وجهة نظر // التعليم عن بعد: سوق مُربحة وآلية للخوصصة وتفكيك علاقات الشغل القار

بقلم، شادية الشريف* //
انطلق نقاش حول إقرار الوزارة تطبيق آلية “التعليم عن بعد”، لتعويض الحصص التي سيُحرم منها التلاميذ- ات والطلبة، بسبب إغلاق المدارس والجامعات تطبيقا لحالة الطوارئ الصحية إزاء وباء كورونا.
اقتصرت أغلب النقاشات على استحالة تطبيق هذا النوع من التعليم، وعدم إعداد الشروط المادية والبيداغوجية لإنجاحه، إضافة لافتقار الأسر إلى وسائله (هواتف ذكية، حواسيب، أجهزة تلفاز، انترنت…).
قد تكون تلك المبررات صحيحة جزئيا، لكنها لا تنتقد جوهر “التعليم عن بعد” وغاياته الجوهرية. كما أنها تصب مياه الانتقاد في طاحونة الدولة: القبول المبدئي بآلية “التعليم عن بعد” مع العمل على تجويده.
تُغفل هذه الانتقادات جوهرَ الأمر. إن استحالة تعميم “التعليم عن بعد” على الجميع، بسبب الافتقار إلى الوسائل، لا يعني أنه لن يجري تطبيقه، أيا كانت العواقب على نوعية التعليم، لأن الرهان ليس جودة تعليم بل رهان توازنات مالية، وتطبيق سياسة مقررة سلفا (خوصصة التعليم، مراجعة النظام الأساسي لموظفي الوزارة). يظهر الأمر مدى تقدم هجمات الدولة مقارنة بنضال الشغيلة، واقتصار هذا الأخير على ردود فعل لا تواجه جوهر الهجوم، بقدر ما تقتصر على قشوره.
استغلال كورونا لاجرأة سياسة مقررة سلفا.
تعتمد الدولة (الوزارة) خدعة حربية مألوفة: الهجوم غفلة حين يكون العدو مبلبلا ومشتتا. استغلت الدولة امتداد وباء كورونا وفرض حالة الطوارئ الصحية، لأجرأة سياسة مقررة سلفا: تطبيق مقتضيات القانون الإطار المُصادق عليه في غشت 2019، وتنزيل فعلي لمشروع النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين الذي طرحته الوزارة منذ ديسمبر 2015.
ويعتبر “التعليم عن بعد” إحدى الهجمات التي ستدك جدران التعليم العمومي وعلاقات الشغل النظامية التي يقننها النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية المندرج في إطار مرسوم 1958 بمثابة نظام أساسي للوظيفة العمومية.
التعليم عن بعد: التعليم مقابل الأداء
“تنويع مصادر التمويل”، إحدى توصيات “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” التي أصبحت آلية إلزامية مع المصادقة على القانون- الإطار. تقر هذه الصيغة بأن الدولة لن تمول لوحدها التعليم العمومي، بل على المستفيدين- ات (الزبناء) أن يساهموا في تمويل تعليمهم.
لن يتمكن من تلقي دروس “التعليم عن بعد” إلا القادرين- ات على امتلاك أجهزة استقباله (هواتف ذكية، حواسيب)، إضافة إلى من لهم- هن القدرة على ولوج شبكة الانترنت: نوع من الأداء المسبق لقاء تلقي خدمات التعليم، إنها المساواة بمنطق السوق، وليتحمل مسؤوليته من لم يستطع الالتحاق بسفينة نوح الرقمية التي ستأخذ الناجين- ات إلى جنة مجتمع المعرفة.
التعليم عن بعد: آلية لتخلي الدولة عن ضمان بنية تحتية للتعليم
قلصت الدولة ميزانيات التجهيز الموجهة لقطاع التعليم العمومي، وتسعى الآن لاعتماد آلية ترفع عن كاهلها هذه المهمة بشكل نهائي.
ويشكل “التعليم عن بعد”، أي تلقي التعليم في البيت أو المقهى (أو أي مكان آخر غير المدرسة والجامعة)، إحدى هذه الآليات. فتقارير الدولة تشتكي من “التطور الديمغرافي، الذي عرفته الجامعات المغربية خلال العقود الأخيرة؛ حيث تضاعفت أعداد الطلبة المسجلين في المسالك ذات الاستقطاب المفتوح (بكليات العلوم والآداب والعلوم الإنسانية والحقوق) بست مرات فأكثر، في أقل من خمس عشرة سنة”، وما له من “نتائج على الطاقة الاستيعابية” لمؤسسات التعليم العالي”. [“إصلاح التعليم العالي، آفاق استراتيجية، تقرير 5/ 2019″، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، يونيو 2019].
وبدل أن تخصص الدول ميزانية لبناء المؤسسات الجامعية لمواكبة التطور الديمغرافي تفضل أن “يساهم المجال الرقمي من الناحية البيداغوجية، في التوفيق بين دمقرطة التعليم العالي والنمو الديمغرافي… عبر عرض تكوينات هجينة (حضوريا وبواسطة الانترنت)، ووضع إجراءات التصديق على الدروس أو المضامين البيداغوجية، بواسطة خدمة بيداغوجية توفرها المؤسسة للطالب”. [نفس التقرير]. أي لا تنتظر- ي من الدولة توفير مدرجات جامعية، ادرس- ي في بيتك.
التعليم عن بعد: خوصصة وسوق مربحة
آلاف الصفقات لتزويد المؤسسات بالأجهزة الرقمية وإعداد العدة البيداغوجية وبرامج التكوين عن بعد، إنها سوق تسيل لعاب الشركات، وتقدمها الدولة في طبق من ذهب للاستثمار الخاص، على حساب جودة ومجانية تعليم أبناء وبنات الكادحين- ات.
كما ستنتعش سوق موازية لتقديم دروس دعم رقمية ومساعدات لتحضير الامتحانات الإشهادية والامتحانات المهنية، ومسار التكوين المستمر.
مجتمعين وتعليمين بوتيرتين
سيعاد إنتاج نفس التفاوت الاجتماعي القائم في نظام التعليم: تعليم راق موجه لأبناء وبنات البرجوازية، وحدود دنيا من تعليم رديء لمن استطاع ولوجه من أبناء الكادحين.
نفس الشيء بالنسبة لـ”ألتعليم عن بعد”، فالقدرة على امتلاك الوسائل والولوج الدائم إلى شبكة الانترنت مرتبطة بالانتماء الطبقي والاجتماعي والمهني لأسر التلاميذ.
يجري تبرير اعتماد التعليم الرقمي بضرورة مواكبة اقتصاد المعرفة، الذي سيقوم بتوفير مناصب شغل تستدعي تكوينا قائما على دراية بالتقنيات: مهندسين، خبراء إعلاميات… إلخ. لكن هذا مجرد قمة جبل الجليد التي ستعوم فوق سطح من ملايين فرص الشغل الهشة، المتروكة للمحرومين من ولوج اقتصاد المعرفة، إضافة إلى تجزيء مهول وتسطيح فظيع للتكوينات التي سيتلقاها التلاميذ- ات والطلاب.
سبق لنيكو هيرت مطلق “نداء من أجل مدرسة ديمقراطية” أن انتقد هذا النمط من التعليم قائلا: “قد يبتهج المرء لرؤية كنوز العلم والثقافة وقد غدَت، على هذا النحو، في متناول أكبر عدد من الأفراد. لكنه ابتهاج يتناسى كون تلك المعارف لن تظل مجانية وكون الإفادة منها ستغدو مقتصرة على القادر على دفع ثمنها. انه تجاهلٌ أيضا لكون الأمر هنا، كما في كل عولمة تجارية، سيكون صراعا حتى الموت، يفضي إلى بقاء عدد قليل فقط. إن التنميط التجاري الموحد، وبالتالي إفقار المعرفة، هو ما ينتظرنا في آخر الطريق. وبحكم منطق السوق، ستتحول على هذا النحو تكنولوجيا ذات قدرة تحررية إلى العكس، إلى أداة إفقار فكري وثقافي مأسوي”. [“المحاور الثلاثة لتحويل المدرسة إلى سلعة”].
التعليم عن بعد: وضع التعليم في خدمة الرأسمال
دخل الاقتصاد الرأسمالي العالمي منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين (عصر العولمة) فترة تقلبات دائمة، ما يفرض على اليد العاملة (ما يطلقون عليه “رأسمالا بشرية”) ضرورة التكيف مع متطلبات الرأسمال المتغيرة والمتقلبة بشكل دائم. وبالتالي على المدرسة أن تكف عن منح “المعارف التقليدية” وتستبدلها بمهارات وكفايات تسمح للمتعلم- ة بالتكيف السريع مع المتطلبات المتقلبة لسوق الشغل.
تسعى البرجوازية ودولتها إلى تحميل المتعلمين- ات كلفة تعليمهم- هن، وفي نفس الوقت مسؤولية عدم التحاقهم- هن بسوق الشغل، أي في التحليل الأخير إذكاء منافسة شرسة بين طالبي- ات الشغل، سيستفيد منها أرباب العمل (تخفيضا للأجور، وتقليصا للحقوق الاجتماعية، وفرضا للهشاشة..). وهذا ما لم يخفيه المجلس الأعلى للتعليم: “سيكون التعليم العالي مضطرا لمواجهة هذا التحول الرقمي؛ فالطلبة، خريجو المستقبل، سيلجون سوقا تنافسية رقمية، حيث سيكون عليهم البرهنة على تكوين جيد، مقترن بالقدرة على الابتكار”. [تقرير المجلس الأعلى للتعليم]. م يقوله المجلس الأعلى للتعليم بالحرف هو: نحن لا نخلق وظائف إضافية ، لكننا نزيد المنافسة بين العمال، ما يساهم في خفض تكاليف الأجور.
وقد أُسْنِدَ للتعليم (المدرسة والجامعة) مهمة ملاءمة التكوينات والبرامج والشهادات، مع حاجيات سوق الشغل المتقلب هذا. ويعد التكوين عن بعد آلية بالغة المرونة لتحقيق تلك الغاية، خصوصا وأن الدولة سائرة في إعداد الإطار القانوني لهذا النوع من التعليم المساير لرغبات السوق: “للدفع بالمجال الرقمي على مستوى التعليم العالي، ينبغي، على غرار ما قامت به بلدان أخرى، إقرار هذه السياسة ضمن قانون. فالتعليم عن بعد، ومسطرة التصديق على الدروس عن طريق الانترنت والتعليم الهجين، التكوين المستمر عبر الانترنت، والحكامة الالكترونية، تقتضي جميعها إصدار نص تنظيمي، يكون فيه المجال الرقمي وسيلة لتسريع عملية تحول الجامعات”. [تقرير المجلس الأعلى للتعليم].
التعليم عن بعد: تنزيل فعلي لمشروع “النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين”
تسعى الدولة في إطار ما أسمته “مراجعة شاملة لأنظمة الوظيفة العمومية” إلى إصدار “مشروع النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين”. والغاية هي إضفاء الطابع النظامي على مجموعة من الهجومات التي مررتها سابقا: التوظيف بموجب عقود والتوظيف الجهوي، إضافة إلى هجمات أخرى قادمة: الأجر مقابل العمل، والترقية مقابل المردودية، والتخلص من تحملات مادية (تعويضات، عطل مؤدى عنها… إلخ).
إن آلية “التعليم” عن بعد مِعولٌ رئيسي لتحطيم ما تبقى من أسوار التوظيف النظامي المركزي. فتقديم التعليم عبر منصات رقمية لا يحتاج إلى علاقة شغل نظامية مع الدولة، بل تكفي تعاقدات بين مقدمي-ات الخدمة (شغيلة التعليم) وبين مُتلقي تلك الخدمة (التلاميذ- ات والطلبة)، وفي الحالات القصوى دون الحاجة إلى وساطة الدولة (وزارة) أو مؤسساتها العمومية (أكاديميات جهوية، مديريات إقليمية). وستكتفي الدولة بتنظيم القطاع من خلال توفير الإطار القانوني (التصديق على الامتحانات، منح الشواهد…).
كما أن “التعليم عن بعد” آلية فعالة لربط الأجور بالعمل والترقية بالمردودية، حيث سيجري تقييم “المنتوج التعليمي” بعدد التلاميذ- ات اللذين واللواتي جرى التواصل معهم- هن، وبمضمون الوصلات: “سيجري تعميم بوابة TIC، آنذاك سنستطيع تقييم وضعية الأنشطة المقدمة من طرف كل أستاذ لتلاميذه… اليوم أكثر من 200 ألف أستاذ في هذه البوابة، وسيتم تعميمها على جميع المستويات في الأيام القليلة المقبلة”.
ويدخل هذا ضمن سعي الدولة لمراجعة ما تسميه “بطء آليات مراقبة مئات آلاف الموظفين- ات” و”نقص حكامة الجهاز الإداري”، فالتكنولوجيا تتيح لها ذلك وتتيح لها أيضا اعتصار الشغيلة وفرط استغلالها.
التعليم عن بعد تدمير نظام الشهادات
يُوفر نظام الشهادات الوطنية معايير جماعية تكفل حقوقا جماعية للشغيلة، بينما تسعى البرجوازية ودولتها إلى تجزيئه كي يخدم غايتها: يد عاملة مرنة ومتنافسة على فرص الشغل للتحكم في حقوقها الاجتماعية (أجور، ترقيات…).
تريد البرجوازية ودولتها تعويض هذا النظام بـ”شهادات جزئية” تُمنح على برامج التكوين التي جرى تلقيها، أو ما سماه “تقرير المجلس الأعلى للتعليم يونيو 2019”: “ترصيد المكتسبات”، والاعتراف بها يقتضي حسب المجلس: “الانتقال من نظام للوحدات إلى نظام للوحدات المكتسبة”.
يوفر التعليم عن بعد فرصة سانحة لتطبيق هذا “الإصلاح” التدميري لنظام الشهادات القديم، إذ سيجري التصديق على الامتحانات عبر الانترنت، ومنح شهادات على “سلة التكوينات” التي تلقاها المتعلم- ة عبر الانترنت، وهو نظام قطعت في تطبيقه أشواطا الدولُ الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.
من أجل تعليم مجاني وجيد للجميع
قَبِلَ قسم من شغيلة التعليم وأسر التلاميذ- ات إجراء “التعليم عن بعد” اضطراريا لتأمين تكوين أبنائها وبناتها، مُعتقدين-ات أن هذا الإجراء ظرفي مرتبط بالظروف الاستثنائية لتعليق الدراسة بسبب حالة الطوارئ الصحية التي فرضها وباء كورونا. لكن الدولة ستجعل هذا الإجراء دائما، كعادتها عندما يتعلق الأمر بهجمات على حقوق الكادحين.
على شغيلة التعليم- وكل الشغيلة- ونقاباتها رفض هذا الإجراء، سواء كان استثنائيا أو دائما. فما المانع من تعليق الدراسة، مع استئنافها بعد انقضاء الوباء، وتمديدها في العطلة الصيفية مع تأجيل bالامتحانات. ما يهم الدولة ليس إنقاذ موسم دراسي وضمان تعلم التلاميذ-ات والطلبة، بل فرض إحدى هجماتها (التعليم عن بعد) كأمر واقع يصعب التراجع عنه فيما بعد.

*(كاتبة بجريدة المناضل-ة الموقوفة)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد