على هامش اليوم العالمي للمدرس : إعلاء شأن مهنة التدريس رهين بتحسين الأوضاع المادية والمعنوية
بقلم : ذ.محمد بادرة
كلما حل يوم 5 أكتوبر من كل سنة، وهو اليوم العالمي للمدرس الا وتوجه العديد من المنظمات العالمية كاليونيسكو واليونيسيف والعمل الدولية والامم المتحدة الانمائي رسائل احتفائية تعبر فيها عن اجلالها وتقديرها للدور الذي ينهض به المدرسون في كل بقاع العالم في سبيل توسيع افاق الدارسين في افق بناء مجتمع المعرفة والحداثة والتقدم,
ومن العبارات القوية التي حملتها بعض هذه الرسائل عن دور المدرس:
(للمدرس دور اساسي لأنه وحده القادر على نقل القيم وصقل الطبائع وترسيخ المواقف والسلوكات ومنح كل متعلم امكانية ان يصبح مواطنا صالحا )
فريديريكو مايور- مدير سابق لليونيسكو
( المدرسون اساسيون في تربية الافراد والمجتمعات، فهم لا يعلموننا القراءة والكتابة والحساب فقط، بل يطورون فينا النقد ويساعدوننا على تقديس ذواتنا ومجتمعاتنا ويعلموننا ما نحتاج اليه كي نصبح مواطنين منتجين مع الحياة النشيطة )
ماري فيتريل – المكتب العالمي للتربية
( اننا نعيش في عالم تنافسي اقتصاده متعولم ..ولكي لا يكون الافراد والمجتمعات عامة تنافسيون ويعيشون في رخاء يتحتم وجود تعليم ذو جودة، وتربية ذات مستوى عال تتضمن وضعية اجتماعية من مستوى عال لرجال التعليم: اجرة مرتفعة، ظروف ملائمة للعمل، وتسيير جيد لمستقبل التربية. )
بيل راتيري– المنظمة العالمية للشغل
هذا التقدير والاجلال يهم اكثر من مائة مليون مدرس ومدرسة عبر العالم، وهم كل يوم يضمنون تكوين الافراد من اطفال ويافعين وشباب وحتى الكبار رغم الفقر والازمات والحروب والعنف والامراض والاوبئة.. وتجدهم في كل انحاء الكرة الارضية يعيشون وضعيات متشابهة: رواتب زهيدة – امراض مزمنة- ضعف الوسائل التعليمية – قمع الحريات النقابية و السياسية والمهنية- المعاناة اليومية من اجل تنمية مهارات وكفايات المتعلمين -… ظروفهم لا تفتا تتدهور في كل مكان من العالم على الرغم من نداءات المنظمات العالمية المهتمة بالشغل او بالشأن التربوي والثقافي والمهني مثل اليونيسكو والمنظمة العالمية للشغل( لكن مع ذلك يساعدون تلامذتهم وطلبتهم على ان يكتسبوا من خلال التعليم والتدريب المهارات اللازمة لتشكيل حياتهم وتوجيهها ويتعلموا كيف يمكنهم ان يصبحوا دارسين ناجحين مدى الحياة وقادرين دوما على توسيع افاقهم ) مقتطف من رسالة مشتركة لرؤساء منظمات عالمية بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمدرس.
في وطننا يمر اليوم العالمي للمدرس في صمت مطبق و مكتوم او مخنوق، وفي افضل الاحوال قد ترى المسؤولين يبرقون رسائل الاحتفال الى الاطر العاملة في القطاع، يرددون فيها اسطوانة الاصلاحات ..اصلاح بعد اصلاح ودون اصلاح، اصلاحات دون ان تكون مرهونة ومصحوبة بإصلاح الوضعية المادية والاجتماعية والصحية للمدرسين والمدرسات والاطر العاملة بميدان التربية والتكوين، وهو مربط الفرس في عملية الاصلاح كلها، فإصلاح المنظومة التربوية من مناهج وبرامج ومقررات، وتحويل التوجهات الاصلاحية من مستوى الخطاب او النوايا الى مستوى الفعل والممارسة والتحقق تحتاج الى اطر وكفاءات يوصلونها للناشئة وللأجيال الصاعدة، وهذه الاطر اذا لم تنصف ماديا، واجتماعيا، ومعنويا فان كل شعار للإصلاح يرفع يبقى حبرا على ورق، وان اي اصلاح للتعليم خارج اطار الاصلاح الشامل مصيره الفشل.
في مؤسساتنا التربوية يمر الاحتفال باليوم العالمي للمدرس محتشما و في لمح البصر، ملصق هنا وبيان هناك، او حتى لا شيء اصلا غير البرنامج الزمني التربوي المعتاد، اما جمعيات الاباء والامهات والجمعيات الموازية فقد تجتهد و” تتبرع ” برسالة او بأبيات في المدح، تبرز فيه الدور الطلائعي الذي تقوم به الاسرة التعليمية في محاربة الجهل والامية ونشر القيم النبيلة، تم توزع الورود على ثلة من نساء ورجال التعليم، وهي تعبيرات قد يقصد بها الاستهلاك الدعائي في مثل هذه المناسبات، وقد يكون هذا الاستهلاك ايجابيا من باب الاعتراف بدور رجال ونساء التربية والتعليم، لكن يجب الاعتراف بان تسويق هذا المنتوج الدعائي يخفي الوضع البئيس لهذه الفئة ويخفي الفوارق الاجتماعية والطبقية…
في وسائل اعلامنا، يحل اليوم العالمي للمدرس ولا ترى اثرا له، لا في النشرات الاخبارية ولا في الروبورتاجات المخدومة، حتى وان تذكرت او استدركت هذه الوسائل الاعلامية “غفلتها”، وتريد الاحتفاء برمزية هذا اليوم العالمي للمدرس لا تسمع الا تلك المعزوفة المخرومة التي لا تريد ان تكشف وضعية نساء ورجال التعليم التي تدهورت بشكل فضيع بعد ان اصبحوا يقبعون في ذيل الهرم من حيث المستوى المعاشي، وبعد ان كانوا في الماضي في قمته او وسطه، اما سمعته الان فهي معرضة لكثير من التشويش والتشوهات في ظل مجتمع بات المنطق المادي هو الذي يتحكم فيه ويحكمه، واصبح البعض ينظر الى نساء ورجال التعليم على انهم مجرد ارقام التأجير، يشكلون عبئا على خزينة الدولة؟؟؟
يحل اليوم العالمي للمدرس ومنظماتنا النقابية تعيش وضعيات التأزم والتشرذم والضعف الناجمة عن ضعف وانتكاسة المنظمات الحزبية والنقابية والجمعوية مما يجعلها عاجزة عن الفعل والتأثير ايجابيا في الأحداث ويحول دون لعب دورها في دفع الطبقة العاملة و التعليمية اساسا لاحتلال الموقع الريادي في واجهة الصراع السياسي والاجتماعي، مما تسبب في حدوث انشقاقات في التنظيمات النقابية، لذا يجب العمل على توحيد الحركة النقابية عوض تشتتها وتشرذمها، والتعدد النقابي ليس نتاجا عن وجود مناخ الحرية، بل بسبب تغييب التدبير الديمقراطي للخلافات والصراعات المؤدية في النهاية إلى الانشقاقات والانحرافات .
ان ازمة الحركة النقابية دفعت الاطراف الاخرى من حكومة وغيرها الى الاجهاز على جملة من الحقوق النقابية والمهنية ( التعاقد محل التوظيف – رفع سن التقاعد-..) لذا لابد من النضال لأجل تكريس مؤسسات نقابية كفاحية وديموقراطية.
يحل علينا هذا اليوم العالمي للمدرس، وقد لا نتذكر اولئك الذين يؤدون غرامة ثقيلة على مستوى الامراض المزمنة التي يعانون منها، وما هو اخطر الان هو تزايد انتشار الامراض النفسية والعقلية في صفوف نساء ورجال التعليم، وما تزايد الرخص المرضية المتوسطة الامد والطويلة الامد التي تمنح للمدرسين والمدرسات بسبب المرض النفسي او العقلي الا دليل على ان ظروف مهنة التدريس جد صعبة وفي كثير من الاحيان مقلقة، وتسبب في كثير من الامراض المزمنة و اخطرها الامراض العقلية والنفسية. فالمرض العقلي( العصاب مثلا) ينتج عن عدم التلاؤم والتكيف مع متطلبات المكان التي تتجاوز قدرات تكيف الفاعل. اي عندما تصبح العلاقات مع المكان غير كافية وغير امنة.
ان عددا من مدرسينا ومدرساتنا يعانون من الاضطرابات العقلية والنفسية ومن امراض الحنجرة وضعف البصر وامراض الضغط والسكري… لذا فالوزارة والحكومة والدولة مطالبة بضرورة التعامل الجدي مع ظاهرة تزايد الشهادات الطبية التي يدلي بها نساء ورجال التعليم لأجل العناية بصحتهم باعتبار الامراض العقلية والنفسية التي يعانون منها ويصابون بها خلال ممارستهم لوظائفهم هي امراض مهنية بالأساس.
يحل اليوم العالمي للمدرس هذه السنة، والعالم يعيش للعام الثاني على التوالي حالة طوارئ وحجر صحي على وقع اجتياح وباء كورونا المستجد ومتحوراته المتتالية. وهو اشبه بإعصار وبائي يهدد الوجود الانساني، يفتك بجسمه وعقله واحساسه، يهدد حاضره ومستقبله، يحاصر الافراد والجماعات ويحول بين تواصل الدول والامم، حول العالم الى كرة تاجية موبوءة تصيب كل مكان وكل كيان وكائن بالموت والجمود والعطالة والحجر من قبيل تعطيل المدارس والجامعات والمعاهد وغيرها من المرافق الحيوية في محاولة للحد من انتشار الوباء والتحكم فيه ومواجهته .
وعملت كل دول العالم باستنفار كامل طواقمها البشرية وطاقاتها المادية واللوجستية لحماية مواطنيها، وتفادى الشلل الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، ولقد تجند كل رجال ونساء التعليم في بلدنا لعودة التلاميذ الى اقسامهم الدراسية بعد قرابة نصف عام من الانقطاع، ساعدوا على توفير جو بسيكولوجي لطمأنة التلاميذ وتوعيتهم مما مكنهم من السيطرة على الصحة النفسية للتلاميذ، قاوموا الشائعات والوسواس القهري، زودوا ابناء المجتمع المدرسي باليات ادارة الانفعالات والخوف في ظل الازمة الوبائية، اسسوا ثقافة صحية استطاعت التعايش مع الوباء و توفير اجواء الامن والسلامة الصحية والنفسية والجسدية مع الالتزام بالبروتوكول الصحي والوقاية المطلوبة، زاوجوا بين التعليم الحضوري والتعليم الرقمي عن بعد وهذا يعني اضافة عبء كبير على المدرسين والمدرسات لإيجاد انجع الطرق لضمان السير العام الدراسي، واستطاع رجال ونساء التعليم اعتماد منهجيات ملائمة تتناسب مع ظروف الحجر الصحي لتيسير عملية التعليم والتعلم ومنها – اختيار سبل مناسبة في تقديم المواد التعليمية فيما يتناسب مع الظروف والجاهزية الالكترونية الملائمة لكل وضع وحالة مجتمعية ( اقسام افتراضية – شاشات رقمية – تطبيقات الاجهزة المحمولة) ودون حدود لساعات التعلم الالكتروني والتعلم عن بعد، و دون تعويض مادي او معنوي .. اما عن ضحايا الوباء من نساء ورجال التعليم .. فان منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا مواقعهم في الصفوف الامامية في مواجهة خطورة الوباء.
المدرس هو العمود الفقري لخلق اجيال مسؤولة توطن لرؤية علمية متعاقبة لا تتقاطع مع الواقع بقدر ما تتواءم والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة.
ان المأمول بان يتحقق بالأمس قبل اليوم هو مراجعة جذرية لأوضاع نساء ورجال التعليم سواء تعلق الامر بالأجور والتعويضات والترقيات او اصلاح انظمة التقاعد والتامين، مع صون حقوقه السياسية والنقابية والمهنية من المزايدات وارغامات الواقع وملابساته… فهل تصلح الحكومة الجديدة ما افسدته حكومة التفقير والتحقير غير المأسوف على سقوطها… وهل يجازى نساء ورجال التعليم على قدر تضحياتهم ؟
التعليقات مغلقة.