قيس مرزوق الورياشي//
في عام 1977 كتب الباحث الهولاندي باولو دو ماس كتابا حول هجرة المغاربة إلى الأراضي المنخفضة بعنوان “ذهاب بلا رجوع”، سنتها كنت طالبا في السلك الثالث بباريس وفيها تعرفت، لأول مرة، على بلاد فان خوخ. في أول لقاء لي بباولو دو ماس، ناقشنا معا كتابه الحديث الإصدار. كان باولو يصر على الدفاع عن أطروحته: هجرة المغاربة محكوم عليها باللاعودة، بينما كنت أنا أدافع عن فكرة العودة، وكنت أعتبر الهجرة مسألة مؤقتة، في انتظار حدوث تحولات عميقة في المغرب، نحو الأحسن، كما وقع في إسبانيا التي شهدت عودة أزيد من 95 في المائة من مهاجريها، بعد التحول الديمقراطي.
كان عليّ أن أنتظر حوالي ثلاثة عقود لكي أتفق مع صديقي الهولاندي حول أطروحته، فالتحول البطيء والعجز الديمقراطي والقدرة الضعيفة للمغرب على استيعاب شبابه، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، لم يسمح فقط بعودة مهاجريه، وإنما ضاعف من إقبال الشباب على الهجرة، هذه الهجرة التي ما تزال تطرد مواطنينا الشباب يوما عن يوم.
عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، خصوصا من الريف المنسي والمهمش، رحلوا عنا بلا رجعة. في زمن الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات، كان الجيل الأول من المهاجرين موزعا بين وجود فيزيقي في المهجر فرضته ظروف العيش، وبين الحلم بالعيش الكريم في موطنه الأصلي. الجيل الثاني والثالث يكاد يكون مندمجا على الإطلاق، كل على طريقته. الجيل الجديد من المهاجرين ليسوا مهاجرين، إنهم أبناء وحفدة مهاجرين. إنهم لا يشبهوننا في شيء!
هولاندا لم تعد فقط سوقا للعمل بالنسبة للهولانديين من أصول مغربية، إنها أصبحت أيضا فضاء عموميا يتيح لهم فرصة إثبات الذات والهوية عبر الانخراط في مجتمع الحرية ومجتمع العدالة ومجتمع الديمقراطية ومجتمع المعرفة ومجتمع الرفاهية. لقد أصبحوا يستفيدون من نظام تعليمي يتيح بسلاسة الحراك الاجتماعي، وأصبحوا مواطنين يساهمون في بناء بلدهم الجديد بكفاءاتهم التقنية والسياسية، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الأصل الجغرافي أو الطبقي. أصبحوا يرأسون البرلمانات وأصبحوا نوابا للشعب وأصبحوا على رأس بلديات، الكبيرة منها أو الصغيرة…
ولمحمد شاشا مع هولاندا قصة خاصة. فمنذ حوالي أربعة عقود، ارتبطت حياته بساحة رامبرانت والمقاهي المسرحية وقنوات المياه التي تعبر جل شوارع أمستردام. الدوار الذي رأى فيه النور وبلدته الشاطئية قابو آوّا، قد لا يعرفانه مثلما تعرفه شوارع أمسترادام. عاش مغربيا 25 سنة وعاش هولانديا 40 سنة. حياة محمد شاشا حياة ممزقة بين تشرد حياتي وبوهيمية قاسية لم يكن يلطّف من قساوتها غير ذلك الدافع العميق للبحث عن الحرية وعن الذات حيث وجد ملاذهما في اللغة وفي الكتابة.
حلم محمد شاشا بالحراك الاجتماعي لم يدم طويلا. حتى إن وضعيته كعامل لم تدم طويلا، فقد اشتغل أقل من سنة في منجم للصلصال أنهك سريعا رئتيه وتحول جسده الشاب إلى عجز دائم. لم يجد محمد من بديل لعجزه الجسدي غير قلمه وبضعة أشعار وبضع روايات. في كتاباته، وفي لقاءاته الشعرية والقصصية كان يصدح، قبل أن يخفت صوته، انتقاما من مصيره القاسي والمأساوي.
في كتاباته كان يتقن فن معارضة بلده الأصلي، بالأحرى المتحكمين في بلده الأصلي، حد الانتحار. عندما كان شابا يافعا انخرط في الجمعيات الراديكالية بهولاندا وناضل بكانديدية لا مثيل لها. نضالاته العفوية كانت موضوع استعمال ذكي لمحترفي السياسة المخضرمين الذين استعملوا محمد شاشا وغير محمد شاشا ليراكموا رأسمالا رمزيا وماديا باذخا في كلا البلدين. نضال محمد كان نضالا “غير ذات أهداف نفعية”، ونضال مستعمليه كان نضالا قابلا للمقايضة هنا وهناك.
وحيدا ظل يعيش في شارع فان باو بأمستردام. لم يتزوج ولم يلد. كان فقط يعيش بكل بساطة تستطيع أن تترجم حلمه المجهض لاسترجاع هويته المفقودة: هويته كشاب طمح قادر على العطاء وهويته كريفي يحمل ثقافة ولغة أرضعتهما له أمه التي لم يراها قط منذ أن ودعها ذات يوم من سنة 1976.
ذهب محمد شاشا إلى الأراضي المنخفضة ليعيش شبابه المفقود في بلده. كانت سخرية القدر في انتظاره. بدأ شبابه يتآكل شيئا فشيئا حتى فوجئت بانطفاء شمعته هذا اليوم، يوم 29 يونيو 2016. كم أنا حزين الآن. لن أسمع بعد اليوم أشعاره القاسية قساوة حياته، ولن أشرب معه في ساحة رامبرانت.
محمد شاشا ذهب بلا عودة. وحتى أشعاره ورواياته، نظرا لقساوتها، قد لا تعود. وحتى نقرأها، علينا أن نسافر إليها، وقد نعود، أو لا نعود.
التعليقات مغلقة.