في إطار عمل تشاركي جماعي ، توصلت لجنة العمل التي أشرف عليها خالد الزراري ابن الأطلس ، والتي أسندت إليها مهام البحث في مقاصد و خلفيات مشروع القانون التنظيمي على ضوء مقاصد الدستور إلى خلاصات و نتائج معللة بنص المشروع و محتوياته و أدوات خطابه و في ما يلي نص الطرح :
نقط كثيرة يثيرها مشروع القانون التنظيمي لا على مستوى المقاصد المعلنة والمنصوص عليها في ديباجة المشروع وثناياه ، وإنما على مستوى حصر المسؤوليات ومجموع الإجراءات التي هي من جوهر الكشف عن مدى مصداقية المشروع وجديته .
فالمقاصد كما هو معلوم خاصة في مجال التدبير والقانون لاتكشف عن ذاتها إلا بفعل معلوم ومحصور وقابل للإنجاز العملي الملموس والواضح ، و بأداة فاعلة واضحة المعالم تتوقر فيها شروط القدرة على تنفيذ الفعل وترجمته على أرض الواقع الملموس . وفي غيابهما تظل المقاصد مجرد منى وأحلام ، أو مجرد أداة للتصبيروالتعزية ، أو أداة للتدليس والتمويه والخذلان والإستصغار، وهذا هو اللأذهى والأخطر .
نبدأ بفعل الإنجاز ، فأغلب الأفعال المنصوص عليها في مشروع القانون حمّالة أوجه و أفعالٍ عامةٍ تفتقد الدقة الإجرائية القانونية المطلوبة .
فمثال النوع الأول، فعلُ “يمكن”، والذي ورد في أكثر من سياق بنسب ملفتة ، وفعل “يمكن” يحمل في ثناياه و مستلزماته الدلالية معاني متنافرة حَدّ التناقض والتضارب والتعارض ، ففعل “يمكن”، كما أشرنا ، يحتمل في حدود معناه الحرفي دلالة غير الممكن البعيد المنال أو القريب من المستحيل أوالمستحيل ذاته ، وهنا مَكْمَن خطورة هذا الفعل ومثله ، إذ يصبح النص بمقتضياته رهين بتقديرات الفاعل لابموجبات الفعل . فيغيب اليقين المُطمئن الرافع لكل لبس أوتدليس ، وتتقوى درجة احتمال الشئ ونقيضِه وتتسيّد الريبة ويتعاظم الشك :
ففي المادة 6 ص/5 نقرأ ” يمكن أن تُحدث ، طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل ، مسالك تكوينية ووحدات للبحث المتخصص في اللغة والثفافة الأمازيغية بمؤسسات التعليم العالي” ، ففعل “إحداث “، وهو الفعل المادي القابل للإنجاز على أرض الواقع ، أصبح في بناء المحتمل بدل اليقين ، بل قد يكون من باب المستحيل، مادام مُصَدَّرًا بفعل “يمكن” الذى قد لايمكن ، بل بالقطع لايمكن .
ذلك أن الأداة الفاعلة المسند إليها سلطة توجيه فعل “يمكن” نحو ثبوته أوعدمه ، تظل محتملة بدورها ومُضَمَّنة وغيرِ مُصرح بها ، مما يثير توجساتنا وشكوكنا ، لأن التاريخ عَلَّمَنا كم كانت الأمازيغية محل عداء شرس لم يرحم ، وكم كانت قاعدة الرفض هي المنطلق المعلن والمصرح به جهرا عند البعض ، وأيضا هي المنتهى المبتغى والمقصود خفية عند بعض آخر .
فالمواقف ، كما يعلم الجميع ، مُثْبتَة و معلومة سواءُ التي كانت بالتصريح أوبالإشارة أوبمجرد التلميح .
أما الفاعل المكلف بإنجاز الفعل والمسؤول على تنفيذه وترجمته بالملموس ، فمجهول في أغلب المواد ، إذ تم بناء مُجْمَل الأفعال القابلة للإنجاز إلى المجهول مثل الأفعال الواردة في المادة 8 ص / 6 “يُراعَى في إعداد المناهج والبرامج والمقررات الدراسية الخاصة بتدريس اللغة الأمازيغية مختلف التعابير اللسانية….” ، كما ورد أيضا ” تراعى مختلف مكونات الثقافة الأمازيغية … في إعداد البرامج والمقررات الدراسية ” ، إذ يغيب الفاعل و بِالمُطلق ، وتَغْييب الفاعل المسؤول عن التنفيذ يكشف بالوضوح القصد الخفي الذى يتناقض بالمطلق مع القصد المعلن في ديباجة المشروع ، بل ينسفه ويفرغه من محتواه .
وهذا ما أشرنا إليه في بداية المداخلة ، ففعلُ إنجاز المقاصد المعلنة وأداة الإنجاز (الفاعل ) ، كشَّافاَنِ عن حقيقة القصد ومدى جديته.
فاعتماد الفعل الحمّال الأوجه لا من حيث الدلالة فحسب وإنما من حيث ما يتيحه من إمكانات الإنجاز والتنفيذ المتنافرة إلى حد التناقض . وتغْيِيب الفاعل المعلوم بإسناد فعل الإنجاز إلي المجهول ( المخفي المستتر الغير المُدرَك لا في الزمان ولا في المكان ، ولا في الهيئة ) يؤديان بالضرورة إلى المغلق ، بل يفرغ المقاصد المثبتة في ديباجة المشروع ، ويخل بمقتضيات الدستور ، بل يعدمها ويجهز عليها .
من تم ، فمنطق الرفض المُضْمَر هو المحرك الأساس لهذا المشروع ، خاصة وأنَّ الفاعل المُعتمد في التنفيذ وتحمل السؤولية في التطبيق والمحاسبة عند الإقتضاء ، غالبا ما تم إخفاؤه وراء كلمة الدولة من مثل “تسهر الدولة…” ص/7 “تحرص الدولة…” ص/8 “تعمل الدولة…” ص/9 “تشجع الدولة…” ص/ 9 ، وذلك في سياقٍ تدل فيه كلمة “دولة” على كيان عام ومجرد ، فمفهوم الدولة ومعناها غير مستقيم وفاقد الدلالة ، بحَسب السياق الذي وردت فيه ، إذ لم تُحدد الأداة الفاعلة والملموسة بالصفة السياسية أوالإدارية أو القانونية أوغيرها من التحديدات التي تُسمِّي المسؤول وتعلن عنه كمكون من مكونات الدولة و كفاعل مباشر معلوم يُطلبُ عند الإنجاز ويُحاسب عليه.
فنحن نعلم ما يعنيه التخفي وراء كلمة “الدولة” ، وهي ممارسة تقليدية مارستها أطراف سياسية بالبلاد انكشفت وكشف عنها الغطاء فتعرت ، وها نحن نعود من جديد لنفس الموقع التقليدي في استثمار مفهوم الدولة بمعناه التقليدي المتعارف عليه في تاريخنا السياسي الحديث بتلوينات جديدة مثيرة تتعامل بدهاء ومكر خادع ومريب ، يترفع عن تسمية الأسماء بمسمياتها ويَرْكبُ مَرْكَبَ اللف والدوران للإيقاع بالمطلب الأمازيغي ، بعد أن أقر به الدستور ، في متاهات جديدة ليُطرح السؤال من جديد حول الإرادة السياسية بالذات ، والجرأة والشجاعة اللتان طالما سمعناهما في أكثر من سياق وفي أكثر من محطة وفي أكثر من ملف .
ونقيض مَواطِن الخلل المَعيب التي أشرنا إليها ثابتة في نص المشروع ذاته خاصة في الشق المدرج في الباب السادس ، ومثاله المادة 23 ، إذ توفرت كل المعطيات القانونية الإجرائية المطلوبة، من فعل معلوم قابل للإنجاز ففي الصفحة 10 نقرأ “تعمل…على توفيرالوثائق التالية …” .
فهنا لم يكتف المشروع بفعل الإنجاز الأساس وهو توفير الوثائق باللغة الأمازيغية ، بل صدّره (من الصدارة : أي جعله في مصدر الجملة ، كقوة انجازية ) بفعل يعزز قوته الإنجازية ويضعها في مقام اللزوم والوجوب ، كما صرح بالفاعل المسؤول دون تغييب أو إخفاء أو بناء للمجهول بل بتفصيل وتدقيق ، في النص : “تعمل السلطات الحكومية والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية وسائر المرافق العمومية” ، وهناك تدقيق أيضا حتى في المهام والمسؤوليات فحددت الوثائق الواجب توفيرها بكل تفصيل:
ـ المطبوعات الرسمية و الوثائق الإدارية ………..
ونفس الشأن في باقي مواد هذا الباب من قبيل ” تلتزم الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية …” ص/10 ، كما جاء في الصفحة 11 ” تحرص إدارات الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية ..على تأهيل موظفيها …” .
ف “الإلتزام” و”الحرص ” من قمة الأفعال المسؤولة والقابلة للمعاينة والتتبع والمحاسبة عند الإقتضاء ، وهو أمر غاب عن المشروع فيما تقدم من مقتضيات ، التي تشكل أولوية الأولويات ، والتي هي من صلب مطالب الأمازيغ ومن صلب مقتضيات النص الدستوري وفلسفته ، ليستفرد هذا الباب بقيمة إجرائية من المفروض أن تشمل جميع الأبواب والمواد حتى لايقع الحيف والتمييز المخلان .
وهنا يُطرح السؤال الكاشف عن مكر ما يجري ، إذ حينما تعلق الأمر بوسائل الضبط الإداري تقدم نص المشروع ولم يترك ريبة أو شك ، وإن سار في اتجاه تيسير الخدمة الإدارية وجعلها في متناول الأمازيغ ، ذلك أن هذا التدقيق الذي شمل الباب الخاص بالجانب الإداري دون غيره ، لايمكنه سوى أن يكشف أن المنطلق يحكمه بالأساس الهاجس الأمني والإداري ، لذا أَخَذ هذا الباب العناية الكافية دون غيره ، وهو مُنطلق ُيقزم الرؤية الإستراتيجية التي جاء بها الدستور بل يُحَرّفها ويَنْأى بها نحو فكر سياسوي ضيق طالما ظلم الأمازيغ وصنفهم عنوة في الشق المعادي المناوئ ، وهذا تدليس غير مقبول بالمرة ، فالمواطنة ليست حكرا على صنف سياسي أواجتماعي أو ثقافي ، والدستور واضح في هذا الباب إلا من أراد القفز عليه وعلى الوطن واكتفى بترديده وتوظيفه دون تمثّل عمقه المنافي لكل النزعات والنعرات المسيئة والمجانية .
ومن النماذج المخلة أيضا ما ورد في باب مجال التقاضي الباب 8 ، والذي يسيئ وبالملموس إلى مبدأ ترسيم الأمازيغية بل ينسفها نسفا ، إذ يموقعها في موضع اللغة الأجنبية ، ويختزل المنظور العميق لترسيم الأمازيغية في مطلب حقوقي قانوني مدني عادي يحق لكل أجنبي أن يتمتع به في بلد ديمقراطي ، كالحق في استعمال اللغة الأصل خلال إجراءات التحقيق من مثل ، تكفُّل الدولة بحق استعمال اللغة الأمازيغية خلال إجراءات التحقيق كما هو وارد في ص/ 12 ، والتمتع بخدمة الترجمة دون مصاريف كما هو وارد في نفس الصفحة : “تُؤمن الدولة لهذه الغاية خدمة الترجمة … “.
فهنا ، كما يظهر ، تمّ قياس اللغة الأمازيغية بمقياس اللغة الأجنبية بشكل كاريكاتوري مُخْزِ يَنِمّ عن سخرية مفضوحة وعن إذلال لايمكنه سوى أن يكون مقصودا.
دَعْنا نطبق ما ورد في هذا الباب على أية لغة رسمية في العالم ، فهل يستقيم أن يطلب المتقاضي الإذن باستعمال لغته الرسمية خلال إجراءات التحقيق أو غيرها من إجراءات التقاضي ؟
كيف يتقدم ابن البلد بطلب استعمال لغة البلد التي هي اللغة الرسمية للبلاد بنص الدستور الواضح والشفاف ؟؟؟ ، إنه مأزق سُريالي مفجع في قمة الظلم والغبن .
ثم ، وهل من المعقول أن تؤمن الدولة خدمة الترجمة بلغتها الرسمية إلى لغتها الرسمية ذاتها وبعينها .
معادلة غريبة عجيبة في قمة الغباء و البلادة ، مَرَدُّها وبكل بساطة ، إما انعدام تصور موضوعي ومعقول للمقصود بالترسيم ، أو في أقل تقدير محاولة تحاشي عمق التصور مع إدراك معناه ، أو العمل على الإجهاز عليه بقصد و بطرق ملتوية أسقطت مُدَبّريها في وضعية الأبله الفاقد الصواب المرتبك الفضفاض العديم الجدوى والضمير ، من منطلق رؤيته و تصوراته المعبر عن كيانه المحافظ المذل والتحكمي المفرط التي تنأى عن كل نهج ديمقراطي يخدم البلد ومصالحه العليا خدمة لنعرة أونزعة يعلمها أصحابها ومتبنيها أكثر من غيرهم ، وهذا هو المرجح كما أثبتنا .
وحتى لايقال إننا وقفنا عند ويل للمصلين ، فصحيح أن الباب التاسع والأخير حدد الأطراف الفاعلة والمسؤولة ، لكن كان من المفروض أن يعلن عنها في سابق الأبواب والمواد حتى تأخذ صفتها المعلومة وتحدد الجهات المسؤولة عن كل مقتضى في نصه ، وما تأخيرها إلا تأكيد لما أشرنا إليه ، كما أن هناك جملة أمور لايمكن سوى أن نحبذها ومنها منطق التدرج الذي يحتاج بدوره إلى طرح تقني خاص بالجدولة الزمنية ومعقوليتها .
وعموما ما كان يهمنا هنا هو الكشف عن مصداقية المشروع لأن الإعلان عن المقاصد لايكفي لوحده بل لايستقيم أبدا ، كما أوضحنا ، بدون فاعل معلوم وموصوف بمسؤولياته حكومة أو وزارة أو أدارة أو غيرها من مؤسسات الدولة ، وبدون فعل دقيق وواضح وعملي يحدد المهام والإجراءات ، ولايترك مجالا للبس والتأويل ولا يفسح الباب للتقديرات المزاجية والظرفية التي كانت الأمازيعية ضحية لها ، آخرها التأخر اللامعقول والمريب الذي شاب تنزيل الطابع الرسمي للأمازيغية ، إذ ظل هذا الشأن على الهامش ولمدة خمس سنوات إلى أن استنفدت الحكومة أيام انتشائها بشجاعتها وجرأتها كما تدعي ويحلو لها ، فوقعت في حرج قانوني لم تجد معه بُّدّ سوى التنزيل الذي وُلد مَعْلولا كاشفا دواعي التأخير الكامن جُمْلة في غياب الإرادة وتغليب هواجس مزعومة على حساب مشروع الأمازيغ وحقوقهم …التي طال بها الأمد ولازال ما دامت التقديرات المزاجية سيدة الموقف ، والتي جاء المشروع ليكرسها ويشرعن لها بالنص والقانون الموضوع بمقاس خاص ومن منطلق لايخدم النص الدستوري حتى يبلوره بل يلغيه بالتمام ، ويتحرك خارج إطاره المعلوم والمحدد والذي يقر بجوهر الترسيم الذي يشمل العمق الحضاري والتاريخي والثقافي ويقر أيضا بالحقوق الاقتصادية و …
وهذا ما ظل غائبا على المشروع الذي قزم رؤية النص الدستوري وفلسفتة ، فتعامل معها بمنطق الطوارئ القاضي بتخفيف ما نزل وكأن الشأن الأما زيغي كارثة حلت بالبلاد وجب التعبئة لها من أجل التخلص منها بسرعة وفي أقرب الآجال .
أما النقاط الأخرى سواء منها المتعلقة بالبرمجة و مقاييسها التقنية في التعامل مع مجموع المقتضيات و على رأسها قضايا التشريع و الإدارة و المواطنة الترابية بتعليمها و صحتها و قضائها و إعلامها ، فسيتم طرحها في لجان تقنية بمنطق تشاركي عملي.
خالد الزراري
التعليقات مغلقة.