من تونس: الدكتورة عواطف منصور في موضوع: الفن و الإبداع في زمن جائحة كورونا

إعداد سعيد الهياق//
و العالم يعيش على حين غرة تحت وطئة مرض فيروس كورونا الغادر، وجد الإنسان نفسه تحت رحمة الحجري الصحي قسرياً. و من أجل تجاوز تداعيات الإحباط و التداعيات النفسية كانت الحاجة إلى التعايش القهري مع هذا الوباء. من هنا كانت الحاجة إلى الإبداع في أي مجال و بأية وسيلة لرسم آفاق جميلة. و عند الفيسلوف الأمريكي جون ديوي يصعب الفصل بين الفن و الظاهرة الجمالية على جميع المستويات.
و من أجل قراءة العلاقة بين الفن و الجمال كان لنا حوار عن بعد  مع الدكتورة عواطف منصور الكاتبة والباحثة الأكاديمية من تونس:
* أية علاقة بين الفن و فلسفة الجمال…؟
* ما موقع الفن و الفنان التشكيلي في زمن كورونا…؟
* إلى أي حد ساهمت كورونا في رؤية الفنان للواقع ؟
*و ماذا عن تغيير جغرافية الفنون الجميلة…؟
* فهل تغيرت القيمة الجمالية للفن في ظل أوجاع كورونا..

” إلى عهد غير بعيد كنا نأمل أن يجتمع مبدعو وفناني العالم على شيء سواء في تصريف شؤونهم الثقافيّة ومعالجة قضاياهم الإبداعيّة، ذلك أن رسالة الإبداع الحقيقية تتمثل في إرساء السلام والرقي والثقافة الابداعيّة السمحاء بما فيه من تلاقح وتجدد وتطوير للمجتمعات عموما والفنانين خصوصا في شتى أرجاء الكون. وهاهو هذا الأمل يتحقق اليوم، ولكن ليس من أجل ذلك الحلم الجميل ولكن من أجل واقع فاجأنا وفجعنا في نفس الوقت، واقع اجتمعت حوله الإنسانية جمعاء وتكاتفت وتضافرت حوله الجهود ليس إحلالا لذلك الأمل أو تباحثا لإيجاد سياسات ثقافية مشتركة ولكن من أجل الخلاص من براثن وباء قاتل أوقف العالم بأسره على قدم وساق، وباء اتسم بالغموض والخوف وحكم على العالم بالحجر الصحّي قسرا لا خيارا.
وربّما كان الحجر سببا في التحولات التي شملت مؤخّرا رؤى وأفكار العديد من المثقفين والمبدعين لتتغيّر وتتبلور حسب الاختصاصات والمباحث الفكريّة والثقافية والإبداعية، فكان أن شهدنا تطورا في الأفق الفكري للمبدعين وتنوعا في الفنون والأشكال الابداعيّة ولاسيما الجماليّة على غرار الفنون التشكيلية على اختلاف اختصاصاتها وتنوع مشارب مبدعيها من خزافين، نحاتين، رسامين، حفارين، وغيرهم…، شهدنا انقلابا عصف بمبادئ بعضهم الذين خلناهم إلى وقت قريب لن يتخلوا عن الريشة والإطار بالرغم ممّا قدمته لهم التكنولوجيات الحديثة من إغراءات، بيد أنهم اليوم في ظل هذا الحجر الذي منعهم قسرا لا خيارا عن التحول إلى مراسمهم انصاعوا إلى هذا الخيار. وتحوّلوا عن الريشة الى الفأرة وعن الإطار واللوحة إلى الشاشة الزرقاء.
جعلنا هذا الحجر نستفيق جميعا على الأهميّة القصوى للشبكة العنكبوتيّة وللعالم الأزرق، عالم الرقميات وكل ما له صلة بالتكنولوجيات الحديثة، رغم أنه كان طوال الوقت متاحا أمامنا ولكن لم نكن لننتبه له بهذا القدر، ربما لأن الوقت لم يكن متاحا لدينا بهذا القدر أيضا. ولكن يبدو أنّ هذا الحجر الصحّي قد كوّن هذه الأرضيّة المعرفيّة لهذا العالم الجديد فنهضت على إثرها كلّ الإبداعات وتفرّعت منها معظم الأطروحات الفكريّة التي شكّلت اليوم أعمدة جديدة لنظام إبداعي وثقافي متجدّد ومغاير لما كنا نشهده الى فترات جدّا قريبة، وعلينا أن لا نتخلّى على هذه الأرضيّة بعد الجائحة حتى لا تتهاوى هذه الأعمدة وترتدّ، خاصة ونحن تعوّدنا أن ننسى ونرتدّ بسرعة، ولكن علينا فعلا أن نفكّر كل مرّة في المواصلة، التجديد والتطوير، فالجائحة لن تغادرنا بهذه السهولة، وحتى وإن فعلت فواجبنا أن لا نستكين وأن نبني على إثرها حسبانا واحتسابا لرجوعها.
أرسى هذا الحجر الذي خلفته جائحة “كرونا” عدّة بدائل مستحدثة على مستوى الأساليب والممارسة الفنيّة والإبداعية روّجتها مواقع التواصل الإجتماعي بشكل لم يكن لولا كرونا، وشهدنا طفرة هائلة من الممارسات الفنيّة الإفتراضيّة ظهرت في أشكال متنوّعة على غرار المعارض الفنية الافتراضية التي جمعت فنانين من مختلف دول العالم وقرّبت المسافات لدرجة أننا أصبحنا نسافر في لحظات دون تصريح عبور، فساهمت بالتالي في توسيع رقعة الإبداع ليتحوّل في المكان والزمان دون تأشيرة وفي سرعة هائلة، معارض استقطبت فنانين لم يكونوا ليلتقوا لولا الجائحة وما خلّفته من حجر عالمي، بيد أن الحجر تحوّل إلى لقاء تلاقحت فيه التجارب وتبادلت فيه العلاقات وتوسعت فيه الثقافات، إنّها الخارطة الثقافية والفنية التي خلقتها وخلّفتها جائحة كرونا، والتي علينا أن نحافظ عليها مستقبلا.
وبقدر ما تبدو تداعيات “كرونا” مرعبة ومقلقة وبقدر ما يسودها من الغموض تجاه كنهها ومدى بقائها من مغادرتها، إلاّ أنّها جعلت العالم يستفيق على أهمية التكاتف والتضافر ولعله حال المبدعين الذين تضافرت جهودهم من أجل بناء علاقات دولية تبني إلى التوعية بأهمية الثقافة الإبداعية التي تساهم في نشر السلام، الرقي، المحبة وتقضي على كل أشكال التطرف وتبني للإختلاف، وكان الردّ معارض جمّة في الرسم،ـ النحت، الخزف، الكاريكاتير،…، ورشات تعليميّة وندوات ودورات تربص وتكوين بدون مقابل تجمع مثقفي ومبدعي العالم ليتبادلوا الأفكار والرؤى نحو خلق واقع جديد وبناء خارطة لسياسات ثقافية جديدة، وأعمال فنية ترسم تداعيات الجائحة وتبني لوعي الجمهور في كل أرجاء العالم، كلّ ذلك التضافر والتكاتف من أجل كسر الخارطة الثقافية الجامدة والتقليدية المجدودة وخلق خارطة جديدة تجمع وتؤلف للتطوير نحو الأفضل.
أنا نفسي لم أكن لأجد كلّ هذا الوقت للممارسة الفنيّة وكتابة الدراسات الفنية لولا هذا الحجر، فجهودي كانت منحصرة ومنصبّة في تحضير وتقديم الدروس لطلبتي وما يشملها من تأطير وتحضير عميق يتطلب وقتا وبحثا ومجهودا، ويرافقها تحوّلي من المدينة التي أقطنها إلى المدينة التي أُدَرِسُ بها، مع العائلة ومتطلباتها، فكنت لا أجد الوقت إلى البقاء مطولا أمام شاشة الحاسوب، غير أنّ الحجر جعلني أشهد ما تضجّ به الساحة العربيّة من إبداع يستحق التمعن والقراءة، فهو الشاهد على العصر وهو مادتنا للكتابة والتأريخ للجائحة وسنّ أقلامنا وشحذ أفكارنا لرقن ما يتبدّى على الساحة بتفكّر وتدبّر. كما أنا الشاشة الزرقاء مكنتني من لقاء طلبتي ومواصلة برنامجنا الدراسي من خلال تأثيث مجموعات للتواصل بيننا وصفحات لتنزيل أهم الكتب والمراجع ليستفيدوا منها في إنجاز بحوث ووجدنا أنفسنا نلتقي خلال اليوم الواحد عدة مرّات ما يجعلهم يطرحون أسئلتهم ليجدوا الإجابة بسلاسة، فعلا هذه المساحات الرقمية خلقت تقاربا بيني وطلبتي كما مكنتهم من التواصل المستمر وساهمت في إرساء ثقافة جديدة على قدر ايجابيتها على قدر أهميتها مستقبلا.
مكنني الحجر أيضا من إنهاء عدة دراسات ومقالات كانت عالقة بسبب ضيق الوقت، كما جعلني أستفيق على مراجعة نفسي والاهتمام بالجانب التطبيقي والذي لا أراه يكتمل إلا مع القراءة والتفكّر والتدبّر للكتابات وكتب التاريخ والجماليات لما لها من تأثير في تجديد وتطوير رؤى المبدع، فأنا عاشقة للخزف قبل الكتابة لتجدني أعود من جديد لممارسة هذا العشق الفني، بالإضافة إلى المشاركة في عدة معارض افتراضية ساهمت في تعرفي على عدة فنانين من العالم ما من شأنه أن يثري الممارسة ويطورها من خلال تبادل الأفكار والنقد البناء والتشارك في الأساليب والمواد،… على غرار ملتقى “ربيع السلام الدولي” تحت إشرف اتحاد الفنانين التشكيليين المغاربة”، معرض “خزفيون ونحاتون” من تنظيم “مجموعة ريشة ولون العالميّة”، معرض “نفرتيتي الالكتروني الأول” للفنون التشكيلية من تنظيم “مؤسسة عبد القادر الحسيني” وورشات تعليمية على غرار ندوات حول التراث التي تشرف عليها وزارة الثقافة التونسية، وأخرى دوليّة.
ومن الحقائق التي لا يجدر بنا تناسيها هنا أن الفن مؤثّر في بناء تاريخ الشعوب وكتابة تاريخ الفن، فقد أرّخ الفنانون من قبل للأوبئة من خلال أعمال فنيّة ظلّت إلى اليوم شاهدا على عصور الطاعون، الكوليرا والأنفلونزا،… نذكر منها أعمال “جوس ميفرينكس”، “ويكي كومز”، ” بيتر بروغيل”، ” أرنولد بوكلي، وغيرهم كثيرون…، وبالمقابل نجد فناني هذا العصر لا يتخلّون بدورهم عن موقعهم ليؤرّخوا لجائحة كرونا وتداعياتها، وستكون الفترة القادمة شاهدا على نتاجاتهم وتصوراتهم المختلفة الأساليب.
ولمّا كانت “كرونا” جائحة مرعبة وقاتلة ومفزعة، فإنّ ما خلفته من استفاقات وزعزعة للعالم بأسره وخاصة العالم العربي لتغيير سياساته البطيئة والمعوقة تجاه الصحّة والتعليم والثقافة والإبداع، تصبح نموذجا من الثقافة الوجوبيّة وصنوا للتطوّر الإلزامي، فمن تداعياتها المهمّة أولوية النظر في طرح خارطة فكريّة جديدة وسياسات بديلة ومتجدّدة تبني لإصلاح التعليم والثقافة والارتقاء بالصحّة باعتبارها أولويات صلاح المجتمعات فإذا صلحت صلح شأن مجتمعاتها وإذا خابت فإننا لن نحتاج لدليل فما شهدناه خير دليل، كما أن الإكتفاء الذاتي حاصل والتعاون بين دول العالم العربي قادر على تطوير شعوبه ولكن وجب النظر في دواخلنا لنبدع انطلاقا من مخزوننا وليس من مخزون الآخر.”

الدكتورة عواطف منصور:

* أستاذة جامعية بكلية الآداب و الفنون و الإنسانيات، جامعة منوبة
* فنانة تشكيلية و باحثة في جماليات الفنون و في علوم التراث؛ تونس

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد