رحيل فرسان مشروع لم يُستكمل بعد

رحيل فرسان مشروع لم يُستكمل بعد:  عبد الواحد بلكبير،  وحسن السوسي،  وأحمد طليمات، ورشيد نزهري،  وحسن الصوابني،  ومحمد بن المقدم..

أزول  بريس – محمد الحبيب طالب ( عن الغد 24) //

توالت الفواجع بفقدان رفاق أعزاء، الواحد تلو الأخر، وكأنهم تواعدوا على لقاء في العلا، ذهبوا إليه، وبنفس الانضباطية التي تعودوا عليها في حياتهم النضالية. ولشدة الكمد والحزن في كل فراق، أشعر في متوالية “العدم” هذه، وكأني أفرغت جميع شحناتي العاطفية والوجدانية، وما بقي لي سوى جسد فارغ ينتظر يومه الآتي.

كوكبة من المناضلين الفرسان غادرتنا على التوالي وإلى الأبد، الرفاق الصوابني وبلكبير ونزهري وبن المقدم والسوسي وطليمات، رموز لجيل تكبد في السجون والحياة النضالية اليومية قساوة أحلامه، وهم جميعا أبناء لمدرسة منظمة 23 مارس ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وهي مدرسة بحق وعن جدارة واستحقاق

وبكل صدق، فارقت في الماضي أحباءً، جمعيهم كانوا “هم أنا”، و”أنا هم”، غير أن الأحلام الكبرى التي حملها جيلنا، وهي تشرئب لمناطحة السماء، وتباشيرها العربية والكونية كانت واعدة، كانت أيضا، وفي جميع المآسي، تعوضنا وتخفف عنا آلام الفراق. أما وأن تأتي متلاحقة في زمن الشيخوخة الفردية، وفي وضع جفّت فيه الأحلام الإنسانية الكونية، فإن لفراق الأحباب طعما آخر يسائل الوجود والمعنى، ولا يجد مني سوى الصمت الدامي الغائر في النفس.

كوكبة من المناضلين الفرسان غادرتنا على التوالي وإلى الأبد، أسماؤهم نجوم في ذاكرتنا الجمعية، الرفاق حسن الصوابني وعبد الواحد بلكبير ورشيد نزهري والسي محمد بن المقدم وحسن السوسي والسي أحمد طليمات، رموز لجيل تكبد في السجون والحياة النضالية اليومية قساوة أحلامه، لأنها كانت أحلام يقظة واعية، فاعلة ومنتجة، تزرع الأمل في نفوس المضطهدين، وتستنهض هممهم ضد كل أشكال الدونية الإنسانية. وهم جميعا أبناء امتداد الحركة الوطنية التقدمية لمدرسة منظمة 23 مارس ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وهي مدرسة بحق وعن جدارة واستحقاق.

الممارسة السياسية، عندَ منْ رحلوا ومن لا يزالون على قيد الحياة، تربية ثقافية على تمثُّل القيم الإنسانية العليا. وهذا ما يفسر أن جل مناضلي المنظمة في السابق يشعرون في الراهن بحالة اغتراب عامة، لما اعترى عالم اليوم من تحولات قيمية كبرى أغرقت في “تبضيع” العلاقات الاجتماعية بين البشر

وعندما أفكر في كل واحد منهم، وفي منْ رحلوا قبلهم، أكتشف أن ما كان يجمعهم في الحقيقة كان أكبر وأوسع من العنوان الماركسي اللينيني، الذي عُرفوا به وانتسبوا إليه وشربوا جمعيا رحيقه، لكنهم لم يكونوا معلبي الفكر لا يتحدثون إلا بالعنعنة التقليدية، أو بالقياس على نصوص شاهدة لهم على كل صغيرة وكبيرة. كلا، كان وازعهم الجمعي بالأحرى والأولى، تطلعهم الوجداني الجماعي إلى الخير والحق والجمال والحرية. والأخلاق الإنسانية، على وجه الخصوص لشموليتها، كانت حافزهم الوجداني المشترك. الممارسة السياسية، عندَهم، منْ رحلوا ومن لا يزالون على قيد الحياة، تربية ثقافية على تمثُّل القيم الإنسانية العليا. السياسة بلا أخلاق تنحط إلى تكتكة ومناورات وتلاعب بالمصالح الجمعية، وتنطوي بالضرورة على الاستغلال والظلم والاستبداد.

وهذا ما يفسر في نظري الظاهرة التالية في أن جل مناضلي المنظمة في السابق يشعرون في الراهن بحالة اغتراب عامة، لما اعترى عالم اليوم من تحولات قيمية كبرى أُغرقت في “تبضيع” العلاقات الاجتماعية بين البشر، فعَمّمت الاستيلاب الفرداني “المبضّع” إذا جاز القول، وكأن عالم اليوم يطوي باغتراباته البيئة الاجتماعية التي استأنسوها وناضلوا في مخاضها الحابل بأحلامهم الواعدة.

أما الجانب الثاني لهذه الظاهرة، أن العديد من هؤلاء المناضلين، عندما تحرر نسيبا من العمل السياسي المباشر في أجواء هذا الاغتراب العام، أظهر مواهب كانت على الأغلب متوارية لانغماسهم المطلق في التزامات العمل الحزبي اليومي. وليس صدفة، أن تتجلى هذه المواهب في الفن والشعر والراوية وفي الكتابة الثقافية عامة والخدمات الاجتماعية لمنظمات المجتمع المدني. فهذه الأشكال التعبيرية جمعيا تفصح عن الدوافع الأصلية العميقة لما كان عليه التزامهم السياسي الحزبي، ولذلك أجملت القول إنها كانت مدرسة عن جدارة واستحقاق.

ما كنت أسعى إلى تقديم تحليل لما كان عليه هذا الجيل، ولما عليه اليوم. وإنما كان مسعاي أن أُقرّب مجمل هذه التجربة النضالية لجيل تطلع إلى الأفق الإنساني البعيد، ومارس السياسة “ثقافة وتربية”، ومنه هذه الكوكبة الرائعة التي رحلت عن مدارنا اليومي، وكانت بلا مبالغة فرسان هذا المشروع الذي لم يستكمل بعد

ما كنت أسعى إلى تقديم تحليل لما كان عليه هذا الجيل، ولما عليه اليوم. وإنما كان مسعاي أن أُقرّب، قدر المستطاع، بكلمات محسوسة، مجمل هذه التجربة النضالية لجيل تطلع إلى الأفق الإنساني البعيد، ومارس السياسة “ثقافة وتربية”، ومنه هذه الكوكبة الرائعة التي رحلت عن مدارنا اليومي، وكانت بلا مبالغة فرسان هذا المشروع الذي لم يستكمل بعد.

وليست لي رغبة على الإطلاق، في هذه اللحظة الوجودية الحزينة الغائصة في مشاعرَ كاليُتْم، أن أمشي وراء نعوشهم على نفس التقليد المعروف على طريقة “اذكروا موتاكم بخير”، فليس لي من دروس أقدمها للناس من حياتهم وعلى أية صورة جميلة كانت… لأنني في هذا العمر الذي بلغته، على الأقل، أدرك، تماما، أن ما ضاع ضاع، ويا هول ما ضاع! ولا رجعة له. وأن مرارة الحياة وسخريتها لا تأبه بأي درس مهما أصاب، إلا ما تفرضه هي من مفاعيل صارمة، نعمل ونأمل أن يعرف الإنسان، يوما ما، “سرّها”، ولا أدري متى، ولا خلاصاته عنها حينها. ومع ذلك، لا خيار لي في وحشة اليتم والأسى إلا أن أُناجي مغازي الذكريات التي جمعتني بكل منهم، وبهم جمعيا، فهي العزاء الوحيد الذي بقي لي منهم.

وقد يكون غريبا، أنه عندما يتم الفراق الأبدي، تأخذ الذكريات في مخيلتك، مباشرة، أبعادها الرمزية التي لم تكن في الحياة العملية تظهر لك بنفس الحجم والقيمة النادرة اللذين صارت عليهما. ولربما لأن القيمة في المعاملات اليومية، كنا نعيشها بـ”التقسيط” كمادة للشغل، أما عندما ينطفئ الشغل، وتنعدم الحاجة إلى المعاملات، لا يبقى من تلك الذكريات سوى القيمة المجردة كما هي في كليتها.

لعلها مفارقة في الظاهر أن يجتمع التواضع الأخلاقي والشخصية الشفافة بالصمود السياسي الواثق من نفسه، حتى في أحلك ظروف القمع والتعذيب الجسدي، وأغلبهم ذاق مرارة السجون. والحق أنهما صنوان، كل منهما ركيزة وحصانة للأخر

وأول هذه القيم، التي تشعرني بألم الخسارة، ذاك “السخاء الروحي” الذي ميزهم جميعا. وليس بوسعي أن أقرّب معناه الحي لمن لا يعرفهم عن قرب، وقد يتبادر إلى الذهن “السخاء المادي”، وهو جانب منه وقد فاق أوضاعهم الاجتماعية المتواضعة. ولقد علمتني التجربة، أن “البخل المادي” بما يخفيه من تضخم لغريزة التملك، إن أصابت عاهته مناضلا ما، قد لا ينبئ بخير في المستقبل البعيد. أبدا، كان سخاؤهم أبعد وأعمق من ذلك، إنه بالأحرى تكثيف للتقاطع والتفاعل بين الفكر والسياسة والممارسة الإنسانية الخالصة، وإن شئتم إنه مثال حي لـ”العقل العملي” بتوصيف “كانط”… أن تحب “للآخر” ما تحبه لنفسك، وأن تعمل بذلك، وتتقيد به في كل المعاملات. كان هذا معدنهم ومنبع سخائهم الروحي في النظر والعمل.

ولأن أيا منهم لم يكن يبحث عن امتياز دنيوي مَّا (وقد تقصدت هذا التعبير الديني)، غير أن يثمر حرثه بلا كلل مجتمعا أفضل عدالة وديمقراطية وإنسانية، فلا غرو أن يكون التواضع الأخلاقي، وما يحمله من نفس ديمقراطي في الإنصات والتعلم من الآخر، أحد أبرز سحناتهم الشخصية، وعندما تمتلئ شخصية ما بهذه الفضيلة، يسهل على أي كان اختراق دواخلها والاطمئنان لخلفياتها وبياض سريرتها. وهي ميزة لا تتمتع بها إلا “شخصية شفافة” لا تصد فضول ثقة مخاطبيها بأي غموض في دواخلها ناجم عن إخفاء سر من عللها الدفينة وصبواتها الأنانية الخالصة. إنهم تلاميذ وهم المعلمون!

إذا ما تأملنا الممارسة السياسية لهؤلاء الفرسان، لأدركنا خطها البياني المتصاعد نحو المزيد من العقلانية والمطابقة التاريخية، بدءا من انخراطهم في المراجعة النقدية الشاملة، التي أجرتها منظمة 23 مارس، والتي جسدتها منظمة العمل الديمقراطي الشعبي لِما سعت إليه غايتها في “دمقرطة المجتمع ودمقرطة الدولة”

ولعلها مفارقة في الظاهر، أن يجتمع التواضع الأخلاقي والشخصية الشفافة بالصمود السياسي الواثق من نفسه، حتى في أحلك ظروف القمع والتعذيب الجسدي، وأغلبهم ذاق مرارة السجون. والحق أنهما صنوان، كل منهما ركيزة وحصانة للأخر.

لكن، ما كان لهذه الفضائل ان تتقوى، وتستقيم، إلا بتطلعهم الدائم الى العقلانية ومطابقتها التاريخية. وكما يقول احد المفكرين، انه “جهاد المعرفة” ضد ميولات النفس الخطاءة، وبغية امتلاك “الحقيقة الموضوعية” المتبدلة على الدوام، فلا شيء ثابت في المكان، ولا شيء يستمر على حاله في الزمان. فالعقلانية ليست معطى سلفا، ولا هي قواعد ثابتة يحفظها المرء عن ظهر قلب، بل هي جهاد مستمر مع نوازع النفس الخطاءة، إما لتسرّعٍ ولنقص معرفي في إدراك تفاعلات الواقع، وإما لصنميةٍ لغوية خفية، وإما لحُجبٍ اجتماعية مضللة. وفي جميع الحالات، الجدل دائم، ومكر التاريخ حاضر وفاعل.

وإذا ما تأملنا الممارسة السياسية لهؤلاء الفرسان، وهي خير شاهد، لأدركنا خطها البياني المتصاعد نحو المزيد من العقلانية والمطابقة التاريخية ما أمكنهم، بدءا من انخراطهم في المراجعة النقدية الشاملة، التي أجرتها منظمة 23 مارس، والتي جسدتها منظمة العمل الديمقراطي الشعبي في كافة الروافع الحساسة لما سعت إليه غايتها في “دمقرطة المجتمع ودمقرطة الدولة”. إنها تجربة ساخنة غنية ومتميزة، وأكاد أقول، فريدة من نوعها في التجربة التحررية الوطنية، من حيث شمول ارتباط العمل السياسي بالثقافي لدى كل فرد فيها. تجربة لم تخل من تناقضاتها الخاصة بين النكوص والتقدم، إلا أن هؤلاء الفرسان كانوا على الدوام في الجانب الطامح للمزيد من العقلنة والمطابقة التاريخية.

كانت كلمتهم الأخيرة، التمسك بالمشروع الأصلي، الذي لم يُستكمل بعد، والخطوة الأولى على طريقه، إعادة بناء اليسار، وتوحيد أجوبته على المستجدات الراهنة. ولا طريق آخر للنهوض مجددا غير وحدة اليسار أولا وأساساً. انها المهمة العاجلة التي تركوها لبقية الجيل ولنفس المشروع الذي نذروا حياتهم من أجله

والمناسبة الأليمة لا تسمح لي بجرد تفاصيل أدوار كل منهم في شتى ميادين هذا المشروع، الذي لم يُستكمل بعد. لقد رحلوا عنا في منعطف لم نكن نتوقع جل أسئلته المحيرة، وكانت كلمتهم الأخيرة، التمسك بالمشروع الأصلي، الذي لم يُستكمل بعد، والخطوة الأولى على طريقه، إعادة بناء اليسار، وتوحيد أجوبته على المستجدات الراهنة. ولا طريق آخر للنهوض مجددا غير وحدة اليسار أولا وأساساً. انها المهمة العاجلة التي تركوها لبقية الجيل ولنفس المشروع الذي نذروا حياتهم من أجله.

اعذروني ايها الاعزاء: حسن الصوابني وعبد الواحد بلكبير ورشيد نزهري والسي محمد بلمقدم وحسن السوسي والسي أحمد طليمات، فكل منكم يستحق حديثا خاصا بقدر العقود، التي أمضيناها في السراء والضراء سويا. لكن شدة ألمي لفراقكم ولفراق عشرات الأحباء من قبلكم، أرغمني على أن أنصت لما يقوله الصمت الغائر الجراح في ما بقي مني بعدكم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد