قراءة في ديوان ” آدون المغترب” للشاعر ناصر زبن الدين.

بقلم منذر فالح الغزالي
تمهيد
منذ وعي الإنسان ذاته والمحيط الذي يعيش فيه، لاحظ تعاقب الفصول، واختفاء العالم النباتي في فصل الشتاء، ثم عودته في الربيع، ووقف مذهولاً أمام الموت، ما أوحى له بفكرة الانبعاث والولادة بعد الموت، وتجدد الحياة كما تتجدد الفصول. وكانت أولى الأساطير المكتوبة التي تشير إلى الإله القتيل الذي يهبط إلى العالم السفلي، عالم الموت، ثم انبعاثه من جديد هو تموز ابن الإلهة عشتارت وحبيبها، اله الخصب الذي بانبعاثه تتفتح الحياة ويبدأ موسم الخصب من جديد. انتقلت عبادة تموز إلى كل الحضارات بتجليات مختلفة تتناسب وتلك الحضارة، فكان تموز الكنعاني هو آدوني، رب الحب والجمال، ابن عشتار، إلهة الخصب وزوجها، وكانت طقوس عبادته تقام في جبيل، وأدونيس الإغريقي وحبيبته أفروديت، وأوزيس المصري وأوزيريس….
يعدّ اللجوء إلى الأسطورة والرمز الأسطوري، من أهم سمات الانفتاح الحداثي في الشعر العربي المعاصر، استثمار الأسطورة التموزية من أبرز سمات هذه الحداثة. بلغت هذه الخطوة الحداثية ذروتها في أواسط الستينيات من القرن الماضي بظهور حركة شعرية سميت (الشعراء التموزيون)، نسبة إلى تموز بطل الأسطورة البابلية.
أسطورة أدونيس تقوم على ثنائية الموت – الانبعاث، فالموت أمر لا مفرّ منه باعتباره النهاية الحتمية لكل شيء مهما طال به الأمد، وفي المقابل البعث المتجدد الذي سعى الإنسان، منذ جلجامش السومري، للظفر به بشكل أو بآخر، فأدونيس لم يمت، لكنه غاب ليبعث من جديد.
جدلية الموت والانبعاث شكلت نبعاً لا ينضب لدى الشعراء، لما تحمله من معاني الاغتراب بمختلف أشكاله الإنسانية والسياسية والوجودية، وما يحمله انبعاثه من معان مختلفة في كل مناحي الحياة، لتجاوز الهوان على مستوى الوطن، الوطن الأرض والبيت… والوطن الداخلي للشاعر، روح الشاعر وهواجسه وأفكاره وعاطفته…
وديوان “آدوني المغترب” للشاعر اللبناني المغترب ناصر زين الدين، يستلهم أسطورة تموز في حضورها الكنعاني “آدوني” يحمّله رؤاه الشعرية…
ها هو يقول عن نفسه في قصيدة لعينيك:
“إنني آدون
استيقظت
بعد أن شربت شقائق النعمان من دمي
استيقظت وحيداً
أعانق الحياة من جديد”
إذا كان الناس يستقبلون عودة أدونيس الغائب بالطقوس، وتتفتح الحياة بعودته وتزهر زهور شقائق النعمان، فإنّ الشاعر يعود وحيداً، غريباً، كأنما لا ربيع في وطنه… وهكذا يبدأ بتحديد غربته، التي ستكون السطور التالية هي اقتفاء أثر هذه الغربة، وتلمّس أهم عناصرها.
الغربة في الوطن
لبنان هو موطن الشاعر، وبيروت هي مدينته التي عشق وعاش في حناياها، خبر حنانها، ثم عاش مأساتها وحروبها. يصف آدون – الشاعر فظاعة الحرب في وطنه بعيني أدونيس الذي انبعث، لكن بدل الربيع كانت الحرب، نقرأ في قصيدة ضوضاء:
أرى حاملاتٍ
تجوبُ طُرُقاً أُفُقيَّةً
إلى أعلى نقطةٍ، فتقفُ
في غرابةٍ
وأنابيبَ
تملأُ السماءَ
من صوبٍ إلى آخرَ
وأسمعُ ضوضاءَ لا تتركُ لي هدوءا…
هنا وهناك…
بريقٌ ثمَّ بريقٌ…”
ويكون آدون الشاعر شاهداّ على ويلات الحرب وضحاياها، يكمل في نفس القصيدة:
“أخافُ وأركضُ
من هنا… لا، لا، إلى هناك..
أضيعُ في ضوضاءِ الموتِ
رأيتُ أُناساً يركضونَ ويُقتلونَ…
وباباً
حاولتُ فتحَهُ
وكان من خلفِهِ
جثثٌ تُقفلُهُ ممسكةً بهِ”.
ويتساءل في ذهول، كيف تحولت بيروت “الربيع في الخريف العربي” إلى كل هذا الدمار:
“كيف خرجت (ميدوزا) من البحار؟
كيف هدّمت الأسوار
كيف حجّرت بعينيها الصغار؟
ووقع في متاهات الصراع
فتانا الجريح
في مقبرةِ اليتامى
وقعَ على الضريح”
ميدوزا، الأفعى التي تحول من تقع عليه عيناها إلى جماد، في إشارة إلى العدوان الإسرائيلي على بيروت، ودمار بيروت وحصارها.
الغربة الحضارية
ميدوزا هي رمز السكون، وعدوة الحركة، السكون المادي، والسكون الحضاري، التجدد والانبعاث، الذي يمثله أدونيس، فالحرب في بيروت سبب لغربة الشاعر، لكن ليست الحرب وحدها، وليس خراب البيوت وحده، ولا العدو الخارجي وحده هو ما يعانيه الشاعر، نلمس وجهاً آخر لمعاناته في قصيدة أنا عربي:
“أتعرفونَ لغتي..
حروفٌ أضاعتْ نقاطَها…
عربيٌ…
وفي جُعبتي
رصاصٌ وبضعُ أطعمةٍ وترابٌ…
جسدي عارٍ
إلاّ منْ اهتراءِ الزمانِ
ووشمٍ.. ودماءٍ…
وقصَّتي
ردَّدَتْها جدَّتي:
عِرضٌ.. وأرضٌ.. وحروبٌ…
في عتمةِ التاريخِ…
لا أدري
مكفوفٌ وأمشي…
عربيٌ أنا…
الموتُ يلتحفني
وشياطينُهُ
تُعلّمُني رقصتَها
صمتًا وبكاءً…
عربيٌ أنا…
وثوبي تشقَّقَ..
يتطايرُ في مسيرتِي
ويتمزَّقُ”
انه التخلف الحضاري الذي يؤلم الشاعر، ويغضبه، ويجعل بين حال وطنه المؤلمة، وبين حلمه بوطن جميل متحضر، هي غربة أعمق من غربة أدونيس.
غربة المواطن في وطنه:
في قصيدة في جعبتي يتماهى الشاعر مع المواطن العربي الذي يشعر بالغربة حتى وهو في وطنه، الوطن الذي سلبه حكام ظهروا كالنبت الشيطاني، في صراع الحروب، ودهاليز السياسة:
“في جُعبتي…
ليلٌ دونَ قمرٍ..
عَواصفُ
انتحابٌ للشجرِ…
غُرابٌ طارَ في النفيرِ
واستفاقَ
في صباحِ ليلٍ أسودَ
ظنَّ أنَّهُ أميرٌ
وغابَ بينَ الغيومِ”
هؤلاء الحكام الذين ظهروا من غياب عشتار، في ليل الوطن وعلى أنقاض دماره، كالغربان، وضنوا أنهم أمراء حقاً ونهشوا الوطن كما ينهش الغربان جثة بعد صراع قاتل.
من تجليات عشتار أنها سيدة القمر للتشابه بين حياة المرأة الفيزيولوجية وإيقاع جسدها، وبين دورة القمر الشهرية، الذي يبدأ هلالا في اول الشهر، ثم يكتمل بدرا في وسطه، ليتلاشى من جديد في آخر الشهر ويبدأ دورة جديدة في شهر جديد.
والشجرة هي ايضاً أحد تجليات الإلهة الأنثى، فأدونيس ولد من ساق شجرة، تمثل عشتار، دون أي دور للذكر.
الغربة الجسدية، المنفى.
في أكثر من قصيدة يصف الشاعر غربته بعيني أدونيس، فتارة هو البحار الذي فقد السفينة وتارةً هو الهارب من بلادٍ تأكل أبناءها الطيبين:
“سأسرق بعض الحروف
من لغتي
وأخبئها
في جرحي
وجسدي النازف
وأسبح أرضاً
خارج الحدود
هارباً من هوية عربية
لأصبح نازحاً”
وتتضاعف مأساة الشاعر حين يقرأ أخبار وطنه، ويأسى فلا يجد في غربته من يشاركه حزنه، من يشكو له:
“وحيداً أبكي
في لغةٍ أجنبيةٍ غير مفهومة
وقد رأيت ما حصل
أيصدقني أحد؟
وأنا الهارب من الوطن؟”
الغربة الوجدانية
للحب في الديوان حضور دائم، الديوان كله ديوان حب، وهو المسمى باسم إله الحب؟ لكن قصائده الوجدانية، التي يرسلها لحبيبته، لها حضور خاص، وليست قصائد الديوان الوجدانية مكرسة لعشق امرأة، وإن كانت حاضرة، فالشاعر يسمّي حبيبته عشتار باسمها الصريح أو بأحد رموزها. وكما طقوس الحب المقدسة في معابد عشتار، يكون الحب فيها للإله الأم، واهبة الحياة، وليس الحب الا طقساً مقدساً يتضرعون فيه الى عشتار، في مواسم جدبهم، ومواسم خيرهم. وكما عشتار الأسطورة هي الأم الكبرى يهرع إليها المؤمنون، عشتار القصيدة، الحبيبة هي المرأة الكلية، الحبيبة التي تتضرع اليها روحه ليستعيد توازنه، وفي هذه القصائد تحضر الغربة أيضا، وتكون مناجاة الحبيبة هي حلم في اللقاء، أو وقوف على الذكريات:
“تهربين أنت والقمر
وفي ليلتي الحزينة
كنت أجلس على مقعدي القديم
أتأمل سماءك
قمر هو أنت
سابحة في أسرار السماء
في الصفاء
في لهفة اللقاء
في تلألؤ النجوم”
ويرى بأن افتراق عشتار وأدونيس هو سبب لما آلت إليه حال وطنه، وأن الخلاص يكمن في التقائهما من جديد. كما كانت عودة تموز من العالم السفلي، والتقائه بعشتار هو انطلاقة الحياة وبدء الربيع:
“يقوم تموز، بكفيه يحمل الصغار
يصيح (عشتار… عشتار)
تعانقا
كالبدر في ساحة السماء
يعانق المساء
بين أنقاض المدينة”
غربة وجودية
الاغتراب من طبيعة الإنسان، نجده في آداب الإنسان منذ أقدم عصوره حتى الآن، هذا الكون وما فيه، والطبيعة والانسان ذاته، والموت والحياة، كلها عناصر تشكل لدى الإنسان قلقا وجوديا وتتركه معلقا على حبال أسئلةٍ يحاول أن يجد حلها، بدءا من الاساطير الأولى، ولا يزال يحاول أن يستعيد توازنه في الفنون والآداب….
هذا الاغتراب الوجودي هاجس لدى الشاعر ناصر زين الدين، نراه في قصائده مبثوثا متفرقا، لكنه لا يخفى. في قصيدة هجرة القمر يقول:
“ليلٌ
دمعه شحوبٌ….
باكٍ
يراقصه الشجر
أحبّ
حلم الوجود….
صراعٌ
في دنيا البشر
ضبابٌ
عند الغروب
فكانت هجرة القمر”
ويكمل في القصيدة ذاتها:
“أنا فتى الليل
ابن الظلام….
صارعت الزمان حيناً
ثم القدر”
وينهي القصيدة بهذه الخلاصة التي تعبر عن قلقه وغربته الإنسانية في عالم يسوده الصراع:
“هاجر القمر
حين رأى صراع البشر”
وقلق العجز أمام هذا الوجود الذي يثقل روحه الشفافة”
” أمواجٌ
تصرخُ في الزمن..
والمحن
لا تلقَى
سوى آدون
بحارٌ
كالقبطانِ
لكنّه دون سفينةٍ
كأسطورةٍ
عانقتْ حزنَ الوجود
رهبةً دون حدود
رهبةَ النوى
وصرخةَ الأمواجِ في العاصفة..”
انه العجز الإنساني أمام وجود يأبى أن يحكم، وإن ظنّ الإنسان أنه أحكم قبضته عليه بما أنجز من علوم، فإذا به كلما تجاوز لغزاً، ولدت ألغازٌ جديدة، ليظل الإنسان في دائرة عجزه، يحاول الانفكاك من شبكة الأسئلة بأسطورة تبنى على أنقاض أسطورة.
تموز المخلّص
لكن، تموز الذي مزقه الخنزير البري، وأزهرت من دمائه شقائق النعمان، واصطبغ بلونها نهر إبراهيم، لم يكن الموت خاتمته، بل الإيذان بانبعاثه، وتجدده، ليعيد للأرض خصبها وللحياة رونقها، ولينهي طقوس الندب والبكاء، بطقوس الفرح والحب والجنس المقدس، واستعارة أدونيس في الشعر هو لبثّ الأمل، واليقين بأن الفناء ليس قدراً، وأن لا شيء يفنى، لكنها دورة الحياة، كما يأتي خريف وشتاء، سيأتي ربيع وتخصب الأرض من جديد. وتموز الذي يمثل تجربة الاغتراب، يمثل في الوقت ذاته تجرية الانعتاق، في صعوده من عالم الاموات، وبعثه وقيامته، صورة من أشكال الحرية والتجدد. من هذا المعنى لأسطورة تموز، نجد الشاعر زين الدين ينهي الكثير من قصائده بإشارة إلى الانبعاث والخلاص، والغد القادم ، نأخذ إشارات من خواتيم قصائده التي تبعث اليقين بعودة تموز والاخلاص، مثل
“النورس سيعود
يحمل في فمه حبة قمح
رسم عليها البقاء”
سنبلة القمح، هي رمزٌ آخر من رموز عشتار، إلهة الخصب، وجدت تماثيلها وأختامها تحمل سنبلة القمح بصور مختلفة. وتموز الذي هو امتداد للإلهة الأم، يبشر بالخصب القادم، والنماء، كما بشرت حمامة نوح بنهاية الطوفان.
ومن مثل:
“لكنني…
ما زلت أتنفس
وما زال هنالك إله
وبعض من آلهة الشرق
ما زلت أزحف
والشاهدة رفعت على قبري
قبل أن أموت
وما زال هناك
إله ينبض في جسدي”
وكذلك:
“أكاد أرى عينين تسجنان جنة القمر
يفيض من جفنيهما كوثر السحر
قطرةً فقطرةً
وتنبت بيروت
ربيعاً من الأنقاض”
علمنا أن القمر هو صورة عشتار في الأسطورة القديمة، وأن عشتار هي ربة الينبوع تسقي الزرع بجرتها، وتتفجر الينابيع كما يتفجر الحليب من ثدييها، فترتوي الأرض وتنبت، كما يرتوي الرضيع وتكتمل دورة خلقها.
خاتمة
الدروب في ديوان الشاعر ناصر زين الدين متفرعة، متشعبة متداخلة، كأنه قصيدةٌ واحدة، أسطورةٌ جديدةٌ عن الإنسان في غربة وجوده، وغربة وطنه، وغربة حضارته… لكن لا بدّ أن يتوقف الحديث، فالمقال لا يحتمل إطالةً أكثر. في الكلام الجميل، في رغبة الحديث وسحر المتعة، يكون الورق سجناً أقسى من الصمت.
الديوان بيدر نجوم، في سماءٍ من رموزٍ ونتف أسطورة، وكلامٍ وجدانيٍّ، يمضي بين الأسطورة وبين الواقع، يمتزجان حيناً، يفترقان حيناً، لكنّي وأنا اغوص في كلمات الديوان كنت أشعر أني أحيا، بالفعل، في زمن الأسطورة.

تحرير سعيد الهياق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد