الرباط: كلمة الدكتور المختار النواري في حفل أربعينية الدكتور عباس الجراري
بقلم الدكتور المختار النواري
” رئيس منتدى الأدب لمبدعي الجنوب الفرع المركزي تارودانت “
باسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله الذي جعل الخلق تحت طائلة الفوت، وصير الأرواح في قبضة مَلَك الموت، وكان حكمه من غير مراجعة: “كل من عليها فان”، ولم ينج منه مخلوق قاص أو دان، وسير الهدم إلى كل ما بناه بان، سبحانه هو الحي، يطوي العالمين طي، قرن بين الحياة والموت، وجعل ذلك سرا أودعه في أسمائه وصفاته، فتسمى ـ جلت أسماؤه ـ بالمحيي المميت، المبدئ المعيد، المقدم المؤخر، الأول الآخر ـ تعالى علا علوا كبيرا ـ ثم الحمد لله الذي لم يزل لأرضه ومن عليها وارثا، ووعدنا ووعده الحق أنه ضامن للقيانا يوما باعثا، وقرر لوجودنا بعد الحياة والموت وجودا ثالثا. والصلاة والسلام على شفيع الورى والأنام، فقيد الأمة، ومزيل الغمة، وجامع اللمة، وشاحذ الهمة، الذي واجه وفاته مواجهة مؤمن مصطبر، وبيقين محتسب معتبر. فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة بكت فاطمة. فقال: لا تبك يا بنتاه، قولي إذا مت: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، فإن لكل إنسان مصيبة معوَّضة. وعن أم سلمة ـ رضي الله تعالى ـ عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أصيب بمصيبة، فقال كما أمر الله: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واعقبني خيرا منها”، إلا فعل الله به ذلك. إنه المنهاج النبوي كما رُسم، وبلغه كما أُمر، صلى الله عليه وسلم تسليما، وعلى آله الطيبين الطاهرين، الخيرين الميامين، وعلى صحابته الكرام الأبرار، السادة الأخيار، الشرفاء الأطهار. ومنهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الذي قال عن مثل موقفنا: “أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ: إنني أنا لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقا، وبعثته مع الصديقين. اللهم صل على صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاة تامة، وارحمهم رحمة عامة.
السادة الحضور الأكارم
أسرة أخينا وحبيبنا وندينا وفقيدنا وموادنا الصغيرة والكبيرة. الصغيرة التي لا تصغر معه، والكبيرة التي لا تكبر عنه.
أصدقاء وأحبة وأوداء ومعارف وطلبة سيدي عباس، عشر الله الخطوات حسنات، وبوركتم، وبورك بكم، وجازاكم من لا ينقصكم، يعطيكم ويوفيكم.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
عباس الجراري والجرّاري ـ بالتخفيف والتثقيل ـ والضغطُ أليق في هذه المناسبة، لما يعتصر الصدور، ويذيب القلوب، ويضغط النفوس..
عباس الجرَّاري..
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا حبيب الناس..
فما الذي أحدثكم به عنه، وكلكم عرفتموه، فقد كان قلبا مفتوحا، وكتابا مصفوحا.
وفي الأمور المتعارفة، والشخصيات العامة، لا يكون هناك فرق كثير في الحديث عنها، ولكن سأحدثكم عن إحساسي بالرجل، لأنه، فيما يتعارفه كل الناس، لن يكون هناك مجال للفرق، إلا في ما أحسته القلوب، وتآلفت به الأرواح، وكمن في الصدور، وكان خاصا مخصوصا.
أفتح هذا المقصد، وأستعين بالله وحبي للرجل، ولقاءاتي به، وإن كانت معدودة، إلا أنها كانت غنية بهذا الذي يميز العلاقات الشخصية، إنه الإحساس بها، والتقدير النابع منها.
سأطلق العنان لقلبي، وليترجم لساني، واصبروا علي، واعذروني، وشفيعي هذا الحب الذي تقاسمته مع الرجل، فلم تسنح الفرصة له بالحديث عنه، ولكنها الآن ألزمتني، وها مسؤوليتي تضاعفت بأن أحدثكم عنه وعني، والذي جمع بيننا.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا جامع الناس..
عباس يا عباس.. الذي يطلق عبوس وارده، ويشفي علة عائده، ويغني حاجة وافده.
عباس يا عباس.. الذي يقلب مرتاده إلى رائده، وتابعه إلى سائده، ويحول ناقص طالبه إلى زائده.
عباس يا عباس.. الكَنَف العفيف، والظل الوريف، والقصد الشريف، والروح الخفيف.
عباس يا عباس.. الجليس الطريف، والمضيف الحفيف، والمعتني الصفيف، والوِدُّ اللفيف.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا مرهق الكراس، ومهرق النبراس..
لقد رفعت رأس العلوم، وأرغمت أنف الفهوم، وتعاليت عن كل ما يحوم، فكنت قاصدا متقصدا، مجددا متجددا، راعيا متعهدا، حريصا متفقدا.
إن روحك تجلل المجالس، وتزين المآنِس، وتُصنَّف أبحاثك ضمن النفائس، ويشهد لك ما زرعته من غرائس.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا مرصِّع الماس..
ستبكيك الجُمع وأعصارها، وليالي الأنس وأقمارها، والنوادي ومنتادوها، والندواتُ ومعتادوها، والعقولُ ومرتاعوها، والآداب وماتعوها، والكراسيُّ العلمية وطلابها، والغوائرُ الفكرية ورُغابها.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا زهرة الآس..
لقد كنت للشرق بالخير مبعوثا، وللمغرب عِلما مبثوثا، وكنت للرباط مرابطَها، ولحي الرياض رياضه، ولجامعة محمد الخامس تخميسها، وللأكاديمية كادَمها، وللعربية عرابيها، وللأمازيغية ممزغها، وللملاحين لحانها، وللأزجال مزجلها، ولثقافة العَوَام عوَّامَها.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا رافع الراس، ومترع الكاس..
كنت للنخوة معتمِدها، وللجلالة موحدها، وللمهابة تاشفينها، ولوهدتنا زُهْرها، ولمرقانا رودانيها، وللثقافة المغربية إدريسها، وللثقافة المشرقية طارقها، ولمعارك الفكر ذهبيها، وللسفارة بطوطها، ولعلوم القرآن عطيها، وللسنة عياضها، وللتراجم خاقانها، وللأمازيغية سوسيها، وللأزجال ششتريها، وللأشعار جراويها، وللمصنفات لسانها، وللدروس عجيبها.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا شديد المراس، ومُنْهِج الأنفاس..
ستشدوك العفة في كل سلوك، وفي أخلاق كل مالك ومملوك، فلا تجد من يقاربك، وأحرى يقربك.
وستطلبك السماحة في مجلس كل صدر، وسماء كل بدر، فلا تعثر على من يدانيك، وأحرى يساويك.
وستنشدك الرجاحة في رأي كل ذي عقل، ومشورة كل ذي لب، ولا تقف على من يشابهك ، وأحرى يعدلك.
وستقلب عنك الملاحة في تلطف كل لطيف، وخفة روح كل خفيف، وإشراقة وجه كل صبيح، ولا ذكر لمن يماثلك، وأحرى يطابقك.
صباحة الأسياد في تهلل أساريريهم في وجه القادم عليهم، وبشرهم بطارقهم، وإقبالهم على جليسهم، وإكرامهم لضيفهم، وخدمتهم لمخدومهم، وإجارتهم للمستجير بحميتهم، وتلبية رجاء المستغيث بنجدتهم، وإسعاف المحتمي بجوارهم، وقد كنت سيدي عباس على ذلك، وفوق كل ذلك، وذكرك يبقى بعد كل ذلك، يذكره الشاهدون، ويرويه عنهم الغائبون، ويحمله منهم الراكبون، ويُعْمِر به جلساتِهم المتنادمون.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا سائس الناس..
ستطلبك الدواوين بعدها فلا تجد لك مثيلا، وتخطبك الكراسي فلا تصيب لك عديلا، وستبكيك الاستشارة حينها وبعدها ولا من يكفكف دمعها، ولا من يبرد سمعها، ولا من يهنئ جمعها، فقد كنت نعم المشير، وخير ما به يُشير. متعفف مستشار، وحكيم مستثار. أبيض الصفيحة، سليم الدخيلة، نقي الجيب، عديم العيب، مأمون الغيب، متين العهد، وفي الوعد، صادق الود، مصافي الند، طلق الشد، لين الرد، رخي السد، مجهِد الكد، إن دُعي أجاب، وإن اُستُنهض أهاب، وإن بُعث أناب، وإن أُحمي أذاب، فلا يُريب ولا يستراب.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا عالي المقاس..
سيوزن الرجال بعدك ولن يوازنوك، وسيقوَّم اللطاف في غيابك ولن يدانوك، وسيكال المتواضعون إثرك بكل المكاييل ولن يقاربوك.
وسيوزن العلماء بكل الموازين ولن يساووك، وسيعير الأساتذة بمختلف المعايير ولن يماثلوك، وسيقاس الباحثون بمتفارق المقاييس ولن يعدلوك، وسيشمر الخطباء عن أدرع البلاغة فما يبلغوك،
وسيُجْهَد المصنفون باقتفاء خطاك من غير أن يلحقوك، وسيُتعب المؤلفون في نهجك حتى يُنهجوا دون أن يصلوك.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا متعِب النبراس..
إذا كانت رزية الناس فيك واحدة، فرزيتي فيك متعددة، أهي لشخصي؟ أم لابني الشاعر محمد الأمين النواري، وكنت ترعاه ابنا، ويراك والدا، وتسأل عنه غائبا، وتحتفي به حاضرا؟ أم لمنتدى الأدب لمبدعي الجنوب، وبه جيش من الأدباء، الشعراءِ والناثرون، وكنت دوم الاعتزاز به، وهو شديد الارتباط بك؟ أم لرودانة ورجالها؟ أم لطلاب العلم منها، منهم من تأستذ، ومنهم من سلك مسالك الحياة الأخرى، ولكن فضلك عليهم ظليل، وفعلك فيهم جليل، وإسداؤك إليهم عميم. أم لرجال الملحون والزجل، وأصناف الثقافة الشعبية، المحلية والوطنية؟ أم لتاريخ تارودانت؟ أم لسوس على امتداد بلادها؟ أم للأمازيغية لسانا وثقافة وتراثا؟
وإذا بدا لغيري أن طريق الناس للصبر عليك يسير، فإني أقول له أن طريقي إلى الصبر عليك طويل ومتعب، وشاق ومرعب، ومتفرق ومشعب.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا ترصيع الماس..
لقد كنت قريبا منا، ونحن في حاجة إليك؛ وها أنت بعيد منا، ونحن في شوق إليك.
والله ما حقنا أن نتأسف على فقدانك، ولكن الحق أن نتأسف على أنفسنا التي فقدتك، ونجزع على صحبتنا التي افتقدتك، ونرثي لحال نوادينا التي خلت منك، ونقلق على مجالسنا التي اكتأبت لغيابك، ونشفق على أنسنا الذي استضام بصمتك، ونراع على فكرنا الذي غاب عنه راعيه، ونخشى على أدبنا المغربي الذي انهدت عمادته، ونأسى على دنيانا التي خلت منك، ونغتم على سمائنا التي تغممت لأفولك، ونحزن على أرضنا التي أجدبت لغورك، ونبكي على بلادنا التي أقفرت برحيلك.
عباس يا عباس..
عباس أيا عباس..
عباس إيه يا عباس..
عباس… عباس يا فقيد الناس..
ما ذا أقول فيك، والقول فيك لم يبدأ، فكيف ينفذ؟ا والنفس لم تستوعب غيابك، ولم تصدق بعد رحيلك، فكيف تقوى على الحديث عنه. ماذا أقول والثقافة المغربية والعربية والمشرقية والإسلامية والإنسانية لا زالت تتفقد مواقع فقدك.
ماذا أبدي وماذا أعيد، وسلواني في الذي وقع، أن الذي اختارك إلى جواره صاحب وديعة استرجعها، ومرخية استردها، ومطلَقة شدها، وأنه مقبَل عليه كريم، خيره على عباده بما سألوه عميم، وسعت رحمته كل شيء فهو الرحيم، مشفِق مفرِج لا يضيم.
وسلواني أنك آثرتَ جوارا أحسن من جوارنا، ولجأت إلى كنف أفضل من كنفنا، واستجرت بحمى لا تقيك بمثله إجارتنا، ولحقت بجيرة خُلصت من عيوبنا، وحُفظت من ذنوبنا.
أقول ومهما أقل فإنني أتعزى بالبُشرى التي لا تكذب، والوعد الذي لا يخيب، بالبشرى الربانية، وأنا أمتثل قول الحق ـ سبحانه ـ “وبشر الصابرين”.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، ولترحم اللهم حبيبنا عباس، بما رحمت به سيد الناس، ولتُمْطر عليه شآبيب الرحمة والرضوان، ولتَكْسُه أردية المغفرة والغفران، ولتجعلنا بعده صابرين محتسبين، بقضائك راضين مكتسبين، ولتثقل بذلك ميزان حسناته، ولتلحقنا به ونحن على هذا العهد، لا تغيير ولا تبديل، ولا تحوير ولا تعديل.
ورحم الله عبدا قال آمين.
والسلام عليكم ورجمة الله تعالى وبركاته.
التعليقات مغلقة.