الحسين بويعقوبي//
بقدر ما تتقدم الحركة الأمازيغية في الزمن وتحقق بعض المكتسبات التي كانت بالنسبة للجيل المؤسس ضربا من الخيال بقدر ما تطرح بحدة مسألة كتابة تاريخ هذه الحركة وإرهاصاتها الأولى ومراحل تطورها والشخصيات المؤثرة فيها والاستراتيجيات المعتمدة للتعامل مع مختلف السياقات التاريخية ومع مختلف الفاعلين في الساحة السياسية. ولعل هذا الهم هو الذي حرك الأستاذ الحسين واعزي ليجعل هذا الموضوع محور أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه(2000) ودفعني شخصيا لنشر السيرة العلمية و السياسية للأستاذ محمد شفيق, أحد الوجوه البارزة للمطلب الأمازيغي بالمغرب (2010) كما نجد فصولا مهمة في أطروحات كل من مصطفى القادري (1995)أو الخطير أبو القاسم (2005) تحاول النبش في جذور هذه الحركة وفهم سياق ظهورها. ويعتبر كتاب “النهضة الأمازيغية كما عشت ميلادها وتطورها”(2012) للأستاذ إبراهيم أخياط, أحد رموز هذه الحركة, من أهم المراجع في الموضوع والتي تعكس وجهة نظر أحد مؤسسيها. وفي انتظار أن يكتب الأحياء من المؤسسين سيرهم الذاتية أو على الأقل التحدث للمهتمين حول البدايات الأولى للحركة وكشف ما يختزنونه من وثائق وأوراق لتكون بين أيدي الدارسين و المهتمين تبقى الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لهذا العمل التوثيقي لمد الجسور بين الأجيال والاستفادة من تجارب السابقين.
يعلم الباحثون في العلوم الاجتماعية أن كل معرفة مرتبطة بسياق وظروف إنتاجها وأن النتائج المتوصل إليها في كل ما يخص دراسة الإنسان تبقى نسبية ورهينة بما توفر للباحث من وثائق وقرائن يعزز تعزز نتائجه. وعليه, فظهور معطيات جديدة, لم يتسن للباحث الاطلاع عليها سابقا لسبب أو لآخر, يفرض عليه إعادة النظر في خلاصاته. وبما أن البحث عن “البداية” أو “الأول” في كل شيء يطرح إشكالات عدة باعتبار الأحداث عبارة عن سيرورة دائمة ومتحولة لا يمكن فهمها إلا بوضعها في الزمن التاريخي فان البدايات الأولى للحركة الأمازيغية تحتاج لمزيد من النبش والتقصي.
يفيدنا هذا المدخل النظري أثناء البحث عن الوثائق الجماعية المؤسسة لخطاب الحركة الأمازيغية بالمغرب. أقول الجماعية لعدم الأخذ بعين الاعتبار للمقالات الشخصية الموقعة من طرف أصحابها. في هذا الإطار لابد أن نثير الانتباه إلى أن كل وثيقة مسماة جماعية غالبا لم تكن في الأصل إلا مجهودا فرديا طعم بأفكار الآخرين ووقع من طرف المجموعة وأحيانا بدون توقيع وهذا مجال آخر للبحث سيسمح للمهتم أن يكشف النقاب عن “من يكتب” مشاريع النصوص ومن ينتج الأفكار ومن أين يستمد قوته لإقناع الآخرين بجعل فكرة فردية هما جماعيا.
إلى حدود اليوم, وبغض النظر عن الميثاق الثقافي للجمعية الجديدة للثقافة والفنون الشعبية (تاماينوت) لسنة 1981, هناك إجماع على اعتبار “ميثاق أكادير”لسنة 1991,الموقع من طرف 6 جمعيات, أول نص جماعي يعلن انتقال الحركة الأمازيغية من “العمل الفردي” إلى “العمل الجماعي” ويحاول التأطير النظري للمطالب الأمازيغية. لكن هذا الميثاق في حد ذاته ربما لم يكن, عن وعي أو عن غير وعي, إلا إعادة صياغة وتعديل نسبي لأفكار وثيقة جماعية غير معروفة في أدبيات الحركة الأمازيغية و كتبت سنة 1973 من طرف مجموعة من الطلبة المغاربة بدار المغرب بباريس وسنسميهم في هذا المقال “مجموعة باريس” أو”مجموعة دار المغرب” ونسمي وثيقتهم ب”وثيقة باريس من أجل الأمازيغية” أو”وثيقة دار المغرب من أجل الأمازيغية”.
السياق العام ل”وثيقة دار المغرب من أجل الأمازيغية”.
تحيل سنة 1973, أي 17 سنة بعد الاستقلال, على فترة عصيبة من تاريخ المغرب تعرف في الأدبيات السياسية المغربية ب”سنوات الرصاص” الناتجة عن استمرار الصراع بين مختلف الفاعلين (الجيش و أحزاب اليسار والملكية) حول طبيعة الحكم في المغرب بلغ أشده بالمحاولتين الانقلابيتين لسنتي 1971 و1972, الشيء الذي جعل من حدث المسيرة الخضراء لسنة 1975 فرصة لتعزيز الخطاب حول الوحدة وتحقيق الإجماع حول الملكية. إيديولوجيا تميزت هذه المرحلة بهيمنة الفكر العروبي الذي لا يترك أي مجال للحديث عن هوية المغرب خارج العروبة. لقد كانت الأمازيغية أنداك محاصرة بخطابين “خطاب الوحدة” و”خطاب العروبة” ولم يسمح السياق بعد لتبني شعار “الوحدة في التنوع”.
وإذا كان السياق السياسي في المغرب آنذاك لم يسمح بطرح موضوع الأمازيغية بوضوح وهو ما يظهر جليا في القانون الأساسي والمعجم المستعمل من طرف أولى الجمعيات الأمازيغية المؤسسة أواخر الستينات من القرن الماضي فان هجرة بعض الطلبة الأمازيغ لمتابعة دراستهم بباريس واستقرارهم في “دار المغرب” دفعهم, بعد عناء شديد, لمحاولة طرح موضوع الأمازيغية ضمن النقاشات السياسية المطروحة من طرف الفصائل الطلابية ذات التوجه القومي-العروبي التي لا تترك المجال لأي خطاب آخر غيرخطاب “الثورة” و”العروبة”. وإذا علمنا أن الأمازيغية آنذاك مرتبطة بحركة المحجوبي أحرضان وبعبارته المعهودة في كل حملة انتخابية (أيت ما-است ما) وما يمثله من رجعية وكومبرادورية من منظور الفصائل اليسارية فان الطلبة المغاربة ذي التوجه الأمازيغي ومن أجل إيجاد موطئ قدم في الساحة السياسية مطالبون بمجهود مضاعف أولا لطرح الموضوع للنقاش وثانيا لإنتاج خطاب مغاير عن الأمازيغية ومن سماته أن يحمل نفحة تقدمية. وعليه فبدل أن تحيل الأمازيغية على “الظهير البربري” والتفرقة والرجعية والفيودالية عليها أن تحيل على الفئات الشعبية المقهورة وأن تحمل خطاب الكادحين وتساهم في تأجيج الصراع الطبقي لفائدة الطبقات الشعبية. انه الخطاب الذي نجده أيضا في الميثاق الثقافي للجمعية الجديدة للثقافة والفنون الشعبية (تاماينوت) المذكور سالفا.
في هذا السياق فكرت “مجموعة باريس” سنة 1973(وهم 8 أشخاص) في إنتاج وثيقة تعبر فيها عن أفكارها حول الأمازيغية وضرورة النضال من أجلها كجزء لا يتجزأ من النضال الثوري العام. هذه الوثيقة غير موقعة وكانت توضع سرا في غرف الطلبة لكي تطرح للنقاش العمومي من طرف “الجبهة” وهو التوجه اليساري الراديكالي المهيمن آنذاك قبل انقسامها بسبب الموقف من الصحراء إلى تيارين “23 مارس” و”إلى الأمام” .
التسمية.
نسجل في البداية على أن هذه الوثيقة غير معنونة فلم تسم لا بمقال ولا ببيان ولا بميثاق ولا بأرضية…وغير موقعة. وهذا المعطى في حد ذاته يحيل على الحالة النفسية التي كان فيها محررها (أو محرروها). فالسياق العام كان مشحونا و”الكل يخاف من الكل” ولم تكن الظروف تسمح بطرح الموضوع فما بالك بتحمل مسؤولية طرحه, فالتقية في مثل هذه الحالات ضرورية تجنبا للاعتقال من طرف أجهزة الدولة أو للتعنيف من طرف الفصائل العروبية الرافضة لأي حديث عن الأمازيغية. عدم عنونة الوثيقة يفسر أيضا بكونها لم تكن موجهة لجهة معينة أو للرأي العام بل كان الهدف منها طرح موضوع الأمازيغية للنقاش أولا داخل مختلف الخلايا الطلابية بدار المغرب ثم بعد ذلك في النقاشات العامة. لكن هيمنة الفكر الاقصائي آنذاك لم يسمح بانتشار واسع لهذه الوثيقة وأقبرت في مهدها في انتظار سياق أفضل.
وبما أن الوثائق عادة ما تسمى باسم مكان إنتاجها أو تاريخه أومحررها, إن كان معروفا, أوحسب مضمونها فلنسمها اليوم وبعد 43 سنة من صدورها “وثيقة دار المغرب من أجل الأمازيغية” نظرا لما لهذا المكان من أهمية رمزية.
العلاقة بين “مجموعة باريس” و”الأكاديمية الأمازيغية”
لا يمكن الحديث عن الأمازيغية بباريس بين 1967 و1977 دون الحديث عن جمعية “أكراو ايمازيغن” المعروفة ب “الأكاديمية البربرية” وزعيمها موحند أعراف بيساود. لقد كان دور هذه الجمعية المؤسسة من طرف الأمازيغ المنحدرين من منطقة القبائل الجزائرية حاسما في إذكاء الوعي بالهوية الأمازيغية طيلة العشر سنوات من نشاطها. فنظرا لطموحهم الكبير ورغبتهم في إظهار الوجه المشرق للثقافة الأمازيغية فظلوا تقديم إطارهم الجمعوي العادي بكونه “أكاديمية” نظرا لما لهذه الكلمة من وقع في النفوس.
يشكل تأسيس هذه الجمعية استمرارا لنقاش قديم حول الأمازيغية طرح في عز المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في أوساط الحركة الوطنية الجزائرية مند 1949 فيما يعرف ب”الأزمة البربرية” مرورا بتأسيس جمعية “تيويزي ايتمازيغت” بباريس سنة 1953 والتي لم يكتب لها الاستمرار قبل تأسيس “أكراو ايمازيغن سنة 1967.وإذا كان أعضاء هذه الجمعية يتذكرون فقط اسم المحجوبي أحرضان كممثل عن أمازيغ المغرب بل ويقرون بأنه هو من حثهم على تبني الحروف الأمازيغية “تيفيناغ” فإنهم لا يتذكرون أي اسم آخر من الأمازيغ المغاربة بما في ذلك الطلبة المتواجدين بباريس في نفس الفترة. فكل المعطيات تؤكد أن الوعي الأمازيغي لدى الطلبة المغاربة ناتج عن مساراتهم الشخصية ودون أي تأثير من خطاب الأكاديمية التي كانوا يعلمون بتواجدها لكن دون التقرب منها من جهة بسبب راديكالية خطابها و”عنصريته” حسب منطوق الوثيقة ومن جهة أخرى بسبب حساسية العلاقات المغربية الجزائرية. لكن هذه الحيطة ومن باب الرغبة في الاطلاع لم تمنع مجموعة “دار المغرب” من تكليف أحد أعضائها بالبحث عن منشورات الأكاديمية خاصة مجلة “أكراو ايمازيغن”.
مضمون “وثيقة دار المغرب من أجل الأمازيغية”.
كتبت هذه الوثيقة التي تضم 11 صفحة بالآلة الكاتبة وبلغة فرنسية رصينة وأسلوب رفيع ينم عن المستوى الفكري لمحررها (محرريها), وتضم مقدمة وثلاث فصول, كل منها مقسم إلى عدة عناوين فرعية, ولا تنتهي بأية خاتمة.
مند المقدمة تتضح الهوية الايديولوجية للنص والمكانة العلمية لمحرريها من خلال الدعوة أولا للتشبث بالمنهج العلمي الرصين لدراسة المجتمع المغربي بعيدا عن الأهواء السياسية والتأويلات الايديولوجية ثم الإحالة على الأدبيات الماركسية-اللينينية كمرجعية سياسية في التعاطي مع حقوق الأقليات وكيف يمكن استثمار الفهم السليم لهذه الأدبيات للتعاطي إيجابا مع المسألة الأمازيغية. فالهدف من اللجوء إلى تحاليل ومواقف كل من ماركس وانجلز ولينين وروزا لوكسومبورغ وستالين وتروتسكي, بعد الاستفادة من التجارب الثورية في كل من الفيتنام والحركات التحررية لدى البروطان والأوكسيتان والقومية العربية, هو المساهمة في فهم أعمق للمسألة الأمازيغية وضرورة أخدها بعين الاعتبار في كل استراتيجية ثورية باعتبار الأمازيغية لغة وثقافة الطبقات الكادحة.
عنون الفصل الأول ب”الثقافة الأمازيغية” ويضم محورين : الأول عبارة عن مدخل اجتماعي-تاريخي للتعريف بالأمازيغية تاريخا وحضارة والثاني يعطي تحليلا لعوامل الاحتواء وظروف الحفاظ على الأمازيغية. ومن خلال هذا الفصل قدم محررو الوثيقة تحليلا نقديا للقراءات اللاعلمية لتاريخ الأمازيغ بدءا بربط أصولهم إما ب”الكولوا” كما يدعي الفرنسيين أو بشبه الجزيرة العربية كما يزعم بعض المؤرخين العرب. وفي المقابل تدعوا الوثيقة للاهتمام بالتاريخ الاجتماعي لساكنة القرى والمدن بعيدا عن التاريخ الرسمي الذي لا يؤرخ إلا للسلاطين والملوك وهو ما يجعل المؤرخ يمتهن الإيديولوجية بدل التسلح بالرصانة العلمية. فتاريخ المغرب لا يمكن اختزاله في الصراع بين العرب والأمازيغ وهو ما حاولت الكتابات الفرنسية تعزيزه بل يفسر أساسا بالسعي الدائم للمخزن لفرض هيمنته على الجميع مقابل تشبث البنيات القبلية باستقلاليتها حفاظا على طابعها الذي وإن لم يكن ديمقراطيا حسب معايير اليوم فهو أحسن من النظام المخزني. في ظل هذا الصراع استطاعت القبائل الحفاظ على الأمازيغية ما لم تسقط تحت هيمنة المخزن التي يصاحبها تعريب تدريجي للسان. بمجيء الفرنسيين مع الحماية تمت خلخلة البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لصالح المخزن ففقدت المناطق الأمازيغية استقلاليتها وبذلك فقدت ظروف الحفاظ على لغتها وثقافتها.
أما الفصل الثاني فقد عنون ب “الحلول الخاطئة” وفيه تمت مناقشة وتقديم المواقف السياسية من الأمازيغية لكل من النظام وحزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومجلة “أنفاس” اليسارية وانتهى بتقديم بعض المقترحات للتعامل الايجابي مع هذه القضية. فبالنسبة للنظام فقد أكدت الوثيقة أنه لا وجود لأي موقف رسمي واضح للنظام من القضية الأمازيغية لكن بعض المعطيات تثبت اعترافه بوجودها ويعمل دائما على استثمارها لتحقيق التوازنات السياسية, ومن الناحية الاقتصادية يتم استغلال الثقافة الأمازيغية عن طريق تقديمها في قالب فلكلوري في كل الاستراتجيات السياحية. عموما يمكن القول بأن موقف النظام من الأمازيغية سلبي ويستغل القضية حسب ما يقتضيه كل سياق. أما حزب الاستقلال فهدفه الأساس بعد ذهاب الفرنسيين هو الهيمنة على السوق الداخلية والتي لا يمكن الوصول إليها إلا بالوحدة اللسنية وفرض العربية على الجميع كلغة التواصل وهذا ما يفسر سياسة التعريب التي نهجها هذا الحزب في كل الحكومات التي تعاقب عليها. أما الاتحاد الوطني للقوات الشعبية فحسب الوثيقة لا يوجد أي موقف رسمي لهذا الحزب بخصوص الأمازيغية. لكن الارتباط الإيديولوجي لهذا التنظيم بحزب البعث القومي والخلط بين الاشتراكية والقومية العربية والتفكير من داخل مشروع “الأمة العربية” ذات اللغة الواحدة لا يمكن أن يعطي إلا موقفا سلبيا من الأمازيغية التي يتم ربطها بمخلفات الاستعمار. أما موقف مجلة “أنفاس” فيمكن استشرافه من الكتابات المنشورة فيها. فبالنسبة لهذه المجلة تندرج الثورة المغربية في إطار ثورة عربية عامة بقيادة البروليتاريا وتهدف لإقامة “الجمهورية الشعبية العربية للعمال والفلاحين”. في عددها الأول المنشور يوم 15 يناير1973يمكن أن نستشف موقف المجلة من الأمازيغية. فان كان المقال المعنون ب “تناقضات العدو والآفاق الثورية في المغرب” يعترف بتمازج الثقافتين الأمازيغية و العربية لتشكيل المجتمع المغربي إلا أن هذا التمازج لم يعط مجتمعا متعدد المكونات الثقافية بل أعطانا حسب تحليل كاتب المقال مجتمعا مغربيا وعربيا ويشكل جزءا من الأمة العربية. وبذلك تقصي هذه المجلة كل اعتراف بالأمازيغية في حاضر ومستقبل المغرب.
في فقرة “الحلول” استعرضت الوثيقة أولا سياق وأهداف تأسيس حزب المحجوبي أحرضان المؤثر في الأطلس المتوسط ومحاولة تفسير أسباب الرغبة في الدفع بتأسيس حزب للبرجوازية السوسية الصاعدة والمنافسة للبرجوازية الفاسية المتوفرة على حزب يدافع عن مصالحها. وفي هذا السياق تنبه الوثيقة إلى أن هدفها من طرح الموضوع هو تحصين الأمازيغية من أي استغلال سياسي من طرف النظام وأحزابه وأن الموقع الطبيعي للمطالب الأمازيغية هو إدراجها ضمن النضال من أجل “الثورة الاشتراكية”, بعيدا عن طرح حركة أحرضان المخزنية وعن الطرح العرقي للأكاديمية البربرية.
