في احترام تراث الشعوب:  مسألة الأضرحة والزوايا والمواسم– الدكتور عبد الغاني بوشوار*

 ندرج هنا مقالا مهما للدكتور عبد الغني بوشوار الذي كتبه في سنة 2014 ، وتتجلى أهمية اعادة نشر المقال في الرد على من يستهن بالاضرحة والزوايا في الثقافة وتقاليد المغاربة، وسبب النزول هو الجدال القائم  حول الزاوية البودشيشية من طرف بعض المنتسبين للحركة السلفية داخل التوحيد والإصلاح وخارجها ..لنقرأ المقال ونعيد  تصحيح ما خلفه هذا الجدل من تشويش  لدى البعض. —الموقع

بوشوار
الدكتور عبد الغاني بوشوار

سأتناول في هذه العجالة بعض الأفكار  المتعلقة ببعض الممارسات الاجتماعية المتجذرة في تاريخ مغربنا الغالي والغني. المسألة المطروحة هنا هي الموقف الانساني المنطقي حول ما يسمى بالأضرحة والزوايا في المغرب الكبير الذي يشير إلى شمال افريقيا وسكانها. هذه المسألة هي في الحقيقة عامة في كل المجتمعات البشرية قاطبة، فإن كان تركيزي على بلدي فإنني أعتقد أن الأمر عام لدى الانسان في كل مكان بغض النظر عن الديانات والمعتقدات المختلفة التي ينتحلها بنو البشر.

قبل كل شيء لا بد من الاعتراف والإيمان ببعض الحقائق التي لا مناص منها وتشمل هذه الحقائق كل ما اتفقت عليه الدول التي تمثل بلدان العالم بخصوص المنظومة العالمية لحقوق الانسان. فمن هذا المنطلق أود أن ابين لذوي البصيرة بان حرية العمل والأفعال التي تصدر من الانسان مكفولة بانتماء الانسان إلى جنس البشر ما دامت هذه الاعمال والأفعال لا تضر غيره جسديا ومعاشيا. فمثلا إذا قام انسان بالتصفيق وهو يمشي  في الشارع فقد يتساءل المارة في أنفسهم إن كان به ضرب من الجنون أو أن المصفق تذكر شيئا وعبر عنه بذلك الفعل الصادر منه، وما قد يؤخذ عن هذا الفعل هو مدى ضرره للآخرين، المارة فقط، طبعا، لأن بقية البشر لا يخصهم ولا يضرهم تصفيق صاحبنا الذي صفق، مثل الذي قام بزيارة قبور الموتى أو تمثال رامسيس أوتمثال لينكولن. الذين قد يخصهم الحكم على هذه الزيارات هم المارة والمتواجدون في محيط ومكان وقوعها، فلا دخل ولا ارتباط الآخرين بالواقعة، هذا ناهيك عما قد يختلج في ذهن من ينكر مثل هذه الافعال ويحاول “تصيح” سلوك غيره، تماما مثل الذي يستهجن وينكر على غيره مضغ العلك مع أن الفعل لا يضره ولا ينفعه وإن كان صدر من ياباني.

الحقيقة الأخرى التي لا مناص منها تتعلق بمبدأ الضرر. وهذا المبدأ مرتبط بالتعايش والمصالح الخصوصية لكل فرد انساني ذكرا كان أم أنثى وهذه المصالح وإن كانت خاصة فإنها مشتركة بين بني البشر مثل النوم، فإن كل انسان يحتاج إلى النوم وقد يقع الضرر من فقدانه والحرمان منه والجميع معني بالاهتمام بمصدر الضرر لأنه مقلق ومفسدة للتمتع بحق النوم الذي يمس الراحة التي ينشدها بنو البشر وهو أصلا من ضروريات والحاجيات التي لا بد من اشباعها من قبل البشر والحيوان على السواء. فهنا يظهر أن الضرر له انعكاسات سلبية قد يعاني منها الغير وتكون شرعية المساءلة وتقييم الضرر والاهتمام به وبمصدره منطقية ومعقولة يقبلها العقل والعاطفة أيضا. لكن عند اعتبار زيارة المدافن والترحم على الموتى والمشاهدة البريئة للبنيان والفن المعماري وإن كان كهوفا وتدبر ايحاءات القدماء والأجداد والمعتقدات المرتبطة باختراعاتهم  وعمارة الارض على الطريقة التي اهتدوا إليها فأين الضرر للغير في ذلك؟ وبأي مبرر يتدخل يتدخل من هو بعيد عن محيط بناة الأضرحة والمقابر والزوايا وزوارها في المواسم الموقوتة  وغير الموقوتة؟ أين الضرر الذي يلحقه جراء دوافع الذين يزورون تلك الأماكن ويضربون موعدا في المواسم للقاء والمتعة بغض النظر عن دوافع روادها الداخلية؟

يوجد في مغربنا الغالي والغني مدافن تاريخية متجذرة في تاريخ الانسانية وكتبت عنها المقالات والكتب والدراسات ناهيك عن النقوش والكتابات والصور والرموز المختلفة. هذه الحالة يشهد عليها في شمال افريقيا مخلفات الحضارات الغابرة قبل مجيء الديانات السماوية إليها. يشهد التاريخ القديم بوجود دور العبادة وأماكن دفن الموتى وأماكن الترفيه ومغارات وكهوف تقام فيها حفلات وتجمعات في مناسبات دينية وغير دينية. وهي إلى الآن يرتادها الزوار من جميع أصقاع العالم. فما الضرر الذي يلحق بالذين لا يستسيغون هذه الزيارات؟ وليلي، مغارات هيركليس، كهف تيمدوين، عين أسردون، عيون الاستشفاء كلها وغيرها كثير يجتمع فيها بعض البشر في مناسبات مختلفة منذ وجود الانسان واستقراره على أرض شمال افريقيا. مصر القديمة وآثارها تشهد أيضا بهذه الزيارات من استطاع إلى ذلك سبيلا حتى من الفقهاء المتزمتين الذين يحرمون كل شيء لا ضرر فيه حتى لأنفسهم.

لما تسربت الديانات السماوية إلى شمال افريقيا،ظهرت على الارض آثار ومخلفات ساكنته ومحتليه ومستعمريه وعابري السبيل فيه. بنيت المدافن والمقابر ودور العبادة وأماكن الترفيه واللقاءات، البعض منها يخص المجتمعات الحلية والبعض منها يعم محيطا أوسع كما أن بعضها يستقطب الناس من كل فج عميق. يلاحظ بأن هذه الأماكن منتشرة بكثرة في بلدان شمال افريقيا منذ دخول الاسلام إليها وانتشاره بين أهله مع وجود أضرحة ومقابر يهودية ومسيحية يرتادها من يريد التمتع بها رغبة في “البركة” والتعبد أو لإشباع رغبة الاستكشاف والتنزه والتعجب من أعمال البشر؟ أتساءل، أين الضرر الذي يلحق بالذين ينبذون هذه الزيارات التي يقوم بها غيرهم؟ كيف للغير أن يحكم على أفعال الآخرين التي لا تقدم ولا تؤخر قدر أنملة في مصلحتهم ولا تسمن ولا تغني في شئء يخصهم؟ الامر الذي قد يخص الماضي في هذا الصدد وهو في غاية الاهمية مفاده ألا ينسى الجميع أن ما خلفه الأولون أمانة في أعناق الجميع للدلات التي يحملها بخوص وجودنا وفهم مسارنا وجذورنا وكينونتنا كبشر، الامر الذي ما زال يحير عقول العلماء المهتمين بمصير الانسانية على الاطلاق. ومن هذا المنطلق كيف يتجرأ الذين يستنكرون زيارات الأضرحة والزوايا والمقابر واجتماع الناس في المواسم التي يقوم بها غيرهم بغض النظر عن النوايا وأهداف الزيارة لأماكن لم يضعوا فيها حجرة واحدة ولا حفنة تراب؟ أضف إلى هذا تواجد الامكنة في المجتمعات المحلية غير مجتمعاتهم المحلية* ولقد تم فعل البناء وترسيم المكان في الماضي من قبل معاصري الحدث، فبأي ألاء ربهم يستنكرون ما لا يضرهم؟ وبأي حق ودليل شرعي ومنطقي وعلمي يتجرأ أي مسلم كيفما كانت نحلته، وهابي،سلفي،جهادي،علماني، شيعي سني،وسطي، متطرف، لا ديني، قرآني، حديثي، علمي، زيدي، صوفي، طالباني، اسماعيلي …إلى آخر كل التيارات سواء وجد في المغرب أو خارجه، أن ينتقد ما لا يضره في شخصه وأن يتقول فيما لا يعنيه؟ عدد من الشيوخ والمتفيقهين والمدعين لرعاية مصالح غيرهم على حساب مصالحهم(يرددون:”إن أريد إلا الإصلاح ماستطعت…”) ويقيمون الدنيا ويقعدوها ويحرمون ويكرهون للناس الزيارات لهذه الأماكن، أي مصلحة لهم وأي حق أن يتدخلوا في شأن المصري الذي يقوم بزيارة ضريح ‘الست زينب’، كانت الست مدفونة فيه فعلا أم لا؟ كذلك ومثال، باي وجه حق يقوم متفيقهو المغرب بالاستهزاء والاستنكار والانتقاد للأضرحة والزوايا مثل ما يفعله الاستاذ ‘وراضي’  ومن على شاكلته على منبر الموقع ‘هيسبرس’ الإلكتروني الذي يقوم بنشر لكل من هب ودب في مواضيع لا طائل من وراءها سوى صرف انتباه القراء إلى القضايا الهامشية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

ما الدافع والمبرر والحق والشرعية الدينية التي يعتمد عليها السيد وراضي وغيره للتهكم بعقلية ونوايا الذين يزورون الاضرحة والزوايا في مغربنا؟ هل يعدون لهم أماكن مناسبة للتقديس والتعبد والاجتماع بعد محو ما خلفه أهلهم على أراضيهم من آثار؟ ثم ما هو الدين والأوامر الالهية التي تمنع زيارة أضرحة الأجداد وزوايا وقبور الأقرباء؟ الأدارسة، المشيشيين العلميين، اليعقوبيين، التيجانيين، الناصريين، الأحمد أموسيين، أهل الزاوية الدلائيين، سبعة الرجال، بويا عمر، ابن عاشر، سيدي إفني، قبر يوسف بن تاشفين، مولاي علي الشريف، محمد الخامس ، الحسن الثاني، سيدي الحاج الحبيب، للا تاعلاة، للا رقية أعلي أحمد، سيدي الزوين وكثير من الذين أطلق المغاربة عليهم ‘الأولياء والصالحين’ من الذكور والإناث في كل مجتمع محلي ولا يكاد يخلو منهم ومنهن قرانا ومداشرنا ومدننا وجبالنا وصحارينا، أيعقل محو وإبادة كل آثار كل هؤلاء وغيرهم ليرتاح كل من يريد العبث بتاريخ الشعوب ويطمس هويتها؟ باي دليل يمنع من يريد البكاء على قبر وضريح ومسجد وزاوية أجداده وأقربائه او ينظر فقط للمكان أو يقرا سورة أو يتمتم ويقول في نفسه ما يحلو له سواء ضمر الشر او الخير؟ وهل شققنا قلوبهم وهل من حقنا إساءة الظنون بنواياهم؟ بأي مبرر يمنعني ‘وراضي’ و’داعش’ و’السلفيون’ و’الوهابيون’ والصوفيون والمتفيقهون، كلهم وكل مسلم وكل إنسان وكل متفلسف، لا مبرر ولا حق له أن يمنعني من زيارة قبور أجدادي وزوايا أقربائي وأضرحة وزوايا كل المتوفين من أهلنا في المغرب وغير أهلنا في اي مكان في الدنيا؟ زرت الأضرحة والزوايا وحضرت بعض المواسم  وبيوت التعبد والقبور ورايت فيها أية من آيات الله التي تستحق التفكر والنظر. ضريح ‘لنكن’ ،معابد الهند، أهرام مصر وقبور وأضرحة ملوكها الوثنيين والمسلمين ومقابلهم في البلدان الأخرى كلها تراث إنساني لا يوجد على وجه الارض قانون يجرم زيارتها ولا دين يحرم ارتيادها والاحتفال بمواسمها، وفوق هذا لا يجبر أحد على الذهاب إليها والتمتع واعتبار هالتها التي تبهر البعض من الناس. لم يجبرني أحد على زيارة ضريح ‘مولاي علي الشريف’ وما الضرر لغيري لما وقفت مليا واستحضرت بعض التاريخ وترحمت على الموتى وطلبت الهداية لنفسي والخير لجميع البشر.؟ المتطرفون والتكفيريون والغلات والوصاة والمتفيقهون هل لهم أدنى الاعتبار لشعور الناس ومعاناتهم والطاقات التي بذلوها لتخليد ذكرى من يحترمونه ويكرمونه  بمعلم ورمز يدل الشكر والثناء لما ساهموا به في تاريخ مجتمعاتهم. إن العلويين والأدارسة وحفدة جميع من نسميهم الأولياء من الذكور والإناث ممن يحتفى سنويا أو لا يحتفى بهم في المواسم(إلموقارن=يعني اللقاءات) المشهورة عندنا في مغربنا الغالي والغني لا يجبرون أحدا على زيارة أضرحة وزوايا أجدادهم. المبدأ عندنا هو حرية التعبير عن المشاعر والتقرب إلى الله، كل كما يبدو له في نطاق العادات والأعراف السائدة في المجتمع تحت رقابة أولياء الأمور الذين ينصبهم المجتمع لرعاية مصالح الجميع، ولم نسمع في تاريخ مغربنا من نهى عن زيارة القبور والأضرحة والمواسم وكان حتى جواب مشايخ شمال افريقيا في الرسالة التي ردوا بها على خطاب محمد بن عبد الوهاب شافيا لدحض ما يدعيه التحريميون من المنع والاستنكار وتحريم ما لا يستطيع الحكم فيه إلا الله مع أن الإباحة هي الأصل.

أيرضي شيوخنا ومتفيقيهينا ومحرمينا لزيارة الاضرحة والزوايا والمساجد العتيقة والأماكن التاريخية أن تهجرلتصبح بين عشية وضحاها صاعا صفصافا وهباء منثورا كما يحصل في العراق وسوريا وأفغانستان ومالي وبعض الأماكن في بلدان شمال افريقيا التي يعبث فيها بعض المتعصبون بتراث الاجداد بمبررات لا علاقة لها بمحاربة الشرك والشعبذة ولا هم يحزنون؟ لأن العبث بالذاكرة التاريخية وحرمان الناس من التمتع بتراث أجدادهم ومواسمهم والتشبث بها هو القصد والهدف الوحيد من طمس تلك المعالم ومحو هوية الشعوب.

 قد يدعي بعض المحللين وبعض الاسلاماويين أن الناس يبالغون  وأن هذه الاماكن بؤر للكفر والشرك وسلوك غير اسلامي، لكن يبقى السؤال من الذي يجب ان يحاسب ضمائر الناس على هكذا أفعال؟ ثم من حلل مقاصد الناس وقيمها واعتبر وزن إيمانهم حتى يحكم على سلوك غيره الذي لا يضره مثقال ذرة؟ إن الذين يقومون بزيارة الأضرحة والزوايا وحضور المواسم ينقسمون إلى ثلاث فئات على الأرجح، في اعتقادي والتي سأبين بعض مقاصدها بعد مقدمة ما لا يستطيع عقل نفيه.

 وذلك أن المسلمين وعامة المتدينين(اليهود والنصارى خصوصا) يؤمنون بقدرة الله المطلقة على كل شيء  وبوحدانيته ويتوسلون إليه لقضاء حاجاتهم التي يؤمنون بأن الله وحده هو الوهاب والقادر على تلبية طلباتهم واستجابة دعواتهم. يضاف إلى هذا أن عمق الايمان في قلوب الناس ورسوخه في أنفسهم وثباته فيها لا يعلم كنهه إلا الله. وأخيرا،إن ما لا ينكره عقل، أيضا،هو تطور الحياة في العالم وتقدم البشرية في جميع الميادين المعرفية بحيث تقدم وعيهم وبدأوا يتفهمون مغزى الخرافات والأساطير والخزعبلات  التي ورثوها ويقرأون عنها ويتدارسونها بفضل نعمة التعلم. فمن الصعوبة بمكان تصور تصديق كل ما نهق به الأولون وأذيع بين الناس بشتى الوسائل  من السلوك والتصرفات الذي لا يروق إلى أذواقهم ولا يعتبرونها من الاسلام في شيء حسب فهمهم. الثعبان الاقرع في القبر والبراغيت التي قال أبو هريرة لا تسبوها أمثلة يصعب على الانسان المعاصر تصديقها، وشتان ما بين عقلية معاصري ابن تيمية والغزالي ومعاصري المخاض الحالي الذي يزعزع كل القيم وينبأ بمصير مشرق للبشرية مبني على العلم والتمدن والعقلانية.

بعد هذه المقدمة، نضع الفئات الثلاثة التي اعتقد ان زوار الاضرحة والزوايا والمواسم ينقسمون إليها.  ففي المقام الأول الذي قد يستحضره التحريميون والتكفيريون لهذه الزيارات نجد ما يسمى ب”العامة” من أمثال “إبا مامسة” و”إبا إجو” و”دا موح”. قد يجوز وصفهم بالبسطاء الذين يقولون: ‘إنا وجدنا آباءنا على هذا وإنا على أثرهم لمقتدون’. لكن لا يمكن وصفهم أبدا بالبلداء والكافرين، كما لا يمكن الاعتقاد بأنهم في قرارات أنفسهم يومنون بأن قدرات رقاد تلك الأضرحة تفوق القدرة الالهية. قد تكون عند هذه الفئة نيات حسنة واحترام فائق لشخصية المدفون والمدفونة في هذه الأضرحة، لكنه لا يرقي إلى درجة الالوهية والعبادة. ومن يعتقد ذلك في هذه الفئة من الناس فإنه تجاوز حدود الايمان عندها ولا يفقه شيئا في السلوك الانساني وطرق العبادة عند مختلف الناس.

لا يعبد الناس الاضرحة وأصحابها ولا الزوايا وأصحابها. الرب هو الله عند الجميع والزيارات لتلك الاماكن والاجتماع فيها هي للترفيه ولتغيير الجو والتعبد وتجديد الايمان والندم على بعض الأفعال والارتباط بالجذور والتاريخ ولللقاء مع الاحباب وللتعارف وتبادل المشورات والمصالح وربما توفق البعض في لقاء فارس الاحلام ورفيقة الدرب أو يصادف مشعوذا أو فقيها ينتظر الضحية التي قد تجود عليه ببعض ما تيسر وفي هذه الاضرحة والزوايا يمارس الناس سلوكا لا يضرون به أحدا ويحيون فيها جانبا من ثقافتهم في نطاق العادات والأعراف التي لا تضر أحدا وفي نطاق المسموح به قانونيا.

إن كون بعض المنتمين لهذه الفئة يتوسلون’ للأولياء والصالحين’ في اعتقادهم، فإن الذي يقود إليه المنطق في هذا المضمار هو يقين هؤلاء بأن الموتى لا تستطيع القيام بأي شئء تعبوا من مطالبة الاحياء به، ففتحوا صدورهم وتنفسوا وطلبوا البركة والتدخل الروحي لقضاء حوائجهم الدنيوية التي لا تخرج دائما عن الممكن البسيط الذي أعياهم مطالبة الاحياء القادرين عليها مثلهم في ذلك مثل القائل:

ألا يا طبيب الجن لله داوني   أما طبيب الإنس قد أعياه ما بي

أينتظر هذا القائل فعلا المداواة من الجن؟ كفى من الاستهتار بطرق تعبير الناس عن معتقداتهم في الاماكن التي يختارونها وبالطقوس التي يختارونها، من نكون لمنعهم ما دامت أفعالهم لا تضر أحدا؟ يجب التنبيه إلى أن حجم المنتمين لهذه الفئة غير معروف لقلة الابحاث العلمية وأمية السواد الاعظم من المغاربة، لكن معظم المغاربة ليسوا جهلاء او ما نسميه ‘مكلخين’ أي بلداء وحذاري من الذين يستهينون بذكائهم ولا يتفطن لعبقريتهم في تنظيم شئون حياتهم.

الفئة الثانية من زوار القبور والأضرحة والزوايا والكهوف والمغارات والأولياء والصالحين وسيدي شمهروش هم الذين قد تقودهم الأقدار إليها إما لمصاحبة الأقرباء أو حضور مناسبة يلتقي فيها ذووا  النسب أو الطريقة وهم يلبون نداء أهل البلد والأسرة ولا هم لهم بالبركة والكل طامع في الصدقة وفي كرمهم. والبعض يقصد تلك الاماكن للراحة والهدوء والأدعية والقراءات والتهليل وما إلى ذلك من الأجواء ‘الروحانية بعيدا عن معترك الحياة اليومية. ما الضرر للغير من زياراتهم وكيف يتجرأ الأستاذ ‘وراضي’ وغيره بحرمان هولاء من قضاء وقتهم فيما يرضون به من الافعال والزيارات؟ أيرضى التحريميون والمستنكرون أن يحرمهم غيرهم من زيارة قبور وأماكن أجدادهم؟ المرضى منهم قد يقبلون التحدي ويبررون حرمانهم بما تيسر من الخزعبلات، لكن العاقل لا يمكن أن يقبل بذلك.

الفئة الثالثة تمثل في اعتقادي الجيل المغربي الجديد الذي يعتز بتراثه ويتفكر فيه بجدية ويرى في زياراته للأضرحة والزوايا والقبور فرصة للتعلم والتأمل ويتأسف على الحالات التي ألت إليها الاضرحة والزوايا جراء الاهمال والجهل بتاريخ أهلها وقيمتها للتراث والحضارة الانسانية وقد يوجد في هذه الفئة علماء وباحثون يسيرون في الأرض للنظر كيف بدأ الخلق والمراحل التي مر بها لاكتشاف أسراره وتدبر مصيره للوقوف أمام عظمة الخالق وفهم مقاصده. وقد يكون القصد فقط المعرفة من أجل المعرفة، ومن له الحق في حرمانه من اعتبار الاضرحة والزوايا والقبور ومواسم ‘الصالحين’ كظواهر اجتماعية تستحق الدراسة وتبليغ غيره بنتائجها. إن من لديه سلاح العلم والرغبة في تنوير الآخرين له الحق وعليه مسئولية نشر ما يتوصل إليه من النتائج، طبعا إن ممارسة هذا الحق مرهون بوجود تلك الاماكن أمنة واقفة. الامر الذي يحول دونه عبث المجرمين بتلك الأماكن مثل ما هو يشاهد في سوريا والعراق وأفغانستان ومالي وليبيا وبعض الاماكن الأخرى التي يغض المسئولون عنها الطرف تاركين القتلة والجرمين يعبثون بتراث الشعوب.

أين الضرر إذن من الزيارات وحضور مواسم ‘الصالحين’ ومن المعتقدات التي ينتحلها الغير ويترجموها بأفعال تعكس تكريمهم واحترامهم لبعض الذكور وبعض الإناث من جلدتهم لتخليد ذكراهم وإضافتهم للذاكرة الجماعية التي تميزهم؟إن من ينكر وجود الصالحين والصالحات في تاريخنا فإنه يقوم بقتلنا جميعا ولا يقدر رجالنا ونساءنا سواء في الماضي أو الحاضر. ومن يكون السيد وراضي والمنبر الذي يشوه فيه تراث أجدادنا ومعتقدات أهلنا التي نعتز بها ونثمنها كرصيد ثمين لهويتنا ؟ ثم، أليس الشأن الديني من اختصاص إمارة المومنين وأجهزة الدولة المغربية؟

 وفعلا ‘ حتى لا نحرم من التمتع بمواسم الصالحين؟’ كما تساءل السيد ‘وراضي’ في مقالته المنشورة في جريدة ‘هسبرس’ استخفافا بعقول الناس  وحتى لا نحرم فذلك عندما  يتراجع الظلاميون عن نثر سموم أفكارهم ويبتعدوا عن العبث بما لا يعنيهم ولا يضرهم وتقف هيسبرس عن نشر مثل أفكار الأستاذ الذي يدعو إلى التنكر للهوية المغربية  وعبقرية المغاربة الدينية.حتى لا نحرم من تراثنا ومن محبة بعضنا البعض، فإن ابعاد المتطفلين على الدين ولجم أفواه دعاة الظلاميين والتحريميين هو السبيل الوحيد لوضع حد للمهزلة التي يثيرها المدعون لفهم الاسلام الصحيح لا غيرهم.

وفي الأخير لا بد من طرح السؤال على الأستاذ و’راضي’ وأمثاله: أيجهلون أن الأضرحة والزوايا التي درس بها من أملاك الغير يحميها القانون والأعراف المغربية ومن أهداف الاسلام الذي يدعونه حماية الممتلكات؟ فكيف يتطاول وغيره على مواسم الصالحين التي يتبادل فيها المواطنون مختلف المصالح ويعالجون فيها مختلف القضايا التي تخصهم ولا تخص الظلاميين الذين يتدخلون فيما لا يعنيهم؟هل سعادتهم فقط في خراب الأضرحة وطمس هويات أصحابها ولو كانوا من ذوي القربى؟ كفى من التفيقه في الدين والدعاء المعرفة بالمقاصد الالهية واتهام الغير بالجهل.

*في الخميس 07 اغسطس 2014

الدكتور عبد الغاني بوشوار

باحث وأستاذ العلوم الاجتماعية- ر-اكادير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد