يوميات زمن كورونا – 3- البيت بوصفه فضاء أنثروبولوجيا

نلاحظ أن تصميم المساكن في سهل سوس وفي سفوح جباله ونقصد هنا بطبيعة الحال سفوح جبال الاطلس الصغير، فرغم طابع البساطة التي يسيطر عليها على العموم، فلا يخلوا من مؤشرات القرابة مع جوانب كثيرة من تصاميم المسكن المعروفة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. والتي تبدو نقاط تقاطعهما واضحة للعيان، ولئن كان الصحن يدخل ضمن تصاميم المسكن المديني والبدوي-من البادية- على حد سواء، رغم اختلاف مساحة الصحن بين المسكنين بحيث ان المسكن المديني يكون دائما صغير الحجم والمساحة مقارنة مع نظيره القروي، والذي تخصص له مساحة كبيرة وهو امر مقصود على كل حال بالنظر إلى الوظائف الأساسية التي يؤديها “اسراك” في الحياة الاقتصادية والبيئية والاجتماعية للبيت الامازيغي، فهذا الفضاء المتعدد الداخلي والحميمي المتعدد الأدوار يشكل عصب الحياة في الاحياء السكنية الامازيغية وتتوسطه على العموم نطفية، تخصص لخزن مياه الامطار التي تستعمل في الشرب وتحضير فناجين الشاي حصريا. وبغية استغلال كل نقطة من مياه الامطار التي تسقط نمن السماء يتم ربط النطفية بقنوات تنحدر من سطوح المنازل، كما تفتح مسامات أخرى في جنبات الصحن وفي اطرافه كي يتسرب منها الماء إلى جوف النطفية، وتسمى تلك المسام باللغة الامازيغية ب “إيزراز” (IZRAZ).
هذه النطفيات عبارة عن حفر عميقة في جوف الأرض تأخذ شكلا مقعرا في غالب الأحيان ويعهد بحفرها إلى عمال حرفيين من دوي التجربة والخبرة الطويلة في الحفر، وبالنسبة لعمقها فيترواح بين 4 إلى 6 أمتار بينما يصل قطرها إلى أربعة امتار، ولا يمكن ان يتجاوز عمق النطفية 6 امتار مخافة تسرب مياه الفرشاة الباطنية إلىها، كما يمكن ان نعثر على نوع اخر من النطفيات التي ترفع بأركان واقواس يتم رفعها من بطن النط تحثفية الأرض وترفع عليها السقوف، النوع ناذر يعتبر في حكم الناذر جدا في هذه الربوع بين ما تعرف شيوعا كثيرا في مناطق عبدة ودكالة الشاوية..
في حالة عدم وجود النطفية فيتكلف الحوض بتوسط الصحن في المسكن الامازيغي، وتزرع فيه كل أنواع الازهار الجميلة والتي تنبعث منها رائحة طيبة ونخص بالذكر هنا نبات الحباق الذي ينشر روائحه وعبقه الزكي في أرجاء البيت ويساهم كذلك في تقليص اعداد اسراب بعض الحشرات الطائرة ويعمل على طردها ونذكر هنا على وجه الخصوص الناموس والدباب وغيره من “المينيسكيولات” التي تنتشر في فصل الصيف الذي يعرف ارتفاعا في درجات الحرارة، كما لهذه النبة “المقدسة” أدوار أخرى… وتزين بها العرائس وتوضع على فروة رؤوسهن لحضة خروجهن إلى بيت الزوجية ويرمز ذلك إلى العذرية والطهارة، كما توضع كذلك عروش منها بجانب جثامين الأموات المقبلين على الدفن…
لقد خضع المسكن الامازيغي لسلسلة من التطورات، المتلاحقة والمتسارعة اسوة بباقي المؤسسات الاجتماعية والثقافية، وهذا ما أشار اليه مجموعة من الباحثين الذين تناولوا هذا الموضوع بالدرس والتحليل، ومنهم من اعتبر ان وجود الصحن في البيت يعتبر مؤشرا كبيرا على الانتقال من نمط العيش المبني على الترحال إلى حياة الاستقرار، والدليل على صحة هذه الفرضية هو تسمية حضيرة البهائم بأسراكَ ASARAG))، وإطلاق “”تاسراكَت TASARAGT وهي مؤنته على صحن المنزل.
ان قراءة المسكن الامازيغي بالمداشر والدواوير وحثى في المدن، يمنح لنا انطباعا بوجود حياة اجتماعية وثقافية راقية قديمة ومتوارثة بين الأجيال ومن مظاهر هذا الاستقرار الكبير والقديم جدا، ذلك الانسجام الحاصل بين كل مكوناته وتعاضد اجزاءه واقسامه وتشكل الوحدة المورفولوجيا للمظهر الخارجي للأحياء الامازيغية أبرز تجلي لانتقال المعارف الثقافية المرتبط بالعمران والتخطيط السكني بين أجيال السكان المتعاقبة.
تشترك المساكن الامازيغية في عدد من العناصر التي تتركب منها، ومن بين هذه العناصر المشتركة نجد على الخصوص المدخل، وومحج الدخول، ويسمى أعكَومي وأغمي في بعض المناطق هذا الأخير له العديد من الأدوار التي سنذكرها عند الحديث عن هذا المرفق الاستراتيجي في البيوت الامازيغية. إضافة إلى الصحن وملحقة الضيوف او تادوايريت، نجد كذلك الحجرة الرئيسية الخاصة برب الاسرة والتي لا يدخلها أحد غيره من أهل المسكن، ومن تجرأ على مخالفة ذلك البروتوكول سينال من العقاب والتفريع ما يجعله يندم على مجرد التفكير في تكرار فغله… زيادة على مجموعة من الحجرات التي تنقسم بدورها إلى عدة اقسام حسب وضائفها واستعمالاتها، فهنالك غرف نوم الأطفال وغرف اليافعين وتخصص واحدة منها للبنات وأخرى للبنين، ويفرق بينهم قبل ظهور العلامات الأولى للبلوغ، واخرى خاصة بضيوف العائلة من الاقربين وفيها ينامون، إضافة إلى حجرات خزن المؤونة من حبوب وقطاني وعسل وسمن وزيوت وسمن وزبدة وطحين وغيره من الفواكه الجافة من تمر وتين وتين شوكي مجففين والمحار او وين ايل (Will) مجفف وتاغروست” التي تقطع من اسماك تازلمزاتCorbine) ( وترسركَالت المجففين في أشعة الشمس، وغيره من مدخرات العائلة والتي تشكل احتياطا غذائيا داخليا يتم خزنه واستهلاكه وفق تذبير عقلاني محكم عماده الأساسي هو منهج تذبير الندرة من طرف رب الاسرة حسب الظروف والاوقات. المسكن الامازيغي تتوفر فيه كل عناصر الراحة والسكينة والاسترخاء ويستجيب لكل ضروريات الحياة وحاجياتها، مثل المطبخ الذي توجد فيه كل الاواني والكوانين الضرورية لطهي الوجبات اليومية والمرحاض، إضافة إلى حمام الاغتسال خاصة في فصل الشتاء الذي يعرف هبوطا في درجات الحارة الذي يتم تسخينه بالحطب المحمول من تكانت ويتشكل من جدور النبابات الشوكية من “افرسكل ” (Ifrskel) وانزركي(Inzerkk) و”تاكلت”” (Ttgulat)إضافة إلى جدوع الأشجار اليابسة الموجودة في “تاركا” أو الساقية وكذلك ألواح شجرة الصبار اليابسة واصابع شجرة الزقوم والدغوس الذي يسمى أكجبوض Akjbud))…
إضافة إلى حضيرة الدواب المنزلية، والتي تربط فيها الأغنام ورؤس الماعز، والخيل التي تسخر في السباقات المختلفة والعاب الفروسية او (taghzu) داخل القبيلة وخارجها، والبغال والحمير التي يعتمد عليها السكان في اشغالهم الفلاحية وفي انجاز انشطتهم الزراعية، إضافة إلى اشغال البناء والتزود بالماء الصالح للشرب من العيون والاودية، كما تحمل عليها البضائع من الأسواق والمراكز التجارية القريبة، كما تستعمل كذلك في ادخال الحبوب إلى المخازن وتحمل عليها احمال التبن إلى مستودعاتها التي تسمى “الهري ن واليم”، وقبل هذا تحمل على ظهورها المحاصيل الزراعية وفق عملية تسمى باللغة الامازيغية “بالتنكَيل”( Tenggil) والمقصود منها شحن المحاصيل الزراعية من حبوب وقطاني إلى البيدر او “أنرار” Anrar)) قصد درسها وفق عملية الروا (Rewa)
أغمي، AGHMMI
سبق وان اشارنا إلى ان اغمي أو اعكَمي حسب نطق بعض القبائل هو عبارة عن محج او رواق طويل يربط صحن المنزل بمدخل المسكن الرئيسي انطلاقا من بهو صغير كما سبقت الإشارة إلى ذلك بالتفصيل، ويعتبر هذا المرفق من بين المرافق الاستراتيجية في المسكن الامازيغي ويلعب الكثير من الأدوار في الوحدة السكنية الامازيغية التي هي البيت والتي يمكن تشبيها بوحدة إنتاجية اقتصادية، ففي هذا الرواق يتم زج صوف الأغنام وفيه تحلب البقرة الحلوب، كما تنجز فيه اعمال صيانة الاواني المتضررة، وفيه يتم تنقية السمار او )Vanneri) باللغة الفرنسية وتصنع منه الحصائر وفيه تزج رؤوس او نهايات قضيب منه وتكون نهايته على شكل سهم حاد وتتدلى منه وريقات صغيرة على شكل وردة، كما تعلق إلى جدرانه برادع الحمير والبغال وسروج الخيول، ومختلف الآلات الفلاحية من مناجل وفؤوس وعتل وغيرها من الات المستعملة في الأنشطة الفلاحية والزراعية، كما تخصص احد اطرافه وخاصة في زاويته العميقة لبناء مطحنة البيت التي هي عبارة عن رحى لطحن الحبوب من ذرة وشعير وفول وفاصوليا. تتعدد ادوار ” أغمي ” في البيت الامازيغي تبعا لخصوصيات كل منطقة على حدا غير ان القاسم المشترك فيما بينها هو تخصيصه لإنجاز العديد من الاشغال المرتبط بنوع النشاط الفلاحي والزراعي المعروف في كل منطقة على حدا.

———–
بقلم : الحسين بوالزيت /صحفي وباحث في التاريخ.
يليـــــه، المسكن البحري وأنشطة ” تيكَري ” (TIGRI)، دلالات ورموز، أو في سيميائيات السواحل..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد