسوف أمريكي فوكوياما، منتهى التاريخ إلى ما ذهب إليه هيجل من أن مسيرة الإنسانية تحققت مع الليبرالية التي حملتها فلسفة الأنوار، وسعى نشرها نابليون في أوربا. و هل يمكن التستر عن نتائج اللبرالية، سواء في القرن التاسع عشر، حين استعبدت شرائح واسعة واستعمرت شعوبا، أو ما أفضت إليه في حلتها الجديدة، مع العولمة وما صاحبها من اختلالات اجتماعية واقتصادية ؟ ألا يمكن لأسئلة القرن التاسع عشر، أن تعود كاملة، ومنها الخطيئة الأصلية التي تنطوي عليها المنظومة الليبرالية، سواء أكانت قديمة أم جديدة، ألا وهي سوء التوزيع ؟
استمسك دوستويفسكي بالروح السلافية ليرفض الاستيلاب. يمكن لروح الشعوب وثقافتها أن تسعفنا لتلمس السبيل في طريق مُعتم. نعم العالم في سباق في الظلام، ومن الضروري أن نقدح الذبالات التي يمكن أن تنير السبيل لتجنب الاصطدام. وأعتقد جازما أن الأدب، أو كل ما يرتبط بالوجدان، قد يساعدنا على تلمس الطريق ويجنبنا العشو في الظلام…الأدب يمكن أن ينقذنا مما يسميه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuze بالكارثة. نوتة الموسيقي، وريشة الرسام، ووصف الكاتب، يحيل الكارثة حطاما ويسبغ المعنى على الحياة والثقافات والجماعات.
نعرف أن الشعوب في المجتمعات القديمة، إذ تنتهي من عملها تخلص لذاتها فتطلق العنان لقرائحها. تحكي قصصها، وتنسج ملاحم أسطورية تُدوّن بها تاريخها ووجدانها ، وتتداولها ما بينها، وتلقنها لناشئتها، ومن خلال هذه العملية ترسخ انتماءها، وتسلم المشعل إلى الخلَف …لنتصور أن هذه العملية أصبحت تتم بمقابل، وأنها تقتضي أجرا، أيُّ شعور بالانتماء سيبقى إذاك، وأي وعي ستحمله الجماعة، وأي أمل سيحملها، وأي رسالة ستُنقل للأجيال المقبلة ؟ وهل يعيش الإنسان بالخبز وحده، وللخبز وحده ؟
أتذكر ها هنا مقولة لدوستويفسكي : أحب العدل مع المسيح، وإذا دُفعت للاختيار ما بين العدل والمسيح، سأختار المسيح على العدل..
لربما تم اختيار العدل على المسيح في بلد دستويفسكي في فترة من تاريخه، لربما اعتُبر أن الخيارين متضاربان ؟ ألا يمكن أن نربط بين دواعي العدل ودواعي الوجدان ؟ أليس الأدب إحدى ساحات هذا الترابط..؟ هناك ما هو أسمى من الحياة، يقول الأديب البرتغالي بيسوة، الأدب. لكل ما يبتديء نهاية، وللحياة نهاية، مهما كانت تجلياتها وشؤونها، أحظوة، أشِقوة، ولكن الأدب أو الفن عموما، هو ما يتأبى على الفناء، هو لحظة كشف المعنى، هو ساحة التملي، هو استجلاء آفاق المستقبل…هو تكثيف للحياة، في أزمنتها الثلاث، ماض، وحاضر ومآل…يمكن أن نشعر، ونفكر، ونتجاوز وضعا قائما، ونحلم بآخر، من خلال الإبداع…يمكن أن نخلط الأزمنة والشخوص و الأمكنة، من أجل تلمس الحقيقة. قراءة هاملث قد تفيدنا في فهم ما يجري حوالينا أكثر مما قد تفيدنا قراءة جريدة الصباح، و تتبع نشرة أخبار المساء على الشاشة. قد نجد هامليث الدانماركي، أقرب إليها من جارنا الذي نتقاسم معه طابق العمارة، أو زميل المكتب، أو المنتخب المتحدث باسمنا والناطق باسمنا الذي يرطن كلمات بلا معنى، ويشفع ذلك بضحك مجلجل ؟ الأدب هو الساحة الرحبة حينما تضيق الساحات، ساحة الزمان، وساحة المكان، أو ما قد يعتمل في زمان ما، ومكان ما، من رؤى وخيارات وتصورات. في الرواية الشهيرة لميلان كونديرا، “خفة الكائن الحتمية”، لم يجد بطل الرواية توماس ما يعبر به عن زيغ السلطة سوى أن يحدث أوديب، ويتكلم باسمه، بالإحالة إليه حينما اكتشف أنه ضاجع أمه. هل يكتفي بالقول إنه لم يكن يعرف ؟ لم يكن يعرف، و لكنه لم يبريء نفسه من المسؤولية ففقأ عينيه.
لقد أتيت إلى الأدب علي سبيل الصدفة. من خلال مسالك عدة، لا تفضي بالضرورة إلى الكتابة أو للكتابة الإبداعية. درست العلوم السياسية، واشتغلت في مضارب السياسية، وأهمتني شؤونها، وغلبني طموحها…وكان لي أن أكتشف الجوانب الخفية من الممارسة السياسية…هذا الاكتشاف، المشفوع بالخيبة، هو ما دفعني أن أعيد الصلة مع تمرين كاد أن ينقضي من حياتي، أن أقرأ، وأكتب، وأتخذ لنفسي مسافة مع الأشياء، والأحداث والأشخاص ؟ استقيت فكرة بيسوة من أن هناك شيئا أهم من الحياة وحوّرتها : هناك ما هو أسمى من فعل السياسة، التفكير فيها…
بدأت الكتابة الإبداعية قبل عشرين سنة، مما يمكن نعته بمرحلة الهواية، في ساعات الفجر، وأنا أشتغل دبلوماسيا في واشنطن. حملت معي في تلك الفترة التي أعقبت سقوط حائط برلين والتلويح بنهاية التاريخ، الاهتمامات التي طفحت في بلدي والمنطقة عموما عقب حرب الخليج أو عاصفة الصحراء. كنت بواشنطن أتلقى دروس الفلسفة مساء من مؤسسة سميسونين، وأخلص صباحا للكتابة، وفي تلك الفترة كتبت روايتي الأولى” الحديث والشجن”، وهي تتضمن سؤالا جوهريا : ما ذا يعني أن ينهار عالم كان يحمل رؤية للعالم ؟ كان من الأسئلة التي جثمت على الشخصية الرئيسية هو السؤال التالي، أفلا يمكن استيحاء طقوس الهند حين يموت الزوج فتحرق معه الزوجة ؟ ألا ينبغي أن نتفسخ رمادا، يقول يوسف، بطل الرواية، لأن النموذج الذي كان يمتح منه تهاوى ؟ مات يوسف، أو قتلته، لأنه كان ينبغي أن يموت آنذاك.
أكببت على دراسة تاريخ بلدي في تلك الفترة، وكتبت رواية مستوحاة من التاريخ ومن التراث تنسج على منوال ابن المقفع، وتتأثر سابقة مزرعة الحيوانات لجورج أورويل، لم أنشرها إلا السنة الماضية…اهتمامي بتاريخ بلدي، دفعني أن أغور أعمق في جذوره، وأوظف سابقة أفولاي صاحب الحمار الذهبي. تكلمت باسم إنسان مُسخ حمارا فقد قدرة التعبير ولكنه لم يفقد الإحساس ولا التفكير. يسعى جهده أن يستعيد وعيه. استعادة الوعي مجاهدة و صراع…
ما زلت أؤمن بأن الأدب يمكن أن يُفصح عما درج الناس على التواطؤ بشأنه أو لم يستطيعوا الإبانة عنه. ما زلت أؤمن، رغم ظروف موضوعية محبطة، أن القراءة ستصبح طقسا من طقوسنا، والجنوح إلى التجريد ميسما من ميسمنا، وتصور الأشياء قبل إنجازها، جبلة من جبلتنا…ما زلت أؤمن أن الأدب ليس ساحة المتخلفين عن الركب، بل ذوي البصيرة، ما زلت أؤمن أن عبقرية بلدي حبلى، ما زلت أؤمن أن مقياس التمييز لا يستقيم و لغة الأرقام.. ما زلت أؤمن بإمكانية الحلم، وبخيارات غير خيارات العد الباردة، والترقب الحذر، والمسار عوض المآل. ما زلت أؤمن بقدرة الإنسان على التميز ما بين الغاية والوسيلة، وما زلت أؤمن بانتصار النوازع الإنسانية عوض دواعي القتل والحقد والكراهية التي تتلبس بإيديولوجيات عدة وكوابيس عدة…
أنا شاكر للاتحاد كتاب روسيا هذا التتويج، ومُنحنٍ إجلالا لذكرى بوشكين، و عرفانا لبلد بوشكين.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.