عبد الرحمان اليوسفي والأمازيغية

الحسين بويعقوبي//
فقد المغرب يوم 29 ماي 2020 عبد الرحمان اليوسفي، أحد رجالات المغرب الكبار نضاليا وحقوقيا وسياسيا. تصعب الإحاطة بكل جوانب وأبعاد الحياة السياسية للمرحوم، ليس فقط لأنه كان رجل دولة بامتياز، بل لأن مساره يضم مفاتيح فهم تاريخ المغرب (والمغرب الكبير) في القرن العشرين ولذلك أدرجه المؤرخ بنجامان ستورا سنة 1999 ضمن الشخصيات المتضمنة في كتابه المعنون “الأبواب المائة للمغارب Les cent portes du Maghreb”. كان بالفعل بابا كبيرا يسمح اقتحامه بالدخول لعوالم السياسة بتشعباتها حيث يتداخل الوطني بالإقليمي والكوني، ولذلك كل محاولة لسبر أغوار هذه الشخصية تكون محفوفة بالمخاطر ما لم تأخذ بعين الاعتبار تحديات القرن العشرين منذ الحمايتين الفرنسية والاسبانية وتداعياتهما (1912-1956) والمسار المعقد لبناء الدولة الوطنية بالمغرب والذي يجد جذوره في فترة الحماية نفسها واكراهات سنوات ما بعد الاستقلال. ليس سهلا أن تولد سنة 1924 بطنجة الدولية وفي عز حرب الريف بمنطقة الحماية الاسبانية وتداعياتها العالمية ثم الانتقال لمجال الحماية الفرنسية فالعودة لطنجة ثم الرجوع لمنطقة “المغرب الفرنسي”. كما أن سنة ميلاد اليوسفي تأتي قبل ست سنوات من صدور ظهير 16 مايو 1930 المعروف ب”الظهير البربري” وتداعيات تأويلاته التي أدت لميلاد الحركة الوطنية السياسية بخطابها العروبي-السلفي وما تلا ذلك من شيطنة للهوية الأمازيغية، ساهم فيها عدد كبير من الأمازيغ أنفسهم ثم تأثيرات مظاهرات 11 يناير 1944 ووثيقة المطالبة بالاستقلال. ومن هنا نطرح السؤال عن موقف عبد الرحمان اليوسفي من الأمازيغية، خاصة وأن هذه النقطة إلى جانب قبوله قيادة حكومة “التناوب التوافقي” بتنازلات، هما اللتان تثاران أثناء انتقاد مسار المرحوم رغم أنه تمت إجماع وطني ودولي على صدق الرجل وشهامته.
هل كان بإمكان عبد الرحمان اليوسفي أن ينفلت من ضغوطات سياق ميلاده، أوليس الإنسان ابن بيئته؟. لنتذكر أن الأستاذ محمد شفيق (ولد سنة 1926) في نفس السياق أيضا والذي يعد الأب الروحي للحركة الأمازيغية لم يطرح الأمازيغية قط في سياق الحماية وشارك بدوره في المسيرات المصاحبة لإصدار وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944 رافعا العلم الوطني الذي استقدمه خفية من أزرو. يمكن قول نفس الشيء عن محمد بن عبد الكريم الخطابي ومشروعه السياسي. لم يكن السياق يسمح بشيء آخر غير التعامل مع وضعية الهيمنة الاستعمارية.

وبعد الاستقلال نعرف جميعا التحديات التي واجهها عبد الرحمان اليوسفي. وبقدر ما لم يستطع الانفلات من ضغط اكراهات سياق الحماية، لم يستطع أيضا أن يغرد إيديولوجيا خارج سرب العروبة والاشتراكية، شأنه في ذلك شأن جيله، إلا من رحم ربك، إن أراد معانقة هموم الجماهير الشعبية. فهل كان المرحوم ضد الأمازيغية؟

يصعب الجزم بذلك وفي نفس الوقت لا يمكن القول بأنه كان معها ما لم يصرح صراحة بأحد الموقفين. إيمانه بالعروبة مشروعا سياسيا كان واضحا ولذلك ابتدع كلمة “العوربة” لمواجهة “العولمة” لكن قد تكون عروبته تلك التي تحترم التعدد الثقافي واللغوي لهذا المجال الواسع المسمى “عالما عربيا” وليس العروبة الاقصائية المنحازة لاثنية معينة. أكيد أن كلمة “العروبة” نفسها لا يمكن أن تحيل على إمكانية قبول التعدد والاختلاف.

لكن في المقابل يسجل التاريخ أن عبد الرحمان اليوسفي كان أول وزير مغربي أدرج كلمة الأمازيغية في تصريحه الحكومي سنة 1998. إشارة بسيطة لم تكن لترضي الحركة الأمازيغية التي رفعت سقف مطالبها منذ سنة 1996 فدعت في مذكرة مرفوعة للملك الراحل للاعتراف الدستوري بالأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية، وهو ما لم يتحقق آنذاك. لكن من منظور آخر، كانت إشارته تلك، التي جاءت بعد الأحداث المصاحبة لاعتقالات أعضاء جمعية تيليلي بكولميمة في فاتح ماي 1994 ثم خطاب الملك في 20 غشت من نفس السنة حول “تدريس اللهجات” وتوسع دينامية الحركة الأماويغية وطنيا ودوليا، كانت بمثابة محاولة توسيع ثقب صغير في جدار سمين، في انتظار سياق أفضل لمزيد من المكاسب.

لم يتمكن المرحوم اليوسفي من تحقيق كل ما كان يتمناه وربما كانت الأمازيغية ضمنها، وهو ما يتضح من قوله معلقا على زيارته لسوس سنة 2013 واستقباله من طرف الأستاذ أعمو ثم اكتشافه لغنى التنوع الثقافي المغربي: “كانت رحلة لها أثر خاص في نفسي لأنها منحت لي الاتصال بجزء أساسي من مناطق المغرب، حيث صنعت أحداث سياسية تاريخية مؤثرة وهامة، ولأنها كانت رحلة ثقافية لم تتح لي مثيلتها مغربيا من قبل، أكدت لي غنى تنوع مصادر الهوية المغربية، التي سعدت أن نص الدستور الجديد لسنة 2011 انتبه لأهمية التسطير عليها في ديباجته” (أحاديث في ما جرى، شذرات من سيرتي، ص.240).

رحم الله الفقيد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد