شعب الدولة أم دولة الشعب؟

محمد بودهان

بقلم: محمد بودهان//

علاقة صراعية ومتعارضة:

لماذا ينعت العديدُ من المغاربة الموالين للدولة بـ”المخزنيين”، وبدلالة قدحية تفيد الرجعيين المعادين للشعب والمناهضين لمصالحه؟ هذا الجمع بين العداء للشعب والولاء للدولة قد يبدو غريبا ومتناقضا إذا عرفنا أن المفترض، بل البديهي، أن جميع المواطنين هم موالون لدولتهم، وذلك حتى عندما يكونون معارضين للحكم الذي تمثّله السلطة التنفيذية، لأن أحد المكوّنات الرُّكنية للدولة هو الشعب نفسه. ولهذا فلا يمكن لجزء من الشعب أن يعادي دولته، أي يعادي نفسه، لأن الدولة موجودة بوجود هذا الشعب. لكنه يمكن أن يعادي ويعارض حكومات هذه الدولة. ذلك لأن الدولة باقية ببقاء هذا الشعب، لكن الحكومات تذهب وتتعاقب. هذه هي العلاقة الطبيعية بين الشعب ودولته، باعتبار هذه الأخيرة نابعة منه وتابعة له. أما في المغرب فهذه العلاقة، كما تمارسها الدولة أو تعمل على ممارستها، هي بين هذه الدولة كفاعلة وشعبها كمجال لفعلها، باعتباره تابعا لها وموضوعا تحت تصرّفها (ومن هنا مفهوم “الرعية”). وهو ما يجعل هذه العلاقة صراعية ومتعارضة.

ثنائية المخزن و”السيبة”:

وترجع طبيعة هذه العلاقة الصراعية إلى طبيعة النشأة التاريخية للمخزن كجماعة تجمعها روابط قبلية وعرقية، وإيديولوجيةٌ دينية ومذهبية، نجحت (الجماعة)، بالاستخدام المادي لقوة السلاح والاستخدام الإيديولوجي لقوة الدين والعرق، في إخضاع واستمالة بعض القبائل والاستيلاء على ثرواتها. ولأن هذه الجماعة كانت تجمع وتخزن ما تنهبه بالقوة من ثروات القبائل باسم الجبايات، فقد أُطلق عليها اسم “المخزن”، الذي يعني المكان الذي كانت تخزن وتحفظ فيه تلك الجماعة ما كانت تستولي عليه من ثروات وأملاك القبائل المغلوبة. وهو مفهوم منقول ومترجم بمعناه الحرفي من الكلمة الأمازيغية “أجدير” أو “اكاددير”، التي تعني موقعا محصّنا ومحروسا تخزن وتحفظ فيه القبائل المؤن والأسلحة ومختلف المنقولات والأمتعة. ثم انتقل معنى “المخزن” من الدلالة على اسم المكان (مكان التخزين والحِفظ) إلى الدلالة على اسم صاحب المكان، فأصبح يعني تلك الجماعة المسلحة نفسها التي تبسط سيطرتها على ذلك المكان، الذي تهرّب إليه ما تنتزعه من القبائل من محاصيل وأنعام.

وبجانب مفهوم “المخزن” سينشأ مفهوم “السيبة”، الذي يعني الأراضي الخارجة عن سيطرة المخزن، والخاضعة بالتالي لسيطرة مالكيها الشرعيين الذين هم القبائل، التي كانت تسيطر على أزيد من خمسة أسداس مجموع التراب المغربي ( مقابل فقط أقل من السدس الخاضع لسيطرة المخزن) كما جاء في الكتاب الاستكشافي الاستخباراتي لـ”شارل دو فوكو” Charles De Foucault الذي كتبه سنة 1884 تحت عنوان “استكشاف المغرب” Reconnaissance au Maroc. وإذا كان مفهوم “السيبة” ذا دلالة قدحية، تعني الفوضى وغياب الأمن والقانون، فذلك لأنه من صنع الدوائر المخزنية نفسها لشيطنة عدوها الذي هو القبائل الحرة، المتصدّية لظلم المخزن، والمناهضة لاستيلائه على أراضيها وثرواتها، والرافضة لدفع الجبايات التي كانت تعتبرها مرادفا للعدوان والتسلّط والنهب.

 ولأن المخزن، بهذا العدوان والتسلط والنهب، كان رمزا للجبروت والظلم والقهر والغلبة، فقد كان مدلول “مخزني” عند القبائل، سواء الخاضعة لسلطة المخزن أو المستقلة عنه المناوئة له، يعني من يمارس هذا الجبروت والظلم والقهر والغلبة باسم المخزن، مثل العمال والقواد والجباة… وقد احتفظ الوعي السياسي المغربي بهذا المعنى لصفة “مخزني” بدلالتها التي تحيل على “الرجعي” الذي هو مع المخزن وضد الشعب. وقد أدى الاستعمال الواسع لكلمة “مخزني”، بهذا المعنى القدحي، إلى نحت فعل مصاغ من لفظ “مخزن”. فنقول: “تمخزن” المناضل الفلاني، أي تحوّل إلى “مخزني” يدافع عن المخزن بعدما كان يدافع عن الشعب، أو “مخزنة” الأحزاب، أي تحويلها إلى خادمة للمخزن. فصفة “مخزني”، التي يُنعت بها الموالي للدولة المخزنية، احتفظت إذن بنفس المعني الأصلي، الذي يُقصد به من هو ضد الشعب (القبائل في الماضي).

حضور سلوك “القبيلة و”السيبة” في سياسة المحزن:

لكن ما يهمّ بالنسبة لموضوعنا، هو أن اسمرار استعمال نفس المفهوم القديم (مخزن، مخزني) وبنفس مدلوله القديم، يعني أن ثنائية المخزن/السيبة لا تزال هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة المخزنية، حيث لا تزال عناصر الفساد والاستبداد والشطط والنهب الجبائي، التي كان المخزن يعتمد عليها في قهره للقبائل والاستيلاء على ممتلكاتها وأراضيها، أركانا للدولة المخزنية. ولا يصحّ الاعتراض ـ وهو اعتراض ذو مضمون مخزني ـ  أن الشعب هو الذي لا زال ذا طابع “قبلي”، ولهذا فلا يناسبه من نظام سياسي إلا نظام مخزني يعرف كيف يتعامل مع مظاهر “السيبة” القبلية. وهذا صحيح، لكن بالسبة للمخزن الذي لا يستطيع ان يحافظ على استمراره المخزني إذا لم يستمر في التعامل مع الشعب مثلما كان يتعامل مع القبائل في الماضي، حيث يشكّل الفساد والاستبداد والتسلط والظلم مظاهر بارزة لهذا التعامل. فالجانب “القبلي” و”السيبي” مرتبط بممارسات المخزن وليس بسلوكات الشعب. ولا ننسى أن هذا المخزن نفسه هو الذي ابتكر مفهوم “السيبة” القدحي لشيطنة القبائل التي كانت تواجه ظلمه واستبداده، وترفض فساده وتسلّطه. وإذا لم يعد يستعمل اليوم مفهوم “السيبة” لشيطنة خصومه والتحريض عليهم، فذلك لأنه استبدله بمفهوم جديد يناسب الوضع الجديد المتسم بزوال التأثير المباشر للقبيلة، وهو مفهوم “الفتنة”. فإذا كانت الدوائر المخزنية تُطلق، في الماضي، اسم “السيبة” على مناهضة القبائل لتسلط المخزن، فإنها اليوم تسمي هذه المناهضة بـ”الفتنة”، التي تحمل، فضلا عن دلالتها الاجتماعية والسياسية، دلالة دينية يتعمّد فيها المخزن استعمال الدين لشيطنة المناهضين الجدد للفساد والاستبداد، والشطط والتسلّط. 

استمرار العلاقة الصراعية:

  إذا كانت القبائل في الماضي ترفض السياسة المخزنية وتثور عليها وتقاومها حتى بالسلاح، فذلك لأنها كانت تنظر إلى المخزن ككيان غريب عنها، لا تنتمي إليه ولا ينتمي إليها، كل همه هو أن ينهب أملاكها ويسلب محاصيلها. وهذا الموقف من المخزن لا زال لم يتغير عند الكثير من المغاربة عندما يصفون خدامه والمدافعين عنه بـ”المخزنيين”، بدلالة “الرجعيين” الذين يعملون ضد مصلحة الشعب. فكيف يكون ممثلو المخزن، الذي هو من المفترض دولة الشعب، يعملون ضد مصلحة هذا الشعب؟ لأن هؤلاء المغاربة ينظرون إلى المخزن كمؤسسة تتعارض مصالحها مع مصالح الشعب، كما يتجلى ذلك في حاجة هذا الأخير الدائمة إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، التي تحدّ منها الممارسات المخزنية، وفي غياب الخدمات الاجتماعية المناسبة، وفي رداءة التعليم والتكوين، وفي تناقص فرص الشغل، وفي ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وفي إثقال كاهل المواطنين  بالضرائب والرسوم… وكل ذلك نتيجة لحاجة المخزن المتنامية  لمزيد من المال الذي يتطلّبه الإنفاق على الفساد وشراء الأحزاب، وخلق مؤسسات ريعية ومكافأة الموالين والأنصار، وهو ما يتوقف عليه وجود واستمرار النظام المخزني، ويضمن له احتكار السلطة والثروة والدين.

هذا التعارض بين مصالح المخزن ومصالح الشعب، نلمسه في عدة مظاهر، من بينها أن المسؤولين المخزنيين يبنون مدارس للشعب لكن لا يدرس بها أبناؤهم؛ يبنون مستشفيات لكن لا يدخلونها عندما يمرضون؛ يضعون قوانين وتشريعات لكن لا تُطبّق عليهم وتُطبّق فقط على أبناء الشعب؛ يفرضون اللغة العربية على الشعب لكن أبناءهم لا يدرسونها وهم لا يتقنونها؛ ينادون بربط المسؤولية بالمحاسبة لكنهم لا يُحاسبون ولا يُسألون… هناك إذن خطان متوازيان لا يلتقيان، أحدهما هو المخزن، والثاني هو الشعب، مما يجعل الدولة المخزنية تبدو، من خلال سياستها وتصرفاتها، كما لو أنها أجنبية عن الشعب وخصم له. وهو ما يفسّر أن صفة “مخزني” تعني المتموقع كخصم للشعب. 

صعوبة الاندماج بين الشعب والدولة المخزنية:

وهذا راجع إلى أن الدولة المخزنية لم تنتقل بعدُ، في ما يخص علاقتها بالشعب، إلى مستوى الدولة المندمجة في شعبها الذي يشعر أنها دولته. لماذا؟ لأن النظام المخزني نشأ تاريخيا كعدو للقبائل التي كان يحاربها وتحاربه، والتي كانت تمثّل شعب القبائل. ولا تزال هذه العلاقة الصراعية تحكم سلوكات المخزن في علاقته بالشعب، كما سبقت الإشارة. وقد كان المنتظر من الحماية الفرنسية أن تحوّل المخزن إلى دولة حديثة غير مخزنية، مندمجة في شعبها تنتمي إليه وينتمي إليها، حيث يكون الصراع، عندما لا يمكن تجنبه، ليس بين الدولة والشعب، بل بين الشعب والحكومات المكلفة بتسيير وتدبير الشأن العام، كما سبقت الإشارة. لكن بما أن الحكومة الحقيقية والفعلية ـ وليس الحكومة المحكومة والصورية ـ بالمغرب هي المخزن دائما وأبدا، فصراع الشعب يبقى هو صراع مع المخزن وليس مع الحكومات الصورية والمحكومة. فعلى عكس ما كان منتظرا من الحماية الفرنسية، فقد أحيت هذه الأخيرة النسخة الأصلية والأصيلة للمخزن، وقوّته بعد أن كان ضعيفا، ووسعت سلطته بعد أن كانت محدودة، وأخضعت له كل المغرب بعد أن كان لا يحكم إلا أقل من سدس هذا المغرب، وأمدّته بالوسائل الحديثة لممارسة “تمخزنيت”، وزوّدته على الخصوص بمؤسسات وآليات ممارسة العنف القضائي الذي أصبح هو البديل عن “الحركْة” القديمة، التي كان المخزن “يؤدّب” بها القبائل ويعاقبها وينتقم منها. فبدل أن تقارب الحماية بين المخزن والشعب، بإدماج الأول في الثاني كدولة للشعب، باعدت وعمّقت الهوة بينهما. وهذا أمر مفهوم إذا عرفنا أن المخزن استنجد بالاستعمار لحمايته ومحاربة قبائل الشعب أو شعب القبائل.

ورغم أن فرنسا نجحت في جعل المخزن يبسط كامل سلطته على كل القبائل، التي تحولت إلى شعب مغربي واحد موحد، إلا أن هذا المخزن استمر في التعامل مع هذا الشعب كشعب تابع له، وخادم لمصالحه باعتباره شعب الدولة المخزنية. وهذا ما يفسّر استمرار استعمال مفهوم “الرعية” للدلالة على الشعب الخاضع والمنقاد. فسياسة المخزن ترمي، منذ نشأته، إلى إدماج القبائل/الشعب في دائرته المخزنية. ومن يرفض هذا الإدماج يتهم بأنه يدعو إلى “السيبة” أو “الفتنة”. ولكن هذا الإدماج لم يسبق أن تحقق بشكل كامل للأسباب التي ذكرنا، وخصوصا أن المخزن كان يتصرف دائما ككيان تتعارض مصالحه مع مصالح القبائل/الشعب. وهو ما يجعل الاندماج بينهما غير ممكن لأن المخزن يريد لهذا الاندماج أن يكون من طرف واحد وفي اتجاه واحد: من طرف الشعب وفي اتجاه المخزن، باعتبار الشعب هو شعب المخزن (الرعية). أما الطريق الطبيعي للاندماج بين الشعب والدولة، فهو أن يندمج المخزن نفسه في الشعب ليشكّل دولة هي دولة الشعب، أي الدولة التي صنعها واختارها الشعب، بدل أن يكون الشعب هو شعب الدولة، أي صنعته واختارته الدولة، كما في النظام المخزني. وهذا يقتضي طبعا الانتقال الحقيقي من نظام المخزن إلى نظام الدولة، التي تكون دولة للشعب، منه تستمد وجودها ومشروعيتها. آنذاك فقط لن يعارض أحد الدولة، لأن الدولة ستكون دولته هو أيضا، وإنما ـ عندما يقتضي الأمر ذلك ـ سيعارض الحكومات التي ستكون هي غير الدولة، باعتبار هذه الأخيرة مؤسسة ذات ولاية مؤبدة وليست كالحكومات ذات الولايات المؤقتة.

فمتى ينتقل المغرب من نظام المخزن إلى نظام الدولة، ومن شعب الدولة إلى دولة الشعب؟    


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading