يوم ميلادي الثاني.. بعد 7 سنوات من الزلات

إن كان للناس ذكرى ميلاد واحدة فلي اثنتان، في مثل هذا اليوم ( 4 فبراير) قبل سبع سنوات بالتمام والكمال ، حل لطف الله تعالى.وفاضت رحماته..

كنت يومها بزنزانة أحد المعتقلين معي نتحادث ونتذاكر، قبيل غروب الشمس بقليل، دخل علينا أحد الحراس ليخبرني بأن مدير السجن يريدني عاجلا، ويبحث عني في كل مكان…

ما الذي يريده المدير مني وبهذه العجلة ؟ وفي مساء سبت حيث لا يكون المدير حاضرا في العادة. 

توجهت إلى جناح الإدارة..فوجدت المدير متوجها إلي، وعلى وجهه علامات غريبة لا أعرفها، سألني إن كنت أحمل معي هاتفي…ماذا يقول؟…المدير يعلم أننا لا نحوز الهاتف إلا خلسة، وأن وجوده معك جريمة… يلح علي في إحضار الهاتف والإسراع بذلك، فتزداد دهشتي، ذهبت مكرها لإحضاره من زنزانتي وأنا أتوقع غدرا أو مكيدة أو نقلا لسجن آخر…وأنا في الطريق توقعت كل شيء، وضعت أسوأ السيناريوهات الممكنة…توقعت كل شيء ..استعددت نفسيا لكل شيء…إلا …..

إلا أن يعانقني المدير بقوة لحظة دخولي المكتب…( على سلامتك أسي رفيقي …جاب الله الفرج)…..لم أصدق ما يقول…وكيف يصدق من قضى تسع سنوات بين الحديد والقضبان أنه بين عشية وضحاها صار حرا..بقيت مشدوها للحظات…طلبت منه أن أقرأ القرار بنفسي، مكنني من الورقة التي توصل بها موقعة من وزير العدل..قرأت اسمي مرات ومرات..وأخيرا بدأت أصدق الخبر…

لا أستطيع وصف ما اجتاحني من مشاعر…فرح ودهشة وخوف وتعجب وارتياب ومشاعر لا أستطيع تحديدها، اجتمعت في لحظة واحدة…خرجت من مكتبه لأجد عشرات من زملائي ينتظرون نتيجة لقائي مع المدير، توقعوا كل شيء إلا أني سأتركهم….بمجرد ما أعلنت الخبر اختلطت المشاعر، وامتزجت دموع السرور بمثيلتها من دموع الحزن والأسف……عناق وضم وبكاء بحرقة..

حملت الهاتف بيدين مرتعشتين، ركبت رقم عائلتي، ارتبكت الكلمات في فمي وتبعثرت…ماذا أقول وكيف أقول….باختصار: لقد آذن الله بالفرج….لم أسمع بعدها والسماعة في أذني إلا بكاء وتكبيرا وأصواتا تعلو وزغاريد ترفع….

خطوت أول خطوة خارج الأسوار ورجلاي لا تحملني، فتحت عيناي على هذا العالم الذي كنت لا أراه إلا عبر شاشة التلفزيون، شممت هواء حرا غير ممتزج بأوامر السجان ولا حديد القضبان…..

أيام مرت بعد ذلك وأنا غير مستوعب لما حصل، رغم كل التهاني و التبريكات التي تلقيتها من كل أقطار الأرض ومن كل المستويات فلم أستوعب الأمر إلا بعد وقت طويل…إلا اليوم الذي أصبحت أستطيع فيه تجاوز الشارع على رجلي ودخول البقالة و بعد أن مكثت مدة لا أستطيع ذلك…..

ومن ذلك اليوم كانت الانطلاقة، الانطلاقة نحو العالم، نحو الدنيا، نحو المعرفة و الفكر والممارسة، نحو اكتشاف العالم من جديد، نحو استعادة شيء مما ضاع، وترتيب شيء بعثره الظالم والجائر….

والأجمل من كل ذلك…نحو الناس…..بحبهم واحتضانهم وتفاعلهم …بمناقشاتهم وتساؤلاتهم وتعليقاتهم….بدفئهم وحرصهم وخوفهم وغيرتهم…..

سبع سنوات بعد الانطلاقة…لا أشك أنها مليئة بالأخطاء والعثرات والزلات..مليئة بالخطوات المتسرعة والمتعجلة، مليئة بالأذى لنفسي وغيري، خيبت آمال الكثير في ، ولم أكن على مستوى ما توقع البعض، وخالفت متمنيات الكثيرين….

لكنني لست هنا لأكون مع الناس ملاكا أو قديسا …لأجمل صورتي دون خدش أو ندب، لأقول أني الكامل وغيري دون ذلك، لأكون كما يريد البعض….

أنا هنا إنسان….بكل تجليات الإنسانية من نقص وكمال، أنا هنا أنا ولست غيري ….

أما الحصيلة فأنتم من يقيمها و يحكم عليها…إنه يوم ولادتي وعودتي للحياة….فرج الله عن كل المظلومين….ولا أراكم مكروها في أنفسكم، ولا ذويكم…وشكرا على جميل احتضانكم……

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد