لا يخفى على أي منا أهمية العتبات النصية في التحليل الأدبي و في مساعدة القارئ و توجيهه ، فهي الجسر الممتد بين النص و القارئ / المتلقي ، و قد بينت مجموعة من الدراسات النقدية و العديد من النظريات أهمية العتبات النصية و دورها الهام في تيسير عملية القراءة التي تنقل القارئ من الفهم المباشر و الضمني للنصوص إلى مهرات عليا مثل التفكير النقدي و الإبداعي .
و لما حصلت على كتاب ” من الظلمات إلى النور رحلة التشافي من جروح الطفولة ” استوقفتني عتباته ، فأعددت ورقة تقديمية عنه في حفل توقيعه مساء السبت 13 دجنبر و الذي احتضنه نادي القراءة تادلسا بفضاء cultura founty بأكادير.
وقفت فيها عند عتبتين أساسيين :
العتبة البرانية : العنوان / صورة الغلاف / ظهر الغلاف / الفهرس / الإهداء / التمهيد ..
العتبة الجوانية : جروح الطفولة و مرحلة الوعي .
1 /العتبة البرانية
و يقصد بها العتبات النصية :و أولها العنوان
حيث يعتبر من أهم عناصر النص الموازي و ملحقاته الداخلية ، نظرا لكونه أساسا في قراءة أي عمل إبداعي على حد تعبير الكاتب جميل حمداوي ، و عنوان الكتاب يحمل من الدلالات و المرجعيات اللغوية و التأثيرية و الأيقونية التي تساعد على ولوج خبايا النص و عوالمه و فك أسراره .
و لعل العنوان و منذ الإطلاع الأول عليه فهو يمنحنا ثنائيات ضدية :
الظلمات / النور
التشافي / الجراح
إنها ثنائيات اندفعنا دفعا للبحث عنها بين منعرجات الكتاب و طياته .
أما صورة الغلاف فهي مدخل بصري و أراها متممة للعنوان و شارحة له ، فالكاتبة يسرت بشكل كبير و بسطت الطريق أمام المتلقي / القارئ إلى حد بعيد جدا .
و لا شك أن الكاتبة فاطمة الزهراء رحالي قد قطعت رحلة شاقة جدا لتقترح لنا نحن – القراء – هذه الصورة كواجهة لكتابها ” قد لا يعرف كثير من القراء و القارئات أن الوصول إلى غلاف الكتاب ، رحلة شاقة ، إذ تكون هناك محاولات كثيرة قبل الوصول إلى الغلاف المعتمد .” هذا ما قاله الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله و هذا ما يحدث بالفعل . و بالتالي فإننا نرى الانسجام التام و التناغم الكبير بين العنوان و الصورة حيث تزاوج اللغوي مع المرئي و اتحدا معا في نفس الثنائيات التي ذكرناها سالفا و كمل أحدهما الآخر .
ظهر الغلاف : يضم ثلاث إشارات :
الأولى توجيه من الكاتبة توضح من خلاله أن كتابها دعوة صادقة لرحلة تبدأ من داخلك و أن الشفاء الحقيقي يأتي من قرارك .
الثانية : اقتباس لكارل يونغ
الثالثة : صورة للمؤلفة مصحوبة بتعريف مهني عنها .
إن كتاب ” من الظلمات إلى النور ” يضم بين جناحيه تسعة فصول إضافة إلى الإهداء و التمهيد و المقدمة مع مدخل مفاهيمي و الخاتمة و قد ختم الكتاب بشهادات أصدقائها عن منجزها .
هذه إطلالة برانية عن الكتاب فماذا عن الإطلالة الجوانية ؟
2 /العتبة الجوانية
سنبدأها بتساؤلات مشروعة و هي إضاءات لمتن النص .
ما قصة الكاتبة مع جروح طفولتها ؟
ماهو أول خيط نور عاشته ؟
متى بدأت تعود لنفسها؟
كيف صافحت المؤلفة ظلها ؟ و فهمت أن الطريق لايضاء كله ؟
و كيف ولدت مدربة من من رحم الجرح ؟
هذه أسئلة و غيرها أجابت عنها الكاتبة على فضاء ورقي يعد بسبع و سبعين صفحة و لا يسعنا المجال في هذه الورقة لشرح و تفسير جروح الطفولة الخمسة : جرح الرفض / جرح التخلي و الهجر / الإذلال / الخيانة / الظلم …
لكن في المقابل يمكننا أن نستعين بما قاله الكاتب أحمد خالد التوفيق عندما قال ” من قال أن الكلمات لا تفعل شيئا ، إنها تلمس و تغرق و تنقذ و تدفئ ، تجعلك تطير و تتسع ، و أحيانا تلصقك في الأرض لتتمزق ”
فعلا من قال الكلمات لا تفعل شيئا
الكلمات لها سحرها ووقعها و كلمات كتاب ” من الظلمات إلى النور ” هيجت ، أربكت ، حيرت ، وشوشت ، شوشت ، أبكت و أدمعت ، ألهبت ، أثارت ، حرضت ، حركت …..
لعل طفولة كل واحد منا ملآى بالمشاعر المختلفة و المتضاربة ، موزعة بين الطمأنينة و الهدوء تارة و بين الخوف و الجزع أخرى بين الرفض و الحب و اللوعة و الأسى …..و فاطمة الزهراء رحالي واحدة من هؤلاء الاطفال و الطفلات و التي لم تمر طفولتها كما كانت ترجو أو تأمل ” لم أتلق الاحتواء العاطفي الذي يحتاجه كل طفل ص : 19
و نحن بصدد التساؤلات المشروعة و مع الكاتبة الرحالي و هي تقول : لا أعرف من أين أبدأ ؟ هل أبدأ من الجرح ؟ أم من الضوء ؟ كيف أختصر كل ما تهشم بداخلي ثم بني من جديد ؟ كيف أضع بين الصفحات مالا يقال ؟ مالا يفهم ؟ .
استهلال من الكاتبة جعلتنا من خلاله ننتقل بين صفحات الكتاب ، نتأمل تارة و نتألم أخرى ، بمشاعر مفتوحة على نوافذ مطلة على ظلنا الذي أسكتناه و أخمدناه خوفا ،ريبة ، ظلنا الذي طمسناه ، رغما عنه و عنا ، ظلنا و مشاعرنا التي لم نستطع أن نواجهها ، ليست لأنها مؤلمة فحسب بل لأنها مكبوتة ، متروكة ، مختفية لأنه لم يسمح لنا بالكلام عنها ، لهذا كان هاجس الكاتبة هو الانتقال من جروح الطفولة ، الانتقال من الظلمة و العتمة إلى النور و هي تخترق ببوحها خيوط الدجى في طريق يبحثها عن التعافي و التشافي ، إنها رحلة صعبة ، اقتضت منها الاشتغال على ذاتها و الانكباب على إصلاح ما تكسر فيها و لأنها آمنت بالرحلة و بجدواها فهي تقول :
التشافي لايعني ألا أتألم ، بل أن أعرف من أين يأتي الألم ،
و تقول أيضا : التشافي لايعني أنني لن أنكسر ، بل أنني لن أخفي الكسر .ص : 81
إن فاطمة الزهراء الرحالي تملك قدرة على التجاوز و على التخطي و على المواجهة و هذا راجع حسب كتابها إلى عاملين أساسيين :
عامل ذاتي : الرغبة و الإرادة و إدراكها أهمية السؤال و دوره في الوصول إلى المعرفة .
عامل موضوعي :و تمثل في مرجعيتين أساسيتين : المرجعية الدينية القرآن الكريم و المرشدة الدينية رجاء .
و المرجعية السيكولوجية و التي تمثلت في كنب التحليل النفسي خاصة كتب كارل يونغ .
إنها منحت كتابها للقراء عبر ثلاث مراحل :
مرحلة الطفولة الجرح : لماذا أنا هنا ؟ من أنا ؟ و ما الغرض من كل هذا ص 09
لم أتلق الاحتواء العاطفي الذي يحتاجه كل طفل ص : 19
مرحلة الوعي : القرآن كان يعيد لي الأمل ، يعيد لي الله من جديد لا كفكرة ، بل كحقيقة ص30
مرحلة نقل الوعي للآخرين : دورك أن تلهمي ، أن تحفزي ، أن ترافقي ،،،، فأحسن معلم هو من اختبر الألم ، ص 50
و ختاما فإن كتاب ” من الظلمات إلى النور ” رحلة التشافي من جروح الطفولة صرخة انطلقت من الظلام لتصل إلى النور عبر تتابع زمني جعل الكتاب يمزج ببن السرد الذاتي ( الوصف و السرد )و بين التحليل النفسي لعل هذا المزج هو الذي جعل الكاتبة تترك مؤلفها خارج التصنيف ، لأنني أراه جمع بين السيرة الذاتية و التطوير الذاتي .
إ ن كتاب من الظلمات إلى النور يقحم القارئ بحرفية فنية في سفر إلى أغوار النفس البشرية و سراديبها .
إنه درس في الحياة خارج من المحنة هو أنشودة تصدح بالثبات و المقاومة و التحدي و رفض السكون و الاستكانة و الانهيار و التفكك النفسي و الانحدار .
كتاب كتبته أنثى لتقدم شهادة عن أنثى انطفأت قبل الأوان ، شهادة حب مكلوم .
و أخيرا سنختم بما قاله الشاعر المتنبي :
كالخيل يمنعنا الشموخ شكاية و تئن من خلف الضلوع جروح
كم دمعة لم تدر عنها أعين و نزيفها شهدت عليه الروح
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.