أكادير : ذاكرة مكان

عبد الرحمان بلعياشي

وانا صغير في بلدتي الصغيرة والنائية، على السفوح الجنوبية للأطلس الكبير، لم تكن كلمة “اكادير” تعني لي بالأمازيغية أكثر من “حائط” أو “سور” أو “جدار”، وهو ما عرفت سنوات بعد ذلك أنه يسمى بسوس “أغراب”. لم أكن أعرف بعد بوجود مدينة مغربية تحمل هذا الإسم، بحكم السن أولا، وبحكم البعد عن كل المراكز، وعدم وصول التلفزة بعد إلى العالم القروي آنذاك، ثانياً. الكلمة سمعت بها عندما بدأت في الكبر، لكن سمعت بإنزگان قبلها، وكان نطقها الشائع آنذاك بين الساكنة القروية هو “إمزگان”. كنت أسمعها من أفواه العمال من الساكنة الذين كانوا محظوظين ويشتغلون في شركات الكهرباء التي كانت توجد مقراتها هنا باكادير. كان هؤلاء العمال عندما يعودون إلى البلدة والبلدات المجاورة، يتنافسون حد التباهي في سرد حكايات تصل حد الخرافة، هم أبطالها. وكنت كما باقي أقراني أستمع إليهم وأنظر إليهم بإعجاب منقطع النظير. عندها فقط عرفت أن اكادير هي مدينة من المدن المغربية لكن دون أن أعلم بالضبط موقعها على الخريطة، إذ لم أر بعد في تلك السن وفي بلدتي الصغيرة أية خريطة. كل ما أعرفه وأسمعه عنها كان عبارة عن روايات العمال الشفوية تلك حول مغامراتهم وبطولاتهم وتنقلاتهم في مختلف ربوع سوس، لربط مختلف مناطقها بالكهرباء أو بتقوية الشبكة الكهربائية داخل أحياء المدينة، فبدأت أسمع أسماء بعض الأحياء وكانت ترن في أذني رنينا تتخلله الدهشة والإعجاب. وكان أول ما سمعت هي تسمية “البطوار” أو “الباضوار” أو “البوطوار” كما ينطقها الكثيرون آنذاك و”لابينوبين”، أي المدينة الجديدة، في إشارة واضحة إلى بنايات اكادير الجديدة بعد زلزال 1960 المدمر.
كانت بداية وعيي بهذه المدينة هو عندما استقر بها خالي، الذي كان بدوره يعمل في قطاع الكهرباء، حيث عرفت أنه يعمل مسؤولا في شركة في ملكية مقاول فرنسي، فكان خالي هو المسؤول عن الاوراش وعن العمال والتقنيين الخارجيين، وكان يستقدمهم جميعهم من تمازيرت. لهذا كان عاديا ومألوفا أن يكون عمال شركة ما من نفس المنطقة أو الدوار. ما ينم عن تضامن بعضهم مع بعض، وايضا عن ثقة المسؤول في أبناء منطقته. وكانت هذه الظاهرة متفشية في كل تزگي نوزاليم وأسيف نتيديلي، حيث يتمركز هؤلاء العمال الذين يشتغلون ليس فقط في اكادير بل في أكبر شركات الكهرباء في الدارالبيضاء والمدن الأخرى. وكان هؤلاء العمال عندما يعودون إلى بلداتهم في المناسبات الدينية أوفي عطلهم السنوية، يتبادلون المعلومات والأخبار والطرائف، وتراهم يعرف بعضهم بعضا ويعرفون الشركات التي يشتغل فيها كل واحد منهم بل ويعرفون أيضا أرباب المقاولات والشركات التي يسيرونها أو بملكونها.
وارتبطت ذاكرتي بمدينة اكادير ذات عيد عرش 1986، قادما إليها من الرباط حيث كنت اتابع دراستي الجامعية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية. كان مجيئي إليها بالصدفة رفقة خالي الذي يقطن بها. رافقته في سيارته وهي من نوع سيتروين س 15، وكلي شوق لأكتشف هذه المدينة التي لطالما حكى عنها عمال شركات الكهرباء التي كانوا يشتغلون بها. رافقت خالي مستغلا مناسبة أعياد العرش التي كانت تقام آنذاك في عهد المغفور له الحسن الثاني، وكانت تقام يوم ثالث مارس من كل سنة وفي كل ربوع المملكة. وكانت تلك أول مرة آخذ فيها هذه الوجهة من المملكة. لم تكن لدي أية صورة قبلية عن المدينة مثلما تخيلت مثلا الدارالبيضاء عندما زرتها أول مرة، حيث تخيلتها مليئة ببنايات عالية وازدحام في الشوارع بالمركبات والمارة، وهي صورة بنيتها مما كان العمال القادمون منها يحكون عنها ونحن صغار.
كان منزل خالي يتواجد في حي القدس، وهو أول حي تعرفت عليه ولم يكن بالحالة التي عليه اليوم. كان حيا صغيرا في طور البناء، وكان حي الطلبة بامتياز إضافة إلى حي بوارگان أو “ليراك”، نسبة إلى شركة العمران التي شيدته، حيث اعتبر ربما أول تجزئة جهزتها وبنتها هذه الشركة التابعة للدولة. كما أن الكليتين اللتين فتحتا أبوابها أمام الطلبة سنة 1984، هما كلية الآداب والعلوم الإنسانية وكلية العلوم، ولم تكونا بدورهما في الهيئة الحالية. وكانتا تابعتين آنذاك إلى جامعة القاضي عياض بمراكش ولم يفك الارتباط بها إلا بإحداث جامعة ابن زهر سنة 1989. وكانت زيارتي هذه مناسبة لالتقاء اصدقائي ممن درست معهم في ورزازات واختاروا متابعة دراستهم هنا باكادير عوضا عن مراكش، حيث كانت لطلبة إقليم ورزازات هذه الإمكانية. كان اللقاء سهلا وبسيطا ولا يحتاج ترتيبات معينة رغم عدم توفر إمكانيات التواصل المتاحة اليوم من هاتف ثابت أو نقال أو وسائل التواصل الإجتماعي. كان مكان التقاء الجميع آنداك معروف وهو مقهى الجامعة المتواجد في قلب حي الداخلة حيث توجد الكليتين. يكفي أن تسأل نادل المقهى أو الطلبة المنحدرين من ورزازات حتى تزود بكل المعلومات التي تبحث عنها.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading