مما لاشك فيه أن رواية “سيرة حمار ” للكاتب الكبير حسن أوريد ليست رواية تسرد تجربة ذاتية فحسب ،و ليست رواية تاريخية فقط ….بل هي عمل اجتمع فيه التاريخي بالانتروبولوجي و الجغرافي بالأدبي والسوسيولوجي بالفلسفي ، حتى غدا منجزا إبداعيا بنسق حكائي مميز ،يصعب الولوج إليه أو اختراقه بدون تسلح القارئ بمرجعيات فكرية و فلسفية و تاريخية و هنا أسحضر ما قاله الكاتب البشير البقالي في مقال له بعنوان “سيرة حمار لحسن أوريد حكاية و أشياء أخرى ” الصادرة بجريدة القدس 17 ديسمبر 2018 ” الكاتب كتب الرواية بمتعة ، إلا انه حرم علينا القراءة بمتعة ، لأنه نبش الأفكار أكثر من المشاعر ، و كانت الحمولة الفكرية ثقيلة جدا ، ما جعل النص عملية و ليست نتاجا و جعله كذلك سؤالا دراميا مربكا أكثر منه تطهيرا آمنا …”.
لعلي و أنا أقرأ هذا العمل السردي رغم قلة صفحاته أجده قد اختزن كما هائلا من الرؤى و الدلالات و الأفكار لتجعلنا باعتبارنا قراء نستمتع تارة و نضحك و نسخر أخرى ، و نتألم مرة ، و نتأمل و نفكر مرات ، و أحيانا كثيرة نتساءل عن هذا الزخم المعرفي و الروائي الذي استطاع أن يخلق هذه الدهشة و هذا الإرباك،لأن التعبير ظل قائما ، متماسكا ، منتظما ليعبر عن مأساة أخلاقية و روحية و قيمية .
إن مقاربتي لهذا المتن الروائي باعتباره خطابا روائيا غير متناه على حد تعبير باختين ، سيحد من قراءتي و التي لن تغطي كل مساحات هذا المنجز الأدبي ، بل سنقتصر على جرد بعض التيمات المهيمنة :
تيمة التحول /تيمة السفر / تيمة المعرفة / تيمة الجسد / تيمة الطبيعة / تيمة الحب / تيمة الاغتراب ….
و هذه الورقة ستحاول أن تستكشف بعض التموجات على مستوى المفردات و العبارات في تفاصيلها و أبعادها خاصة تلك المتعلقة بالتيمتين الأخيرتين :
تيمة الاغتراب :
من المعلوم أن جو القلق و الاضطراب و التوتر غالبا ما يدفع الإنسان إلى التمرد و المناهضة و الخروج عن أو من دائرة الطاعة ، و تختلف أشكال التمرد من شخص لآخر ، و لعل الكاتب حسن أوريد جعل البطل “أذريبال” يتمرد حيث خرج من طبيعة آدمية إلى طبيعة حيوانية غير منفصل عن التفكير كخاصية إنسانية ، في هذا السياق نستحضر رواية ” أحلام بقرة ” لمحمد الهرادي و هي تروي قصة مساعد تقني يحاول الهروب من التعاسة فخضع لعملية تحويل أفضت به إلى أن يصبح بقرة بدماغ بشري ، شخصية تدرك ذاتها كبقرة ، لكن عقلها آدمي ، و هذا ما حدث في رواية سيرة حمار ، فالبطل أذربال ظل حمارا طيلة الأحداث لكنه يفكر كما الإنسان .
إن الاغتراب في تعريفه العام و الشمولي يعد بمثابة إحساس الفرد بغربة اتجاه ذاته و كذا بعلاقاته بالزمان و المكان و المواقف و الأحوال ، فعند هيغل لا ينفصل الاغتراب عن العزلة ، حيث تسيطر حالة سيكواجتماعية على الفرد و تجعله شخصا غريبا و بعيدا عن محيطه . و هذا ما حدث بالفعل فالبطل أسنوس ظل عاجزا عن ربط علاقات مع زملائه في السرك لأنه لم يستطع التحرر من قيد الحمار ، و لم يكن قادرا على ممارسة سلوكه الحيواني كحمار .
لابد من الإشارة أيضا إلة حديث لأذربال و هو ينظر إلى والده ،في ص25 : نظرت إلى والدي فرأيته ّذاهلا شاردا،يخشى أن يكون حاق به أذى من اختطاف ، و كيف لي أن أقول له ان ابنك مسخ حمارا ، و حتى لو أردت ، كيف لي أن أفعل ، و هل سيدرك نهيقي “.
يقول الشاعر أبو فراس الحمداني :
غريب و أهلي حيث ماكان ناظري***وحيد و حولي من رجالي عصائب
لعل السؤال الجوهري هو لماذا تتحول الشخوص إلى حيوانات ؟ هل هو هروب من الواقع ؟ أم تمرد عليه؟ أم إحساس بالغربة في وسط مجتمعي معين ؟ هل هو ضعف الحيلة في إيجاد حلول ممكنة لظواهر متعددة وجب القطع معها و كان التحول هو الحل ؟
إن ” غريغور سامسا ” الذي مسخ إلى حشرة عملاقة عند فرانز كافكا في روايته التحول أو المسخ ! ، هي قصة كل إنسان لايشعر بقيمته داخل مجتمعه و يعيش دوامة مملة دون تحسن في المستوى المادي ، هي قصة كل إنسان يضحي ليل نهار من أجل أسرته ، و المؤلم هو أن تضحي به أسرته دون أمل في أنه قد يعود إلى وضعه البشري .فما أبشع و ما أفظع أن يتحول الإنسان إلى حشرة او حيوان !.
إن رواية “سيرة حمار “قد تكون سيرة اغتراب بامتياز ، سيرة هوية ، سيرة انهيارات ، سيرة توتر في العلاقات الإنسانية فعبارة ” لن أكون حمارا كامل الأهلية ” كانت تكفي للدلالة على الوجع و التفجع و الحسرة لأن” أذربال” لن يكون حمارا تام الحمارية ، هي اغتراب حتى عن الذات .
من مظاهر الاغتراب أيضا في الرواية قصة الرجل الحكيم و هو الشيخ الوقور الذي اعتزل الناس ، لما أحس بغربته و أدرك أن قيمته صارت مختلفة عمن يعيشون معه ، و ذلك كان واضحا في أول حوار دار بينه و بين الحمار أسنوس في ص 69 : “عمت صباحا أيها الحمار ، أأثقلت عليك أنت أيضا أعباء الحياة و أصابتك أوضارها؟ “.
تيمة الحب :
لقد هيمن الحب بكل أشكاله في هذا المتن الروائي سواء تعلق الأمر بالحب الإنساني ، أو بالحب بين الحيوانات ، و لعل السبب الرئيسي في تحول البطل إلى حمار هو وقوعه في حب ثيوزيس ” كيف أتزوج امرأة في الأربعين من عمرها ، تكبرني بخمس عشرة سنة ، و هي إلى ذلك متزوجة ” ص 11
كما نجد أيضا في الصفحة 17 : ” كنت أشعر بلذة عارمة كلما كنت جليس ثيوزيس، كنت أذهل عن كل شيء إلا جمالها و حسن حديثها و رقة شؤونها و جمال منطقها “. علما على أن ثيوزيس أحبته أيضا و ليست الوحيدة التي أحبته بل كذلك خادمتها حاتبوت ، غير أن هذه الأخيرة أسرتها في نفسها مخافة سيدتها.
كانت أيضا هيباتا التي أحبته و أحبها حبا ملك شغاف قلبه نجد في ص 10 :” سوف تسكنني يا أذربال ما حييت “.
عندما يمتزج الشعور باللذة و الشعور بالذهول في قصة حب مستحيلة ،سيأتي التفكير في الهروب من ورطته ، هذا ما دفع البطل لتناول شراب اعتقد أنه سيحولهما إلى طائرين ليحلقا بعيدا حيث لا رقيب ، يقول :” نحلق في الأجواء فلا تنالنا يد الحاكم ، و لا جند روما ، حتى نبلغ مأمننا ، و نتناول شرابا آخر يعيدنا سيرتنا الأولى من سير البشر ” ص 19 .
رصدت الرواية أيضا الحب بين الحيوانات التي سينجم عنها الطفل في نهاية القصة و هي قصة الحب الجارفة بين أسنوس و الأتان التي لم تكن سوى “حاتبوت” التي أحبت” أذربال” حبا جعلها تفعل المستحيل من أجل البقاء معه و ظلت كذلك و استطاعت أن تنجب منه طفلا .
الحب قيمة إنسانية وجودية ، و مهما اختلف الفلاسفة و الباحثون و الأدباء في تحديد تعريف للحب ،فهو لايعرف و لايفسر و لكن الأهم هو أنه حيثما يكون الحب تكون الحياة ، و حيث يغيب الحب يكون اليباب ، يقول الكاتب :”أخشى عواصف هوجاء ، تهب على هذه الأرجاء ، فنتطير من الحب ، و نقيم عليه الموانع ، حيث يكون الحب تزهر الحياة ، حيثما تكون الحياة يشعّ الحب ،حينما ينتفي الحب تنتفي الحياة ، و تقوم عوضها العداوة و البغضاء . ص : 80.
عموما تبقى رواية “سيرة حمار “صرخة للدفاع عن إنسانية الإنسان ،صرخة للدفاع عن قيم الحب و نبذ الكراهية و البغضاء و التسلط ، و رسالة ضد القهر و الاستلاب ، وهي أيضا رسالة التحرر من الخوف ورسالة لجبر الخواطر وإعادة النظر في قيم العدالة و المساواة .
*قراءة شاركت بها خلال اللقاء الشهري بنادي القراءة تادلسا
التعليقات مغلقة.