أما الفصل الثالث من هذه الوثيقة فقد عنون ب “المسألة الأمازيغية في الإستراتيجية الثورية” و ركز في البداية على ضرورة عدم التمييز بين العرب و الأمازيغ واعتبارهما شعبين مختلفين في المغرب. فالأمر لايعدوا أن يكون تمييزا لسنيا بين أمازيغ ناطقين بالأمازيغية وأمازيغ معربين وهو ما نتجت عنه خصوصيات لسنية عند كل طرف. فحديث الوثيقة عن “الثقافة الأمازيغية” هو دعوة للاهتمام بثقافة الفلاحين والكادحين وكجزء من الثقافة الشعبية إلى جانب الدارجة المغربية والنضال من أجلها هو نضال إلى جانب البروليتاريا المقصية سياسيا والمستغلة اقتصاديا والمهيمن عليها ثقافيا. في هذا الاتجاه على المناضلين الثوريين العمل على تعلم واستعمال اللغة الأمازيغية كأداة للتواصل ونشر الوعي بها والدفع بالجامعة لفرض الاهتمام بالدراسات الأمازيغية وعلى الدولة و الحزب الاهتمام بتدريس الأمازيغية في التعليم بكل مستوياته. لتحقيق دلك لابد أن تتوفر الأمازيغية على نظام للكتابة والسير بلهجات الأمازيغية نحو التوحد في لغة واحدة. أما من الناحية الاقتصادية فتقترح الوثيقة تمتيع الجهات بنوع من الحكم الذاتي الاقتصادي والثقافي لتحقيق تنمية من شأنها وقف نزيف الهجرة الذي تعاني منه المناطق الأمازيغية مع إعطاء الأولوية للغة الأكثر استعمالا في كل جهة.
وتختتم الوثيقة بالتأكيد على أن الثورة المغربية جزء لا يتجزأ من الثورة العربية التي يجب أن تضمن تطور لغات الأقليات (الكردية والأمازيغية و نيا نيا والعبرية…) في إطار العلاقة الجدلية بين التعدد اللغوي و الوحدة الإيديولوجية للشعوب.
ردود الفعل.
سبق وأن قلنا بأن “وثيقة دار المغرب من أجل الأمازيغية” لم تكن موجهة لأية جهة ولا للرأي العام بل كانت داخلية تتوخى فتح النقاش بين الطلبة المغاربة حول الأمازيغية في إطار النقاش السياسي الدائر آنذاك حول مستقبل المغرب والثورة والاشتراكية. لم تتمكن مجموعة باريس من طرح الموضوع أمام ممانعة التيار العروبي المهيمن رغم إنتاجها لخطاب “الأمازيغية الثورية” المنسجم وتلك المرحلة والذي يحوم حول الصراع الطبقي والدفاع عن الكادحين والتنظير للثورة العربية. وحسب المعطيات التي استقيناها من أحد الأفراد الذين عاشوا هذه التجربة كان صوت الأستاذ علي صدقي أزايكو,الذي لم يكن يسكن دار المغرب ولم يساهم في تحرير الوثيقة, متميزا. فلم يكن متحمسا للخطاب الذي هيمن على “وثيقة دار المغرب” وكان يؤمن بأن الأمازيغية تحتاج للوبي سياسي واقتصادي قوي ومؤثر يستطيع الدفاع عنها وهذا ربما ما يفسر تقربه بعد عودته إلى المغرب من نخبة الأطلس المتوسط خاصة عائلة أحرضان من خلال مجلة “أمازيغ” أو من محمد شفيق من خلال تأسيسهما لجمعية أمازيغ, (حسب محمد شفيق لا علاقة لها بمجلة أحرضان الممنوعة) و كانت ستستقبل الكاتب المعروف ليوبول سنكور في ندوة بأحد فنادق الرباط.
لقد أقبر نص 1973 في مهده لكن فكرته لم تمت, فربما هي نفسها التي صيغت بشكل آخر وبتحليل ومعجم مغايرين بعد 18 سنة في ما بات يعرف بميثاق أكادير لسنة 1991خاصة وأن بعض المساهمين في تحرير”وثيقة دار المغرب” ساهموا أيضا في صياغة “ميثاق أكادير”.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.