هوية المغاربة مجسدة في التاريخ
الدكتور عبد الغاني بوشوار*
لقد أصبح بديهيا ومعروفا لدى جميع الناس، بأن الاجتماع البشرى ضرورى ، وأن المجتمعات الإنسانية مركبة أساسا من وحدات اجتماعية تحتاج الى التعاون فيما بينها للنظر في أحوالها المعاشية للمحافظة على البقاء وبناء العمران (التمدن) الذي من أجله يجتمع بنو البشر. ومما لا شك فيه أيضا ، أنه لا بد لهذا التجمع من قيادة تستطيع حمل الجميع على ذلك التعاون الضرورى إما بالتوافق أو بالقهر. ولقد أكد هذه البديهيات كل المفكرين من بنى البشر منذ العهود القديمة. غير أن هذه القيادة الضرورية لا تبرز ولا تتجلي إلا في عصبية مجموعة قوية منبثقة من إحدى المجموعات (بالإنفراد او بالإتلاف) التى يلتحم أعضـاؤها وفقا لمعايير معينة تحت ظروف سياسية واقتصادية معينة والتى تستطيع إقناع أو قهر أو استمالة العصبيات الأخرى المنافســه لها بالضرورة في القيادة والسلطة. وقد ثبت عند المفكرين والعقلاء بأن الصراع (ليس بالضرورة أن يكون دمويا) قائم أبدا بين العصبيات على القيادة والسلطة لما لها من امتيازات مادية ومعنوية ونفوذ في المجتمع.
إضافة إلى هذا، فقد ثبت أيضا وأصبح حقيقة بديهية بأن الإنسان ينتمي إلى مملكة الحيوان من الفقريات من نوع الثدييات وقد عرفته ويكيبيديا بأن “الإنسان هو كائن حي يمشي على قدمين وهو من الثدييات الرئيسة ….يمتلك الإنسان خلافا لبقية الحيوانات على الأرض دماغ عالي التطور، قادر على التفكير المجرد واستخدام اللغة والنطق والتفكير الداخلي الذاتي وإعطاء حلول للمشاكل التي يواجهها الإنسان. ليس هذا فحسب بل أن الإنسان يمتلك جسما منتصبا ذا أطراف مفصلية علوية وسفلية يسهل تحريكها وتعمل بالتناسق التام مع الدماغ وهي خاصية تجعل من الإنسان الكائن الحي الوحيد على البسيطة الذي يستطيع توظيف قدراته العقلية والجسمية لصناعة الأدوات الدقيقة وغير الدقيقة التي يحتاجها.”والبديهي أن صنائع /اليدين تحت حكم وسيطرة العقل هي التي تتجلى فيها مميزات الانسان وتشهد بما فضل الانسان به عن الحيوان وهو يشترك معها في حيوانيته التي هي الحياة المجردة من أي مدلولات سلبية وبغيضة. ألم يرد في القرآن:” وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ “؟﴿الأنعام: ٣٨﴾؟ فقليل من التواضع يكفي لوضع الأمور في نصابها، واستيعاب معنى الحياة، ومعنى الانسان في غمارها مع بقية المخلوقات.
من الثابت أيضا لدى العلماء و ذوي الاختصاص أن الانسان قديم قدم التاريخ، كان موطنه ومسقط رأسه في إفريقيا، التسمية التي تنحدر من أفري(إفري)، الاسم الذي أطلق على الأمازيغ، سكان شمال افريقيا الاصليين، وما تزال القارة الافريقية تعرف حتى الآن بهذه التسمية وشاركها في ذلك بقية العالم. والبديهي أن المنصفين من بني البشر ومن العرب يدركون هذه الحقيقة ويدرسون في مدارسهم بأن الأمازيغ، البربر،كما يسميهم غيرهم، هم من الشعوب التي تسكن وتقطن شمال افريقيا منذ القدم. لا داعي لمجادلة النظريات التي تدعي قدومهم من الشرق أو من أوروبا ومهما تكن مبرراتها والأدلة التي اعتمدت، فإنها لا ترقى إلا إلى مستوى التكهنات والنيات المغرضة لدى البعض ولا يمكن أن تنفي حقيقة الحيازة والاستيطان والأسبقية للأمازيغ بالوجود والعيش على الرقعة الارضية التي يتواجدون عليها إلى يومنا هذا. وقد أدحض ابن خلدون قدومهم من الشرق بأدلة لا ينكرها ويشكك فيها إلا الجهلاء والمتحجرون عقليا.
لقد تمت في يوم من الايام في مدينة أبها على جبال عسير في سرات عبيد في الجزيرة العربية دردشة بيني وبين أحد المغاربة الذين ساقتهم أسباب المعيشة مثلي إلى تلك الربوع، كنا نتحدث ب”تاشلحيت”وكان أميا، فقال لي ما معناه: “سمعت أنهم يقولون بأننا،أي الأمازيغ، أتينا إلى شمال افريقيا من اليمن”، قلت: “هكذا يعتقد البعض”، قال:”وأين الأثر اللغوي في اليمن للذين نزحوا؟(كنا على مقربة من اليمن ونعيش مع اليمنيين بكثرة قبل ترحيل السلطات السعودية مئات الآلاف منهم) وأضاف، ألم يقولوا أيضا بأن العلم قد بين ارتباطا وثيقا بين اللغة المصرية القديمة و اللغة الأمازيغية؟” قلت:”هكذا يقول بعض المتخصصين في اللغويات والثقافات.” فقال: “وهل اللغة المصرية القديمة أيضا كان موطنها الأصلي اليمن في الجزيرة العربية مثل الأمازيغية ،كما يزعمون؟”وضحكنا من جهلنا ومن قلة الحقائق التاريخية والتزوير الذي قد يطالها ومن عدم فهم الاحداث التاريخية وصعوبة وضعها في إطارها المناسب من أجل انقشاع الغموض التي يكتنف وقوعها للوقوف على الحقائق التي لا يمكن لجاحد أن ينكرها، واستمر الأخذ والعطاء بيننا واليمن غير بعيد عنا، وكانت تساؤلات صاحبي، الأمي، كالتي عهدتها أثناء المناقشات الاكاديمية في الجامعة ومنها :”وهل لا بد أن يكون الأمازيغ من القبائل اليمنية أو الفلسطينية التي هاجرت واستوطنت شمال افريقيا، واخترعت لغة، بين عشية وضحاها ،مخالفة تماما للغة موطنهم الأصلي الذي هاجروه للاستقرار في شمال افرقيا؟ ولم لا يكون العكس مثلا، وتكون القبائل العربية في الجزيرة العربية، وفي اليمن بالذات، هي التي هاجرت من شمال افريقيا واستقرت في الشرق آخذين في عين الاعتبار أدلة استحالة ذلك بالاتجاه المعاكس كما سردها ابن خلدون؟ وكيف اختلفت الأبجديات ومن هي الأولى في الوجود والاختراع؟ أتوجد إثنية وعرق خالص لم تنصهر معه إثنيات وأعراق أخرى؟ بل ذهبنا إلى رمي تحد لجميع الأجناس البشرية وإلى جميع اللغات أن تأتي بواحدة ومثال يتيم لم يتأثر بغيره وبقي نقيا خالصا بعيدا عن التلقيح بغيره. استقر رأينا في خاتمة المطاف على أنه سيبقى تفسير الاختلاف اللغوي والثقافي في كلتا الحالتين(شرقا وغربا)،طبعا، معلقا ومفتوحا للبحث العلمي المجرد لتنوير المهتمين بهكذا مسائل وقضايا. ليس لأن فهمها سيغير أرضية الواقع لكن للعبرة والتفكر في أسرار الكون وبهرجة التنوع فيه والاستمتاع به.
من البديهيات والثابت تاريخيا في الوثائق الرسمية البشرية أن الشعوب الأمازيغية تعيش في شمال افريقيا منذ فجر التاريخ وأنها ساهمت بقسط وفير من الانجازات تعترف بها الحضارة الانسانية ومنها اختراعهم لأبجدية “الليبو” و”تيفيناغ” للكتابة قبل الأبجدية الفينيقية والعبرية واليونانية واللاتينية والعربية وربما قبل المصرية؟
لم يجد الفينيقيون شمال افريقيا فارغا وخاليا من السكان الأوائل ولم يكن قصدهم غير التجارة ولا ثبت بأنهم نزحوا من موطنهم وتركوه خاليا ليستقروا إلى الأبد في موطن وأرض أجنبية عمرها بشر بثقافة ولغة مختلفة عن ثقافتهم ولغتهم ناهيك عن عاداتهم في جميع أوجه الحياة بما في ذلك تنظيم السلطة السياسية فيما بينهم والقيام بالجهاد والثورة ومحاربة طغيان واستبداد الفينيقيين وأزلامهم من البربر المستفيدين من الاستعمار الأجنبي لأراضهم الذي تجاوز هدف التجارة. ومع كل ذلك فقد شارك السكان الأصليون في بناء حضارة قرطاجة وكان لهم الوزن السياسي والثقافي والعسكري،حيث شاركوا في حروبها مع اليونان وروما وثورات السكان الأصليين حتى انهارت في القرن الثالث قبل الميلاد ودمرت. ولا شك أن سياستها التعسفية واستغلالها الفاضح للأمازيغ كانت من بين أسباب انهيارها وفقدان سندهم للدفاع عن سياستها الجائرة وحروبها المستمرة مع أشهر ملوك البربر ماسينيسا الذي يقدسه السكان الأصليون.
ومع احتلال الرومان لشمال افريقيا فإن السكان الأصليون لم ينقرضوا بل ساهموا وشاركوا في تدبير جميع أوجه الحياة في الإمبراطورية باستثناء سكان المناطق النائية في الجبال والصحاري الشاسعة. فكان منهم الملوك والقواد العسكريين وحكام المقاطعات في أوروبا والشرق الأدنى ووصل بعضهم إلى سدة الحكم في الإمبراطورية ومع كل هذا وتشريفهم بالجنسية الرومانية، إلا أنهم ضلوا فخورين بهويتهم الأماويغية وتآمر بعضهم على السلطة المركزية وفرضوا استقلاليتهم وتعاونوا مع المحتلين ضد الثوار من السكان الأصليين الذين لم يقبلوا أصلا بالسلطة الرومانية ولم يرضخوا لها كما فعل ‘تاكفرينس مرارا وتكرارا.
أبدع الأمازيغ في الثقافة اللاتينية واليونانية فاشتهروا في التدريس والعلوم والمحاماة والخطابة والتأليف واللغة والدين وفي جميع مجالات الحياة الثقافية، وما زال العالم اللاتيني والحضارة الغربية ينوهون بمساهماتهم الفكرية وإبداعاتهم الثقافية والدينية واشتهر الملك يوبا الثاني بالعلم وكتب باليونانية أكثر من تسعة كتب أشهرها “ليبيكا” عن شمال افريقيا وهو الذي تزوج بنت ‘كيليوبترا’ الشهيرة مما يذكر بنوايا مولاي إسماعيل من الزواج ببنت لويس الرابع عشر. وقد بلغ بعضهم قمة السلطة في الامبراطورية الرومانية فتوج ‘سبتيسموس سيفيروس’ امبراطورا وخلد آثارا ما زالت قائمة قي سبيطلة في ليبيا، وغيره من الحكام ورجال الدولة كثير.
أول قصة عالمية باللاتينية كانت للكاتب الأمازيغي ‘أفولاي’ التي اشتهرت في العالم تحت عنوان ‘الحمار الذهبي’ وقد دافع المسكين عن أصوله في المحاكمة المشهورة التي اتهمه المغرضون والحساد بالشعوذة ولم ينكر أصله البربري وهويته، بل افتخر بها أمام الملإ وفي كتبه وزاد عليها فصاحته في اللاتينية واليونانية. كما اشتهر الكاتب المسرحي الأمازيغي ‘تيرنس’ بالمسرحيات الكوميدية في القرن الثاني قبل الميلاد بعد أن كان عبدا لدى سيناتور روماني الذي انبهر بذكائه وعبقريته ومنحه الحرية ولم ينكر هو أيضا هويته بالرغم من غوصه في الثقافة اللاتينية وشهرته في الوسط الفني. ومن بين الأماويغ الذين طبقت شهرتهم الأفاق حتى أواخر القرون الوسطى نجد اللغوي النحوي ‘بريشيان’ الذي ألف كتابه المشهور ‘قواعد النحو’ في اللغة اللاتينية الذي يعتبر الكتاب المعتمد في تدريس اللغة اللاتينية طوال فترة القرون الوسطى.
وفي المجال الديني برز الأمازيغ وأبدعوا وطغت أفكارهم على المعتقدات المسيحية وبلغ بعضهم مناصب عليا في الكنيسة فكان ‘فيكتور الأول’ أول بابا يحول الطقوس الدينية من اليونانية إلى اللاتينية واحتل القديس ‘ميلتياديس’ مركز البابوية كما تربع عليها القديس ‘جيلاسيوس’ وهذب الكاتب الأمازيغي ‘تيرتوليان’ النصوص الدينية باللغة اللاتينية في القرن الثاني الميلادي كما بلغ آخرون شأوا عطيما ومكانة مرموقة في الديانة المسيحية من أمثال القديس ‘سيبريان’ و’دوناتوس’ و’أريوس’ و’أغستينوس’ وغيرهم وكلهم من مواليد شمال افريقيا ولم يعرف عنهم أنهم تنكروا لأصولهم وهويتهم بالرغم من تكوينهم اللاتيني واعتناقهم للديانة المسيحية التي طوروها وأحدثوا فيها تيارات ما زال العالم المسيحي متأثرا بها. هل أفقدهم هذا الانغماس في الثقافة الرومانية واللغة اللاتينية والديانة المسيحية هويتهم الأمازيغية وأصولهم الافريقية الشمالية؟ مسارهم التاريخي وإنتاجهم الفكري وشهادات معاصريهم تثبت العكس. تأقلموا مع ظروف عصرهم وعاشوا في غمار المتغيرات السائدة ولم يخطر ببال أحد منهم أن يكون غير الذي يعتز بمسقط رأسه وهويته وانتظار الفرص التاريخية لإعلان استقلاله بأرضه وانتزاع حريته ليعيش معززا مكرما بين أهل جلدته بالرغم من فشل الحركة الدوناتية الثورية. ولقد ثبت في التاريخ أن غزاة شمال افريقيا لم يطب لهم المقام على أرض الأمازيغ الذين قاوموا احتلال بلدانهم من قبل الدخلاء وهم في المقاومة الدائمة نظرا لأطماع الشعوب الأخرى في خيرات شمال افريقيا الوفيرة. وأزمة صحرائنا تكتنفها أطماع الخوارج وطموحات الغزاة حتى في وقتنا الحاضر.
ذهب الغزاة واستولى غزاة آخرون واستمرت المقاومة من قبل أهل الأرض ولم تتبدل هويتهم وتشبثهم بالأرض وتقاليدهم ولغاتهم وثقافاتهم. ذهب الفينيقيون والرومان، وذهب الوندال والبيزنطيون وامتدت الإمبراطورية العربية إلى شمال افريقيا وتحالفت مع البربر (كسيلة وأبو مهاجر دينار) بعد مقاومة شرسة وطرت بيزنطا وفرض الأمويون بعد القضاء على المقاومة سيطرتهم متذرعين برسالة الدين الجديد كغطاء لتحقيق مآربهم الدنيوية والسطو على خيرات شمال افريقيا. وما هي إلا برهة من الزمن حتى تفطن الأمازيغ إلى نوايا الأمويين والعباسيين بعدهم وتحققوا بأن بلدانهم معرضة لخطر السيطرة وأن القضية ليست قضية الإسلام الذي رحبوا به واعتنقوه، بل إن القضية هي الخضوع للغير والعبودية لا أقل ولا أكثر وهذا ما لا يرضوه لأنفسهم لتذوب هويتهم وتتحول عن طبيعتها المألوفة والتواقة إلى الحرية والعيش الكريم.
كل هذا لا ينفي قيام الصراعات والحروب على السلطة في المغرب (الأدنى والأوسط والأقصى) بين المتنافسين من الزعماء والقبائل يشهد بذلك الدول التي بناها البربر على امتداد التاريخ وامتداد الرقعة الجغرافية من حدود مصر الشرقية إلى المحيط الأطلسي وشبه جزيرة إبيريا إلى حدود افريقيا السوداء وحتى الدولة الفاطمية في مصر والشرق الأدنى لم تقم إلا على أكتافهم ولقد بلغ عدد جنود البربر الذين دخلوا مصر ما يربو على أربع مئة ألف فارس. ومع هذا لم تنقطع أطماع الأجانب من احتلال بلدان الأمازيغ تحت ذرائع شتى منها الدينية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ولم يستسلم المغاربة ولم يرضخوا إلا كرها فطرد الأتراك والإيطاليون والفرنسيون والأسبان الذين ما يزالون يحتفظون ببقعتين من الأراض المغربية التي لم يسكت عنها المغاربة وسيضلون يطالبون بتحريرها ورجوعها إلى الوطن.
ولا يتسع المجال هنا للدخول في التفاصيل التاريخية لإثبات مدى تشبث المغاربة بهويتهم وجذورهم التاريخية والصراعات التي خاضوها للمحافظة على هذه الهوية المتجذرة في أعماق التاريخ بالرغم من الذين ينكرون جذور هذه الهوية التي يعتز بها المغربي الأبي ويدافع عنها باستمرار. وما ذلك إلا من حب أهله للحرية والاستقلال.
وبالفعل، فإن المعرب مستقل منذ زمن بعيد في كل أموره حتى عندما اعتنق أهله الديانة اليهودية وبعدها المسيحية وبعدها الإسلام. لم يحكم الخلفاء أبدا المغرب والأمويون والعباسيون قد حاولوا ولم يتمكنوا خلسة وضل البلد مستقلا بكيانه المميز وفهمه للدين وممارساته له، بل إن إمارة المومنين خاصة به لا لغيره من الدول الإسلامية القائمة الآن. ولمزيد من التوضيح في الهوية المغربية فما على المهتم إلا قراءة ما تفضل به مؤلف مجهول في كتابه ‘مفاخر البربر’ الذي دحض فيه كل النوايا المغرضة من قبل جهلة الناس وأكد فيه كل ما يرفع من قيمتهم بين الأمم والشعوب ولا يختلف عن هذا كل الغيورين على هذا الوطن إلى يومنا هذا.
أورد هذا المغربي المجهول بأن ” البربر قوم وضع الله فيهم السماحة والسخاء والرأفة والرحمة للغرباء…يسد الله بهم الثغور ويشد بهم عضد المسلمين ويعز بهم الدين”.. ولعمري إنها صفات المغاربة اليوم كما كانت من قبل وهي مجسدة في الدستور الذي صوت عليه المغاربة أخيرا في هذه المرحلة التاريخية في حياتهم والذي “يعد أكثر من قانون أسمى للمملكة وإنما نعتبره الأساس المتين للنموذج الديمقراطي التنموي المغربي المتميز؛ بل وتعاقدا تاريخيا جديدا بين العرش والشعب”كما جاء في خطاب رئيس الدولة يوم 17 يونيو 2011.
وأكد الدستور الجديد على أهمية الهوية المغربية وتعدد روافدها وانصهارها في لحمة واحدة اعترافا بمكوناتها التاريخية التي تميز هذه الهوية وينص على أن:
المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء.
فالدستور لم يخرج عن المألوف في تاريخ المغاربة واعترف بالأصول التاريخية في الماضي والحاضر والانفتاح على العالم وهويتنا المميزة وإرادتنا المخلصة على الاجتماع والتضامن وحب وطننا الذي نعتز به وتاريخنا وقيمنا ومساهمات أجدادنا للتراث والحضارة الإنسانية. وهذا هو الذي ينكره بعض الكتاب والمتفيقهين في التراث الإنساني وقد ذهب بعضهم إلى الغوص في ماهية الهوية بدون علم واعتبر مسألة الهوية مسألة مستقبلية في طور التكوين ورحم الله الذي ما زال يبحث هن هويته كما يفعل الكاتب محمد بوبكري في مقالته صراع الهويات واختلط عليه أمر الصراعات السياسية والثقافية ولم يخطر على باله بأن الإنسان الذي يبحث عن هويته إنسان ضائع أو مريض وكل ما نتمنى له هو الشفاء العاجل والتوفيق في استرجاع توازنه. وتضل ضالته المنشودة وعلاجه في الرجوع إلى الماضي والتاريخ. على عكس ما جاء في مقالة السيد بوبكري الذي اعتبر بأن “هوية الفرد هي جدلٌ بين ما هو كائن وما سيكون، ما يجعلها حركيّة دائمة في اتجاه أفق آخر، وضوءٍ آخر (أدونيس). من هذا المنظور، تكون هوية الإنسان أمامه أكثر مما هي وراءه،”
يا لها من دعوة للتكوين في المستقبل وانتقاص من الماضي والحاضر وضياع الثابت والركض وراء السراب تماما مثل الذي يمسك تفاحة في يده وينصحه السيد بوبكري بالبحث عن التفاحة التي تكون في مرحلة تكوين مستمر وقد لا تنضج أبدا حسب ادعائه. فقضية الهوية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتاريخ وبالماضي لجميع الكائنات بما في ذلك جميع العناصر المجودة في الكون وكما صرح به في الأيام القليلة الماضية في جامعة هارفرد البروفسور هوكينج ذلك العالم الفيزيائي الذي طبقت شهرته العالم: ” الماضي هو الذي يقول لنا من نحن وبدونه نفقد هويتنا”.
*باحث وأستاذ العلوم الاجتماعية، اكادير، المغرب الآمن.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.