الأمة 

تعرضت في مقال سابق لموضوع الأمة والوطن محاولآ تبيان أن مفهوم الأمة الكثير  الإستخدام في البلدان الناطقة باللغة العربية  في الشمال الأفريقي والشرق الأوسطي كبديل لمفهوم الوطن، وإستخدام هذا المفهوم بهذا المعنى أي مفهوم الوطن هو في حد ذاته مفهوم خاطئ  وغير صحيح حيث أن هاتين الكلمتين برزتا تاريخيآ في فترات تاريخية وإجتماعية متباعدة كل البعد عن بعضهما  البعض، الأمر الذي أعطى دلالات  مختلفة وذات معاني لا تمتان للتقارب بينهمابقدر ما هو وجود الإختلاف بينهما.

ففي حين كلمة الوطن لها دلالات .جغرافية وتاريخية وسياسية ولا شك إجتماعية  وهذه الدلالات تنعكس بالدرجة الأولى على مفهوم المواطنة وما تمليه من حقوق وواجبات على كل امواطنين من إناث وذكور في الوطن؛نجد أن مفهوم  الأمة غير محدد وغير معروف بل أكثر من هذا ليس لها إرتباط جغرافي وسياسي ولا حتى إجتماعي.

فهذه الكلمة ليست معروفة حتى في قواميس اللغات المستخدمة عصريآ حاليآ ولا توجد لها ترجمة في هذه اللغات لتحديد معنى واضح لها.بالرغم من أن متحدثي اللغة العربية يطلقونها على مفهوم الوطن.ويتم ترجمة الوطن من اللغات الغير عربية إلى العربية بالأمة. وأبسط مثال على ذلك ترجمة “United Nations” بالأمم المتحدة وعلى إعتبار أن كلمة “Nation” تعني “أمة” !!

فكلمة “الأمة” ظهرت في مجتمع بدوي وصحراوي وحياته الإجتماعية كانت بسيطة وحتى أن اللغة العربية آن ذاك كانت تختلف من قبيلة لقبيلة أخرى (راجع الجزء الأول من كتاب الدكتور طه حسين  من تاريخ الأدب الجاهلي) الذي سمى  فيه اللغة العربية الفصحى  باللغة القرشية أي لغة قريش آن ذاك.ولا أعتقد أن الظروف البيئية والإجتماعية في ذلك الوقت كانت تسمح لظهور كلمة “الوطن” بالمعنى الحداثي الذي يعنيه الآن.

ففي الوقت الذي نجد فيه أن كلمة الوطن “Nation” هي كلمة  حداثية وظهرت مع عصر النهضة الأوروپية ويفهم منها تحديد أرض معينة بمساحة جغرافية وتاريخ واحد للمكونات الإجتماعية والإثنية المختلفة بثقافاتهاالتي تعيش فوق هذه الأرض وبغض النظر عن إختلافاتهم الدينية والأثنية والسياسية وأساسها التعددية لا الأحادية ..بينما نجد كلمة أمة يشوبها الكثير من عدم الوضوح في تشعب معانيها.ففي واقعها التاريخي ظهرت هذه الكلمة في مجتمع شبه جزيرة العرب منذ ألف وأربعمأئة عام في واقع إجتماعي بدوي وقبلي  وورد تناولها في القرآن بمعان مختلفة.حيث أنها وردت  في كثير من سُوَر القرآن وبمعنى ومفهوم مختلف عن بعضه كما هو مبين في بعض الآيات التالية في سُوَر مختلفة في القرآن:

1-“ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة” الآية 28 من سورة هود

2-“ووجد عليه أمة من الناس يسقون” الآية 4 من سورة القصص

3- “إن إبراهيم كان أمة” الآية 120 من سورة النحل

4- ” إنَّا وجدنا أبآنا على أمة” الآية 22 من سورة الزخرف

5- ” ولكل أمة جعلنا منسكآ ليّذْكُروا إسم الله على ما رزقهم” الآية 92 من سورة الأنبياء===++***

6- ” ربنا وإجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة” الآية 128 من سورة البقرة

7- “كُنتُم خير أمة أخرجت للناس” الآية 110 من سورة آل عمران.

