تحتضن مدينة أكادير من 10 إلى 13 دجنبر 2019، مؤتمرا دوليا حول موضوع حماية الماضي : السكان والمجتمعات والتراث، وذلك برحاب كلية الطب والصيدلة بأكادير، هذا ومن المتوقع أن يعرف هذا المؤتمر مشاركة ما يزيد عن 200 مشاركا يمثلون مختلف الفعاليات المحلية من باحثين وسلطات محلية، إضافة لمجموعة من الخبراء في التراث والأركيولوجيا وممثلين عن صناديق دعم دولية؛ قادمين من 26 بلدا تمثل دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا “منا”. حيث تزخر هذه الدول بملايين المواقع الأثرية المهمة، غير أن أغلبها مهدد بمختلف عوامل التدهور بفعل التغيرات المناخية، والزلازل والفيضانات العنيفة، وكذا عوامل التدخلات البشرية…، ولمحاربة هذا النريف الذي تعرفه هذه المواقع وسعيا منها للمساهمة في ترميمه.
وعلم الموقع أن والي جهة سوس ماسة افتتح عشية يوم الثلاثاء 10 دجنبر 2019 رفقة وفد هام يتقدمه رئيس جهة سوس ماسة ورئيس جامعة ابن زهر وعدد من الشخصيات من مدينة أكادير وضيوف المؤتمر وممثلي وسائل الاعلام، وقد ألقى الوالي كلمة بالمناسب ندلرجها كاملة تعميما للفائدة:
يَسُرُّني أنْ أُرَحِّبَ بِكُم جَمِيعًا بمدينة أكادير وجهة سوس ماسة، وأن أعرب لكم عن سعادتي بالتواجد معكم والمشاركة إلى جانبكم فِي افْتِتَاحِ النسخة الخامسة من مؤتمر “حماية الماضي”، الهادف إلى مُكافحة الأخطار الْمُهَدِّدَة للمواقع الأثرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والعمل على إنْقاذِها من الضَّياع و إعادة تأهيلها ورَدِّ الاعتبار إليها وإبْراز قِيمتَها الأثرية وتَثْمينها، بِوَصْفِها تُراثًا إنْسانِيًا غَيْر قابِل لِلتَّعْوِيض، وتَعْبِئَة العلماء والخبراء والسلطات العمومية والجهات المانِحة لِتحقيق هذه الْمَرامي النَّبيلة، من خلال الدراسة العلمية المتخصصة لآلِيَّات الْحِفاظ على التراث، وإنْقاذه عبر عمليات الترميم والتوثيق والرقمنة والتثمين، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في ذلك وجَعْلِها جُزْءًا لا يَتَجَزَّأ مِنَ الْمُمارَسات الهادفة إلى اسْتِعادَة التراث وإدارَتِه.
وتُرَكِّزُ النُّسْخَةُ الحالية على طُرُق اشْتِغال مِهَنِيِّي التراث والمؤسسات والمجتمعات المحلية من أجل حِماية التراث الثقافي بِالمنطقة، واسْتِطْلاع مَكانَة ودَوْر هذا التراث في المجتمع، ونَظْرَة المجتمعات المحلية إليه.
ويَطِيبُ لي في البداية، أن أتَقَدَّمَ بالشكر الجزيل للسيدات والسادة الْمُنَظِّمين على اخْتِيَّارِهم لأكادير، حاضِرة جِهة سوس ماسة، لاحْتِضان هذه التظاهرة الفائِقَة الأهمية للمنطقة وللإنْسانِيَّة جَمْعاء.
خُصُوصًا وأن هذه المدينة، التي تَعَرَّضَت لِزِلزالٍ مُدمر في التاسع والعشرين من فبراير سنة 1960، مَشْحُونَة بِالرَّمْزِيَّة في مَجَالِ الْمُحافَظة على التُّراث بَعْدَ الكوارِث الطبيعية، ومُفْعَمَة بِالدَّلَالات الْعمِيقَة على مَدَى حَيَوِيَّة العمل على حِمايَة المواقع الأثرية واحْتِرام قِيمَتِها التاريخية وإنْقاذِها من خطر الإهمال ، ومِثَالًا حَيًا على قُوَّةِ إرادَة البقاء وإمْكانية الانْبِعاث من بَيْنِ أكْوَامِ الرُّكَامِ، بِفَضْلِ الْعزيمة الصَّادِقة والإصْرار الثَّابِت على رَفْع التَّحَدِّيَّات وتَحْوِيل الشَّدائِد إلى فُرَصٍ لِشَحْذِ الهِمَم من أجْل أهدَافٍ أبْعَدَ فأبْعَد في مَراقِي الحضارة.
وإنَّ رَدَّ الاعتبار لِلتُّراث وحِمايَتُه وتَثْمينُه التثمين المستدام، وإعادة تَأْهِيلُه وتَفْعيل دَوْرِهِ في المجتمع، لَمِن أهَم دعائِم التَّنمية المستدامة، التي يُشَكِّل فيها عُنْصُرُ الثَّقافَة والتَّارِيخ حَجَر الزاوِية في النّهضة الاجتماعية والقاعِدة الصَّلْبة للتطور الاقتصادي، بِاعْتِباره مَفْخَرَةَ الأمة ودَلِيل إسْهامِها الإيجابِي في الحضارة الْبَشرية، ورَمْزُ مكانَتِها بين الشعوب، والْخَيْط الرَّابِط بَيْنَ مَاضِيها وحاضِرها ومُستقبلها، وأرْضِيَّة حَيَاة أبنائها.
فالْمواقِع التُّراثِيَّة والمعالم التاريخية تُلَخِّص بِمُثُولِها لِلْعَيان قُرُونًا طويلة من التاريخ، وتُشَكِّل شَواهِدًا من الماضي بِمُخْتَلَفِ أبْعادِه، وتُجَسِّد هَوِيَّةِ الْمَجال وخُصائِصه الْمُمَيِّزَة، لِذلك من الواجِب الإنْساني الْمُبادرة والعمل على المحافظة عليها والحيلولة دُون تَدَهْوُرِها أو ضياعِها، ذلك لأنه من حَقِّ الْأَجْيَال الحاضِرة والْمُسْتَقبلية اسْتِعادَتُها، لِتمكينها من صِيَّانَةِ جُذُورِها وإتاحة الفرصة أمامَها للتَّشَبُّع بِالْقِيَم الجمالية بِمَا يُعَزِّزُ لَدَيْها مَبادِئ الْمُواطَنَة الإيجابِيَة والْحُرية الْمَسْؤُولة ويُقَوِّي شُعُورَها بالانْتِماء، ويُرَسِّخُ ثِقَتَها في ذاتِها وفي قُدْرَتِها على المساهمة بِدَوْرِها في المسيرة الحضارية لِلْبشرية .
إلى ذلك، فإن التُّراث الثقافي يعد من الأدَوات الأساسِية لِلنُّهوض بالتَّنْمِية، بِمعناها الْمُنْدمِج والشَّامل، وأحد العوامِل الرئيسية لِتعزيز جاذبية المجال والرَّفْع من تَنافُسِيَتِه، والْحِفاظ على خُصوصِيات المناطق والجهات، كما أن مواجهة التهديدات التي يَتَعَرَّض لها هذا التراث وتوثيقه وإنقاذه وتثمينه يُعَدُّ إحْياءً لِذاكرة أولَئِك الذين شَيَّدُوا تلك الواقع والمعالم، والذين حَرَسُوها على مَرِّ الأزمان والعصور السَّالِفَة، ونَوْعًا من رَدِّ الجميل لهم.
حضرات السيدات والسادة
لقد شَكَّلَت جهة سوس ماسة وحاضِرتُها أكادير، طِوال التاريخ، القديم منه والحديث، صِلَةَ وَصْل، ليس فقط بين شمال المملكة وجنوبها، ولكن أيْضًا بين المشرق العربي وبُلدان إفريقيا جنوب الصحراء ، وكذلك أيْضًا بين هذه الأخيرة والدُّوَّل الأوروبية ، فكانت الْمَنْفَذ البحري لِشَبكة طرق القوافل العابرة للصحراء، وسُوقًا تِجارِية بطابَعٍ عالَمِي، وجِسْرًا لِلتَّبادُل، ليس فقط لمُقايَضَة المنتجات الثَّمينة والسِّلَع المتنوعة، ولَكِن، وعلى وجْه الخصوص، لِلتَّلاقُح الثقافي والتعارف الحضاري والتبادل الفكري، وفَضاءً لِلتَّعايُشِ والتَّسامح واحْترام الآخر، مما كَفَل لها، على مدى التاريخ، صيتًا ذائعًا وإشْعاعًا حضاريا عابرًا للحدود والقارات، وخَلَّفَ لها تُراثًا في غاية الثراء والتَّنوع والأصالة.
كما تتوفر هذه الجهة على شَواهد كثيرة على غنى تراثها الأرْكيُولوجي، فَالتَّواجُد البشري بِها سَحِيقٌ في الْقِدم، ويَعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وتَزْخَرُ بتُراثٍ مِعْماري ضارِبٍ في التاريخ، يَتَجَلَّى في قُصُورها وقَصباتها المتعددة، وفي مَدِينَتَيْها الْعَتيقَتين، تارودانت وتزنيت، اللَّتَيْنِ تُعَدَّان مِنْ أعْرَق الْمُدُن بِبلِادنا، وتَضُمَّان مَعالِمَ وصُرُوحٍ في غاية الأهَمِيَة الْحَضارية والثَّقافية والرُّوحِيَة.
وتَجْدُر الإشارة هُنا إلى الْمجهودات التي ما فَتِئت تبذلُها الدولة المغربية لإنْقاذ وحِماية وتثمين التراث عُمُومًا، سواءً منه المادي وغير المادي، في جميع جهات المملكة، بما في ذلك تأهِيل وتَثْمِين الْمُدن العتيقة، وذلك في سياق تنفيذ ومُواصَلة البرامج التي أعْطى جلالة الملك محمد السادس، أعزَّ الله أمره، الانْطِلاقة لَها لإنْقاذ وتَثْمين المُدُنِ التاريخية، وتَحْسين ظُروف عَيْش ساكِنَتِها، والمحافظة على تُراثها الْعُمراني، والنُّهوض بِثرواتها الثقافية الأصِيلَة وصِناعاتِها التَّقْلِيدية الْعَريقة، لِلدَّفْع باقتصادها الاجتماعي والرَّفْع من جاذِبيتها وتنافسيتها الاقتصادية والسياحية، واعْتماد نَموذَجٍ حضَري شامِل ومُسْتَدام، واسْتِحْضار العناصر الْحَيَّة في التُّراث الثقافي، وتَوْظِيفِها في بِناء الْحاضر وإرْسَاء دَعَائِم الْمُسْتَقْبَل.
حضر ات السيدات والسادة
إن حِمايَة الماضي من خلال إنْقاذ التراث وتثمين المواقِع الأثَرية، يَسْتدعي تُكاثف الجهود بين مُختلف المعنيين، من سلطات وهيئات منتخبة ومجتمع مدني ومُنظمات دولية والْخُبراء والْمُخْتَصِّين والْمُهْتَمِّين مِن كل مكان ، نظرا لِضخامة هذا الورش ووَقْعِه الحميد على حاضر ومستقبل المجتمعات البشرية عموما، وحاجته المتزايدة، في ظِلِّ ما يَتَهَدَّد التراث الإنساني من أخْطار، ولاسِيَّما بِمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى اِنْتِهاج مُقارَباتٍ جديدة وبَرمجة مشاريع مُبْتَكَرة لِضمان الحماية الملائمة لهذا الماضي، الْمُتَجَذِّر في الأرْض والْمُوغِل في الْقِدَم، وإنْقاذ كُلُّ ما يُمكن إنْقاذه من عناصِره، وتَوَخِّي الْحَذَر في ذلك والْحَيْلُولة دُون اللُّجُوء لِلْحُلول السهلة، والقيام بِمُوازاة الاسْتِعانَة بِالتِّقْنيات الحديثة في التَّوْثيق ورَقْمَنَة الْبَيانات وتَوْفير المعلومات الدَّقِيقَة والصُّوَّر ذات الجودة العالية والأبْعاد الْمُتَعَدِّدَة، عَدَم إغْفال عمليات التَّدْعيم والتَّرْميم التي تُراعي ذاكِرَة الأمْكِنَة والمواقع الأثرية، والاسْتِعانة في ذلك بِالمهارات الْمُتوارثة والأسالِيب الأصِيلة للساكنة المحلية.
لذلك فإن هذا المؤتمر الْمُوَقَّر، الذي سَتَشْهد جلساته التي ستُعْقد على مَدار أيَّامٍ ثلاثة، طَرْحَ العديد من أوْراق العمل الفائِقَة الْقيمة العلمية، ومُشاركة مجموعة كبيرة من الْمُختصين والخبراء الْمُمَثِّلين لِلعديد من المنظمات الدَّولية والحكومية وغير الْحُكومية، والْجهات المانِحَة والمؤسسات الجامِعِيَّة، والفاعِلِين الْخَوَاص ونُشَطاء المجتمع المدني، يُعَدُّ مُناسبة لِتبادُل الآراء والتَّجارب الناجحة، وتعزيز العلاقات بين الشركاء وتقوية العمل الْمُشْتَرَك وخَلْق المزيد من الْفُرَص للتعاون والتنسيق لِمُواكبَة ودَعْم الفاعلين وبِناء قُدُراتِهم، من خِلال إبْرام وتَطْوير شراكات طويلَة الأمَد في مجال إنْقاذ التراث والمحافظة عليه، واسْتِكْمال مرحلة رَصْد وتَحْديد ووَصْف ومُواجهة الأخطار الْمُهَدِّدَة له، بْالْعَمل على ترسيخ مكانَتِه داخِل المجتمعات الْمَعْنِيَّة وتَقْوِيَّة ارْتِباطَها الرَّمْزي به والنُّهُوض بِدَوْرِه في صِيَّانَة هَوِيَّتِها وتعزيز مَسِيرتِها نَحْوَ التَّقدم والازْدهار.
ولا يَسَعُني في الختام، إلا أن أُبَارِكَ جُهودكم النَّبِيلَة مُتمنيا لكم مُقَامَا طَيِّبًا بيننا، ولِهذه التَّظاهُرَة الفائِقة الأهمية كامِلَ النَّجاح.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.