“…الحلول السياسية تكون بناء على محصلات تدافع الفاعلين بما وراءهم من مراكز القوى…”
حتوس عبد الله*//
هذا ما توصل إليه الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، وهو يسعى إلى تشخيص الأمراض المزمنة التي أصابت حقلنا السياسي طيلة الخمس شهور ألأخيرة، قبل أن يعين من طرف الملك لتشكيل الحكومة والإنكباب على معالجة تلك الأمراض في حدود ما يسمح به (بضم الياء). فما بات يعرف في الأدبيات السياسية المغربية بالبلوكاج لا يحتاج فقط إلى الحكمة السياسية بل لا بد للتخلص منه من خبيرفي التحليل النفسي.
ما جادت به قريحة الدكتور العثماني، وإن أعطانا انطباعا عما سيكون عليه تدبير مفاوضات تشكيل الحكومة، بعد فشل الأستاذ عبد الإله بنكيران في ذلك والتخلي عنه بعد صدور بلاغ من الديوان الملكي يوم 15 مارس الأخير، يدفعنا إلى إبداء بعض الملاحظات.
- إن التخلي عن الأستاذ بنكيران، على ما يبدو، رد من المؤسسة الملكية على إستراتيجية الأمانة العامة لحزب المصباح وأمينه العام في تدبير المفاوضات من أجل تشكيل الحكومة، إستراتيجية مبنية على تأويل لمشروعية التمثيل الديمقراطي والمشروعية الشعبية قائم على عدد المقاعد المحصل عليها. فرئيس الحكومة المتخلى عنه، وهو يدبر المفاوضات، كان يقيس الوزن السياسي للأحزاب المتفاوض معها بناء على قانون الأعداد ( la loi des nombres)، في تجاهل تام لما وراءها من مراكز القوى. إن قانون الأعداد وتوأمه ديكتاتورية الأرقام حينما يتحكمان في العقل الحزبي، يجعلان المنتصر في الإستحقاق الإنتخابي يستخف بتعقيدات الحقل السياسي، يركن إلى التصلب في التفاوض، وعوض الإنفتاح على كل الخيارات الممكنة يملي على محاوريه عددا محدودا منها، ويطلب منهم التقيد بها وإلا انتهى الكلام.
- إن تعيين الدكتور العثماني من طرف الملك لتشكيل الحكومة، يومين بعد التخلي عن قائد سفينة المصباح، قد يجد تفسيره في أن الأمر لا يتعلق بمؤامرة ضد حزب العدالة والتنمية كما ذهب إلى ذلك بعض المحللين السياسيين، بل بحرص المؤسسة الملكية على ثلاث أمور أساسية ذات صلة بالموضوع. الأمرالأول مرتبط بتمكين قيادة الحزب الإسلامي من وسائل امتصاص الصدمة والتقليل من آثار ما حصل على التماسك الداخلي للحزب حفاظا على لحمته التنظيمية، خصوصا وأن الاختيار الملكي احترم التراتبية الموجودة في قيادة المصباح. فالقصر يدرك بأن الحزب السياسي الوحيد القادر على صد الصدمات (pare-chocs) في هذا الزمن المغربي الشديد التعقيد هو حزب العدالة والتنمية، لذلك كلف الملك رئيس الحكومة المعين بتبليغ رسائل بالغة الدلالة لأعضاء وعضوات المصباح يمكن أن نختار لها عنوانا معبرا “لقد فهمتكم !” . الأمر الثاني يتعلق بتذكير قيادة المصباح بأن الإنتقال من مرحلة إدماج الإسلاميين في الحقل السياسي الإنتخابي إلى مرحلة تقاسم السلطة معهم بناء على نتائج الإنتخابات، ليس واردا ولا ممكنا. فاكتساح الإنتخابات التشريعية لا يعني إعادة النظر في الطابع التنفيذي للملكية والذي ساهم أمين عام المصباح في تكريسه، من خلال تصرفه خلال العهدة الحكومية السابقة كموظف كبير في الإدارة العمومية بدرجة رئيس حكومة. الأمر الثالث يرتبط بالرهان على الدكتور العثماني، فهو رهان على سياسي يؤمن بأن الحلول السياسية تكون بناء على محصلات تدافع الفاعلين بما وراءهم من مراكز القوى، وبأن الديمقراطية ليست قانون الأغلبية بل نظام لحماية الأقلية من جبروت الأغلبية. رهان على سياسي اجتمع فيه ما اختلف حوله الآخرين، فدفاعه القوي عن الأمازيغية لم يلغ حرصه الشديد على النهوض بالموروث الحضاري العربي الإسلامي، وانتماؤه الإيديولوجي الإسلامي المحافظ لم يحل دونه وجائزة المسلم الديمقراطي التي تسلمها سابقا من مركز الدراسات حول الإسلام والديمقراطية في واشنطن، وتكتمه الشديد لا يلغي دقة خرجاته الإعلامية، وبراغماتيته في تعايش وتناغم مع ولائه للحزب الذي يعد من منظريه الأساسيين، واختلافاته المعروفة مع الأستاذ بنكيران لا تنقص من قوة ما يجمع بين الرجلين، كما أن دفاعه عن الملكية وأدوارها المحورية لا يلغيان اقتناعه بأهمية الإنتقال نحو الملكية البرلمانية حالما تنضج شروطها.
- لقد كان الأستاذ عبد الإله بنكيران منذ توليه منصب الأمين العام لحزب المصباح سنة 2008، يقيس نجاح كل خطوة يخطوها بمنسوب آثارها الإيحابية على الحزب، فيكفي الرجوع إلى مواقفه من حركة عشرين فبراير ومطلب الملكية البرلمانية وتأويل دستور 2011، للإحاطة بالخطوط العريضة لفلسفته في تدبير الشأن الحزبي والشأن العام، والتي جعلت منه كائنا خرافيا برأسين طيلة الولاية الحكومية السابقة، رأس رئيس حكومة طيلة أيام العمل الرسمية، ورأس معارض شرس “للتحكم”، يتقن رمي الجمرات في المستنقع السياسي المغربي في نهاية كل أسبوع. المغاربة ينتظرون اليوم من الدكتور العثماني تحرير الحقل السياسي من ديكتاتورية الأعداد، التي أنتجت العبث والرداءة، حتى تخرج البلاد من مأزق البلوكاج. ينتظرون منه، بعد تشكيل الحكومة، دفع قطار المغرب نحو محطة الديمقراطية والتأويل الديمقراطي للدستور ومعالجة الأزمات الإقتصادية والإجتماعية المستفحلة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ينتظرون منه أن يكون رجل دولة يفكر في السياسات العمومية وآثارها على المدى المتوسط والبعيد أكثر مما يفكر في الإنتخابات المقبلة ونتائجها المحتملة.
*باحث
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.