وفي هذه الآيات يتضح أن معنى كلمة أمة متعددة المعاني في القرآن وعدم وجود تعريف واحد محدد في النصوص القرآنية لمعنى هذه الكلمة.

وقد حاول  الكثير من مفسري القرآن والمفكرين والكتاب الإسلاميين في التاريخ  الإسلامي إيجاد مفهوم واحد متفق عليه وحاولوا تأويل وإستنباط معنى لهذه  الكلمة وبالذات أيام الخلافة الأموية في دمشق  والخلافة العباسية في بغداد  وأيضآ أيام الخلافة العباسية والأموية الأندلسية. وسيطر آن ذاك مفهوم الخلافة ليغطي  النفوذ السياسي للدولة الإسلامية.

فمن جميع الآيات القرآنية  وليس المذكورة سابقآ وحسب يتضح إختلاف المعاني والواضح إرتباط المعنى بظروف نزول الآيات القرآنية فأحيانآ كما هو مبين في الآيات السالفة الذكر ففي رقم (1) أعلاه نجد أن معنى هذه الكلمة هو فترة زمنية بينما في رقم (2) تعني مجموعة من الناس وفي رقم (3) تعني شخص النبي إبراهيم ونسبة من بعده..وفي رقم (4) تعني طريقة أو أسلوب حياة والذي ممكن يعني أيضآ ثقافة مجتمعية متداولة بين مجموعة من الناس في طريقة حياتهم . بينما رقم (5) يختلف المعنى حيث نجده يعني الإيمان والإنتماء لدين الله والتوحيد به.

وفي رقم (6) تعني صراحة طلب الإههتداء للإسلام للجميع بما في ذلك الذرية (الأبناء).

بينما نجد في رقم (7) أن المعنى ليس محدد في خطابه هل المقصود العرب أم المسلمين الذين يتم مخاطبتهم كأمة علمآ بأن الغزو العربي لنشر الدين الإسلامي لم يبداء إلا  بعد نزول القرآن وهنا يبرز السؤال هل المقصود العرب المسلمين أم المسلمين عامة!! ؛ وفي هذه الآية هناك تشابه نسبي مع اليهود الذين تمت مخاطبتهم ب”شعب الله المختار”.

 

ومن تعدد المعاني لهذه الكلمة وجد المسلمون أنفسهم في تفسيرات تقودهم إلى أمة الإسلام التي إستنبط منها القوميون العرب إلى مفهوم وتعريف “الأمة العربية”.

لا شك أن المقصود من “أمة الإسلام” أنها تعني كل من هو مسلم من مواطني الدول الإسلامية وكذلك حتى المسلمين المهاجرين الذين يتواجدون أو يعيشون في دول غير إسلامية سواء كانت مسيحية (على إختلاف مذاهبها المسيحية) أو علمانية أو حتى يهودية (المسلمين الفلسطينيين الموجودين في إسرائيل) ولا يمكن أن تحصر فقط في المسلمين في الدول الإسلامية.هذا سيخلق عند مسلمي المهجر حالة من عدم الإنتماء وفقدان الهوية، فهل يكون إنتمائهم إلى البلد الذي يعيشون فيه أو إلى البلد الإسلامي الذين أصلهم منه…!!!! ليس هذا فقط بل ستتفاقم مشكلة الإنتماء عند أبنائهم الذين سيعيشون حالة مزدوجة والتي قد تولد عندهم حالة من المرض النفسي (السيكوزفرينيا) أي إنفصام الشخصية وعدم وجود هوية لديهم.

أما بالنسبة للمسلمين في الدول الإسلامية فبها ما يعرف بالإسلام السني بالسنة للذين   يتبعون المذهب “السني” أي “الأموي السفياني” والمذهب الشيعي أي الشيعة الشيعة الذين هم من  أتباع الخليفة الرابع “علي بن أبي طالب”. زِد على ذلك الإختلاف الموجود بين المذاهب السنية فيما بينها وكذلك المذاهب الشيعية فيما بينها في بعض التفسيرات للقرآن والممارسة التقوسية الدينية. لاشك أن هذا سيجعل الإنتماء لما يسمى  “أمة” تربط الأندونيسي والپكستاني من جهة  والشمال أفريقي من جهة أخرى أمرآ مستحيلآ إلا فيما يخص العبادة حسب المذهب المتبع…!!!!!؟؟؟

أما ما يسمى “الأمة العربية” فهي هراء وكذب لأنه ليس هناك أساسات للإنتماء العربي  لشعوب أراضيها ترتمي بين قارتين وتفصلها بحور وتعرضت لتاريخ مختلف عن بعضها والظروف السياسية  الإقتصادية والإجتماعية متباينة فيما بينها..ويتضح هذا وضوح الشمس بالحروب التي تدور بين سكانها  في جنوب غرب الجزيرة العربية (ما تقوم به الدولة الوهابية السعودية ودولة الإمارات من جهة واليمن من جهة أخرى) وكذلك التدخل المفضوح الذي تقوم به الدولة الوهابية السعودية من تموين مالي ودولة الإمارات من تزويد عتاد وسلاح والأردن ومصر من دور عدواني على الليبيين في حرب يتزعمها البيدق “حفتر” والذي هذفه وغرضه الأساسي منها هو سيطرته على الحكم وبطريقة “قذافية” عانت منها ليبياوالسماح الشعب الليبي إثنان وأربعون سنة.

فالتجربة التاريخية التي مرت بها دول المغرب الكبير ضد المد القومجي العروبي إتضحت في موقف الزعيم التونسي الراحل “الحبيب بورقيبة” والذي وقف ضد هذا التيار ومصرآ  على تعميق الإنتماء الوطني ل “تونس الوطن” وكان هذا واضحآ إبان فترة حكمه حتى موقفه أثناء وقوفه ضد الفرنسيين في معركة “بنزرت” مقفلا كل الأبواب للناصرية من الدخول وتسويق أفكارها القومجية

 

ولا ننسى موقف رئيس الوزراء الليبي الشاب في عام 1968 “عبدالحميد البكوش” الذي نادى بالمواطنة الليبية حين طالب بالتركيز على “الشخصية الليبية” و “ليبيا الوطن” ولكن التجربة في ليبيا للوقوف ضد المد القومجي العروبي لم تدم طويلآ حيث تمكنت القوى المضادة لها من إزاحة “عبدالحميد البكوش” من رئاسة الوزارة..

وفي عام 1969 جائت طغمة عسكرية بقيادة “القذافي” والذي كان في بداية حكمه ذو ميول إسلامية عروبية ليصبح بعدها قوميآ عربيآ ولينتهي بتسمية نفسه ملك ملوك أفريقيا وناكرآ الحق لأمازيغ ليبيا حتى التحدث بلغتهم الأمازيغية في الشارع بل حاول  فرض اللغات الأفريقية على تلاميذ المدارس الإبتدائية..

إن الإصرار على إستخدام كلمة “الأمة” نابع من الإصرار بعدم قبول الإعتراف والدخول في الحداثة والمواطنة والوطن والإصرار على تعميق روح البداوة وإقحامها في زمن لا تنتمي إليه.

إن الإرتباط بالأمة يربطنا بالأحادية ولا يعترف بمزاولة المواطنة الحداثية لفي وقت ما أحوجنا إلى المناداة بالوطن. الإعتراف بالوطن والإنتماء الوطني والمواطنة التي تنادي بالتعددية بمختلف أبعادها الثقافية والسياسة وحرية المعتقد هذا لكل مواطنين الوطن  من إناث وذكور ،والمناداة بحرية الإختلاف وإحترام الرأي الآخر

محمد شنيب// طرابلس مايو 2020

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد