03 – لقد مات ..لم ينتهي كل شيء

في تلك الليلة البيضاء .. استغرق إدراكي لِما اقترفته الموت في حقي وقتا طويلا..لم يسبق لي أن رأيت منظرا شبيها لذلك..أن تنفصل روح عن جسد أمامي ..اجهل تفاصيل حدث كهذا وحيتياته..ليس خوفا من الموت بل حبا في الحياة..فحتى ابي امتنعتُ عن رؤيته حتى لا تبقى تلك الصورة تترصدني كما تترصدني الأن صورة نصفي الثاني وهو يرحل. فما اصعب تلك اللحظة..وما أضعفني امامها..!
دخلتْ الممرضة وعرفتْ انه قد فارق الحياة.. وأنا كما أنا .. مصعوقة امام هول الألم.. شاردة الذهن..وكيف لا أكون.. إنها روحه حين تُقتلع من جسدي..!
كان صمتا رهيبا جمَّد الدم في عروقي.. وقفتُ أنظر اليه كثمتال مجرد من كل الاحاسيس.. وفي نفس الوقت هائج المشاعر.. اخرجني احدهم من الغرفة ..وانتظرت بماذا سيبرِّرون خروجي .. انتظرت ان يبشرني أحدهم بعودته للحياة..أو بمزاح الموت الثقيل على قلبي..خرجوا بعدها وهم يجرُّون سريره الى مكان ما .. مطأطئين رؤوسهم والحزن بادٍ على محياهم..ورغم ذلك لم أفهم.. أقصد انني تجاهلت فهم كل شيئ..تمنيت لو انني كنت مجنونة لحظتها..كي لا يتسلل لعقلي أي نوع من انواع الادراك والفهم لما يحصل..اخذوه بعيدا ..وتركوني.
جلست على الارض مصدومة ولسان حالي يقول.. لم لا توفون بوعودكم لي..لم ترحلون عني تباعا؟!
نهضت كالميتة وحيدة.. المستشفى خالية من الناس.. لقد خلد المرضى والكل الى النوم .. وبقيت انا وطيف الموت عابسا في وجهي.. ساخرا من حزني.
تبعتهم أبحث عمن يجيبني عن سؤال واحد.. حينها عثرت على ممرضة أعرفها في الطابق السفلي فسألتها وأنا أكتُم داخلي عذابا أشد من شهقة الموت: هل دقت ساعة منتصف الليل..؟اجابتني نعم نحن الأن الواحدة ليلا لماذا؟ قلت لها والدموع ملأت جفوني: اريد ان احتفل معه بعيد الحب ..الليلة هي الرابعة عشر من فبراير وقد اعتدت مباركته لهذه الليلة .. وغناءه لتايري تگريت اسطا ..فهل استطيع ان اراه!؟
ياله من رجل!! مبدع في كل شيئ.. حتى في اختيار يوم رحيله الأبدي..عاش وفي حياته حب.. وفي قلبه حب.. وفي حزنه حب.. وفي ألحانه حب.. والاجمل أن في عناده أعذب حب..عناده للموت حبا في الحياة..لقد لخَّص كل ذلك الحب في عيد الحب!
أوَليست أجمل رسالة تركها لنا هي ان نجعل الحب الهدف والوسيلة!
نظرتْ اليَّ الممرضة والجواب باد على محاياها.. انه الحزن عندما يجيب عن اصعب الاسئلة ! 
لقد مات ..لقد انتهى كل شيء.. فصبرا جميلا!
تسببت تلك الممرضة في اطلاق العنان لصرخة كنت اكتُمها منذ زمن طويل جدا..صرخة مدوية تحمل كل انواع ودرجات الالم..صرخة تنطق بعبارتين لا غير: لا تتركني.. لقد وعدتني..!
رحل ذاك الرجل الملائكي الذي لم يشبه الرجال يوما.. رجل ان فرحتُ مازحني.. وإن حزنتُ مازحني.. وإن غضبتُ مازحني..رجل يلعب بالكلمات لصالحي.. يسمعني.. يُحسِّني.. وعند الخصام لا يصالحني..بل يغني لي..لأنه يعلم أن صوته دوائي.
رجل..لكنه طفل يلعب.. يضحك..طفل مدلل يغضب وفي غضبه تنساب انوثتي. 
ذاك العاشق للحياة رحل.. ذاك النقي رحل وفي جعبته الكثير من ألحان الحياة لم تر الوجود بعد..تركني وهو الذي علمني كيف أطير حرة الى جانبه..وهو الذي علمني كيف أحب الحياة..رحل “باباينو ن اومارگ” وتركني أتجرع مرارة البياض!
والأن وقد كُسر جناحي وأنا أسمع خبر رحيله..تحطم كل شيئ داخلي..ارى الحياة من زاوية الوحدة.. الدموع والحسرة.
رأفة بصرخاتي.. اخدتني الممرضة المسكينة حتى تهدأ من روعي.. وهدَّأت جسدي بمسكن تحدَّيْتُ تأثيره عليّ بعدم توقفي عن البكاء..
لقد احبَّه الطاقم الطبي في شهرين عايشوه عن قرب.. وبكوه وحزنوا لفراقه.. فكيف لا احزن انا..!
رجل كذاك الذي رحل..كيف لا تعشقه الروح ..! 
لقد بكته الحياة فكيف لا أبكيه أنا..!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد