هكذا يرى الدكتور عمر لشگر المعتقدات الدينية للأمازيغ قبل الإسلام…
بقلم الدكتور عمر لشگر
” الشعور الديني عند البشر بدأ مع إنسان عصر الحجر المصقول “
1- مدخل:
يكاد علماء النياسة المجتمعية يتفقون على أن الشعور الديني عند البشر بدأ مع إنسان عصر الحجر المصقول le paléolitiqueمنذ ما يقرب من 20000 سنة: وأن البدايات الأولى للمارسة الدينية كانت في إفريقيا، وقد أسسوا هذا الاعتقاد على شواهد القبور، وطرائق الذفن، وما عثر عليه في المدافن والمزارات من بقايا العظام المقدسة، والجماجم والأحجار المنحوتة وكل ما يحتاج إليه الموتى في حياة ما بعد الموت، يضاف إلى هذا عدد من الرسوم والنقوش المكتشفة في المغارات والكهوف التي يسكنها الإنسان القديم. وكل هذا يعني أن الإنسان في العهود الأولى اعتقد، وآمن وقدس، وعبد عددا غير محدود من الآلهة من صنف الحيوانات والأحجار والنجوم وظواهر الكون وأرواح الموتى وقوى الريح والظلام.
وهذا لا يعني خلو الأرض كلها على تعاقب الأزمان من رسل مبعوثين برسالات دينية وعقدية كنوح وإدريس ويونس وصالح وغيرهم، لكن هذه الرسالات في الواقع التاريخي لم تغط إلا من مناطق محدودة في الكرة الأرضية، ولم يعتنقها إلا أقليات محصورة كما أشارت إلى ذلك جملة من النصوص المقدسة.
والأمازيغ كجميع الأجناس البشرية القديمة عرفوا قبل وبعد استقرارهم في إفريقيا الشمالية اعتقادات متعددة من أصول متنوعة، بونيقية، ومصرية ورومانية، ويونانية، وفينقية، ومحلية كما عرفوا واعتنقوا ديانتين سماويتين موحدتين هما اليهودية والمسيحية.
إن الكتابة في هذا الموضوع يدخل في نطاق البحث الشخصي في تاريخ المعتقدات عند الشعوب القديمة، وعوامل بقائها، وانتشارها، وتطورها أو موتها واندثارها، وفلسفة طقوسها ورمزيتها، وموقفي في مجال الاعتقادات الإنسانية احترام الأديان جميعها كحقيقة مقدسة عند أصحابها تساعد على طمأنة القلوب، وحفظ الأمل، وتنظيم العلاقات زيادة على أن الفهم الصحيح لمقاصد الديانات المنزلة يتوقف على فهم الديانات الطبيعية.
الأمازيغ في المقال: تحديد وبيان
أقصد بالأمازيغ سكان “تامزغا” القديمة الذين تواصلوا بالأمازيغية القديمة، أو بإحدى لهجاتها، ويمتد مجالهم المكاني من واحات سيوة (Siwa) بالنيل إلى المحيط الأطلسي غربا وينتهي شمالا بضفاف البحر الأبيض المتوسط، وجنوبا بتخوم النيجر.
هذه المنطقة الجغرافية الشاسعة هي التي استوطنها الأمازيغ منذ ما يزيد عن 10.000 سنة بعد هجرات متكررة، على نسق الشعوب القديمة، فأنشأوا فيها حضارتهم، وتاريخهم، وثقافتهم معتمدين في ذلك على أساليب واقعية في العيش تقوم على الرعي والزراعة والصيد.
وقد تحدث بعض علماء الإناسة عن أهم الخصائص السيكولوجية المميزة للشخصية الأمازيغية القديمة فذكروا منها النخوة، وعزة النفس، وشدة الارتباط بالأرض، وحسن التدبير المعاشي، وسهولة التكيف والقدرة على التحمل… ولعل أكثر الطبائع المميزة للشخصية الأمازيغية القديمة تكونت بتأثير الوسط والثقافة، والمناخ، وطبيعة الحياة القاسية في إفريقيا.
المعتقدات القديمة للأمازيغ:
أ- المعتقدات الوضعية:
الأمازيغ جنس بشري معروف انتروبولوجيا بالتدين العميق، عاش في عالم مملوء بالمقدسات والطقوس، وأنواع التعبد وهو من أوائل الشعوب القديمة القائلة بخلود الروح ووجود حياة ثانية بعد الموت. يؤكد ذلك عدد من الشواعد الأركيولوجية ومعطيات البحث الإناسي. وقد مارس الأمازيغ الديانة الإحيائية (l’animisme) والديانة الطوطمية قبل أن ينتقلوا بتأثيرات يونانية وبونيقية إلى التعددية في المعتقد le polythéisme فعبدوا عددا غير محدود من الآلهة بتراتبية تراعي أهمية المعبود تبعا لما يعتقد فيه من قداسة، وقوة، وقدرة على حماية الأرض والإنسان…
إن الانتقال من معبود لآخر يمكن تفسيره إما بحصول تطور في التصور الميتافيزيقي للأمازيغ، وإما بتجدد الحاجات النفسية للفرد والجماعة، وإما بتأثيرات غير شعورية بوجود علاقة وجدانية بين الإنسان الأمازيغي ومعتقده الجديد. المهم أنه لا يوجد فراغ عقدي في حياة الأمازيغ، فهم باستمرار تحت سلطة سامية مطلقة يستنزلون رحماتها بأشكال من الطقوس والممارسات التعبدية والتضحيات الرمزية التي تعبر عن الإخلاص في المعتقد. ومن أهم الآلهة الوضعية التي عبدها الأمازيغ قبل الإسلام.
الشمس: « Tafukt » أو « Tafuyt »
عند الطوارق. هذا الكوكب العظيم هو من أقدم معبودات الجنس البشري وهو الذي أوحى إليه بفكرة اللانهائي واللامنتهي، وهيأه للتأمل الميتافيزيقي. والإنسان البدائي ربط تفكيره بين أشعة الشمس والتغيرات التي تحصل بها في الجو والأرض، والحياة فخلص إلى تأثيرها في الوجود المنفعل بها. وأول من عبدوا الشمس تحت قواعد دينية منظمة السوماريون، وبعدهم الكلدانيون وقدماء المصريين الذين تفرعت عنهم معظم الديانات القديمة التي أساسها اتخاذ الشمس وسياراتها إما معبودات لذاتها، أو واسطة بينها وبين معبود آخر.
وقد أشر ديشلت Déchelette إلى أن عبادة الشمس كانت معروفة منذ العهدين النحاسي والحديدي وربما قبل ذلك. وتختلف الأسماء التقديسية التي تحملها الشمس بحسب تصورات الشعوب المختلفة، فهي عند قدماء المصريين “ع” Râ وعند الإغريق “أبولو” وعند الرومان “هيبليوس” أما عند الأمازيغ، فقد ذكر سيشرون Ciceron اللاتيني في كتابه عن الجمهورية على لسان الملك النوميدي الأمازيغي ماسينيسا في إحدى ابتهالاته “أيتها الشمس المقدسة… المترجمة في عبارة Ô Summe Sol ومن دلائل عبادة الأمازيغ للشمس مجموعة من الرسوم المكتشفة في عدد من المواقع بإفريقيا الشمالية. وأشار هيرودوت إلى أن الشمس هي أعظم آلهة إفريقيا، وجزم بأن الأمازيغ لم يكونوا يقدمون القرابين والأضحيات إلا لإله الشمس.
القمر: Ayyour
كما عبد الأمازيغ الشمس قبل الإسلام، عبدوا القمر أيضا تحت اسم Ayyour ولا سيما الأمازيغ الرحل، وأمازيغ الغرب، وأمازيغ جزر الكناريا، وقد وجد الشكل المنجلي للقمر منقوشا في عدد من الكهوف والمواقع، وعثر الأركيولوجيون على معابد له في مناطق من الشرق الأوسط بين جبال تركيا وشواطئ النيل، كما وصلت إلينا من كتابات الحضارة السومرية الأولى عدد من الألواح الطينية التي تتحدث عن القمر كإله معبود بأسماء مختلفة منها Nanna (dieu-lune)، « Suen »، « Asimbabbar » وربما تعرض اسم Sien إلى بعض التحريف فأصبح Sin.
هذا الإله كان يرمز إليه في معظم الثقافات بالهلال، ومن المعروف أن عبادته كانت في الجزيرة العربية هي الديانة الرئيسية حتى بعد أن تخلصت معظم الشعوب عن عبادته، وتذكر بعض الأساطير أن الإله « sin » هو زوج الربة “شمس” ومن اجتماعهما ولدت النجوم…
منابع الماء:
من الطبيعي أن يولي الأمازيغ أهمية بالغة للماء المنفجر في الصخور والعيون، والجاري في الأودية والأنهار، وذلك لتوقف الحياة الأرضية عليه، ولطابع المناخ الجاف الذي يميز إفريقيا ويعرضها لضربات الجفاف، لأجل هذا توجه الأمازيغ إلى المنابع والعيون بالتقديس والعبادة، وتخيلوا كائنات تسكنها وتتحكم فيها، ولم تخل المصادر التاريخية والأنتروبولوجية من إشارات إلى طقوس دينية يقوم بها الأمازيغ لاستنزال المطر وتفجير الماء من العيون، وإرضاء سكان المغارات والآبار من الجن والعفاريت. وقد تناول الإناسي وسترمرك Westermark هذا الموضوع بتفصيل في كتابه القيم “البقايا الوثنية في الحضارة المحمدية” الصادر بباريس سنة 1935م. إن الماء المقدس موجود في معظم الديانات القديمة، وقد وجدت في الأهرام أواني للماء المقدس التي يتم بها التطهير الروحي للملوك، كما تفيد بعض الدراسات الأنتروبولوجية ان التطهير بالماء المقدس كان شائعا في الديانات الهندية القديمة.
الكبش « le bêtier »
أصل عبادة الكبش عند الأمازيغ غارق في الظن والاحتمال، فبعض الأنثروبولوجيين يرجعه إلى عبادة مصرية قديمة انتقلت إلى الأمازيغ، وبعضهم يقول باحتمال العكس، بمعنى أن الإله الأقرن لواحة أمون بمصر يعود أصله إلى الأمازيغ. وذهب ف.ج جرمان V.G. German إلى أن تقديس الكبش يرجع إلى الإنسان النيولوتي Néolithique في العهد الحجري الأخير. المهم أن الأمازيغ قدسوا الكبش وعبدوه ضمن آلهتهم منذ القديم. وتبث تاريخيا أن القرطاجيين الأولين وجدوا هذا الإله عند الأمازيغ. ونقل ألفرد بل Alfred Bel عن هنري باسيه Henri Basset أن أمون/ الكبش هو الإله الكبير عند البربر في عصر قرطاجة الأولى. وهو الوحيد الذي لم يكن مجرد رمز أو تمثيل سحري لقوة غير واضحة، وإنما هو إله.
وقد خصص لهذا الإله معبد كبير في واحة سيوة Siwa الذي أصبح واحدا من اهم المعابد الأمازيغية. ولا شك أن تزيين الأضاحي بالحناء ممارسة تعود في أصلها إلى هذه الفترة. ومع الأبحاث الأركيولوجية ثم اكتشاف رسوم كثيرة في الصحراء تظهر الأمازيغي راكبا كبشه لأجل الخلاص. ولا تزال القبائل الأمازيغية إلى الآن تجعل من الكبش حيوان التطهير، والعفو، والتصالح، وتضحي به في المناسبات العظمى. وأشار البكري في كتابه “المسالك والممالك” إلى استمرار عبادة الكبش في بعض مناطق المغرب حتى بعد الفتح الإسلامي، خصوصا في منطقة “إداوزيمر” و”إداومحمود” في شمال تارودانت…
وبالإضافة إلى الآلهة المذكورة، عبد الأمازيغ ولو بشكل هامشي آلهة أخرى كالصخور، والرياح، والنار، والأسلاف والجن، والأفاعي، ومجموعة من الكواكب، دون أن ننسى ربتين قدسهما الأمازيغ وعبدوهما بكثير من الخضوع والجلال وهما:
الربة إفري Ifri وهي ربة الحرب، وربة التجار والمغارات، وبهذه الصفة وردت تمثلاتها في بعض القطع النقدية الأمازيغية القديمة، وتوجد رسومات وخطوطات تعبر عنها في عدد من المغارات خصوصا في مغارة “إفري ندلالن” في منطقة القبائل الجزائرية، وقد أشار بلين القديم pline l’ancien إلى أنه في إفريقيا لا يتخذ قرار فردي أو جماعي في جميع مجالات الحياة دون التوجه بالابتهالات إلى الربة إفري، ولعل اسم القارة Afric أو Africa مستمد من هذه الربة الأمازيغية المعروفة في شمال إفريقيا قبل الاحتلال الروماني.
نيت Neit
هي في التصور الامازيغي القديم أنثى مبدعة خالقة الكائنات، ومانحة الحياة والوجود والبقاء. يرجع تقديسها إلى أصول فينيقية ومنها انتقلت إلى الأمازيغ، ولما تولى سبتيم سفير Septime Sévère الأمازيغي حكم الرومانية ادخل هذه المعبودة إلى روما وأصبحت مقدساتها، وقد عبدت بأسماء مختلفة منها “نايت و”ئيت” و”تانيت” و”تانيت”، ويرمز إليها عند الطوارق بحرف التقاطع (+) المتساوي الأركان. ورغم الإسلام الكلي للأمازيغ فلا تزال آثار هذه المعبودة في وجدانهم؛ لأن المعتقدات المترسخة يصعب محوها بشكل نهائي ولو باعتناق ديانة سماوية، وإنما يتم إخراج قداستها من الشعور لتنتقل إلى اللاشعور. وتظهر علاماتها في الرسوم والنقوش والتزيينات على الأبواب والزرابي، والجدران، والوشم والحناء…
وقد يستعمل رمزها اعتقادا في إفادته وقدرته على رد النحس، المصائب والعين، وأحيانا يرى حرف التقاطع المتساوي الأركان مرسوما بالنار على أفخاذ الإبل لحمايتها من كل ما هو مكروه، ولا زال المغاربة إلى اليوم يؤكدون صحة أمر معين باسم “بنيت” ولا تكاد تخلو أحاديثهم اليومية من هذه الكلمة…
إن الاختلاف الظاهر بين المعتقدات المتعددة للأمازيغ يخفي حقيقة انسجامها، ووحدة تيماتها، خصوصا فيما يتعلق بالمرجعية إلى الماورائي. والديانات في الواقع، وإن شاع الحديث عنها في تاريخ الإنسان بصيغة الجمع فإنها ترجع كلها إلى مفرد “الدين” او “التدين” المميز للجنس البشري.
ب- الديانات السماوية:
تتميز الديانات السماوية عن الديانات الأرضية، الوضعية، بكونها تقوم على الوحي، وعلى أنبياء ورسل، ومعجزات، وأن مصدرها هو الله تعالى الواحد المفارق، الخالق للأكوان وما في الأكوان وليس مصدرها النور الطبيعي للخيال البشري، وقد اعتنق الأمازيغ قبل الإسلام ديانتين سماويتين هما: اليهودية والمسيحية.
اليهودية:
اختلف المؤرخون في تحديد الزمن الذي كان فيه موسى عليه السلام بمصر فذهب بعضهم إلى أن ذلك وقع في عهد أخناتون (1350-1367) قبل الميلاد بناء على الكرنونولجية التقريبية لكردينر Gardiner. وذهب آخرون إلى أن الفرعون الذي واجهه موسى بالديانة السماوية الجديدة هو رمسيس الثاني، حوالي 1275 قبل الميلاد. ويعتبر موسى عليه السلام أول من أدخل رسميا فكرة الإله الواحد إلى مصر بعد ابراهيم الخليل في القرن التاسع عشر قبل الميلاد. لكن متى دخلت اليهودية إلى إفريقيا الشمالية واعتنقها الأمازيغ؟
لا شك أن تحديد البدايات في كل مجالات البحث من أصعب المهمات التاريخية وأكثرها عرضة للظن والاحتمال، وتأسيسا على هذا، تعددت أقوال المهتمين بالتاريخ الديني لإفريقيا يرجع إلى القرن العاشر قبل الميلاد في عهد سليمان الذي بعث إرساليات إلى إفريقيا الشمالية، وجعلها إحدى مستعمراته، وأسس فيها سجنا جحيميا للعصاة والمتمردين في مكان يسمى “القلعة” غرب الجزائر وأرجع آخرون هذا الاتصال إلى أواخر القرن السادس قبل الميلاد بعد التخريب الأول لمعبد القدس من قبل الملك البابلي نوبوختنصر Nabuchobmsr، أو بعد التخريب الثاني في السبعين من القرن الأول قبل الميلاد في عهد الامبراطور الروماني تيتسي Titus وهناك رواية أخرى تقول بأن ذلك كان في عهد داود عليه السلام في القرن العاشر قبل الميلاد حين حط بعض الإسرائيليين بجنوب المغرب في رأس كريزيم بين أكلو وإفني على سفن فينيقية ومن تم انتشروا في الجنوب، واحتكوا بالقبائل الأمازيغية. وقد أدى هذا الاحتكاك إلى تهويد البعض منهم. وذهب بعض الباحثين إلى أن اتصال اليهود بأمازيغ المغرب يرجع إلى العهد الأول لظهور اليهودية، وبالضبط أثناء الخروج من مصر l’Exode فبعض القبائل اليهودية بدل أن تتوجه إلى فلسطين توجهت إلى الجهة الغربية والجنوبية من إفريقيا الشمالية، فنتج عن ذلك اتصالهم بالأمازيغ…
هي أقوال وروايات اختلط فيها ما هو أسطوري، عجائبي بما هو تاريخي ما يجعل التحقيق العلمي في غاية الصعوبة، وفي التأويلات التلموذية كثير من الإشارات المرتبطة باستقرار اليهود بأرض المغرب، إلا أنها لا تقل في معظمها أسطورية وعجائبية عن الروايات الأخرى المحكية.
المهم أن بعض القبائل الأمازيغية تهودت بالفعل منذ العهد الأول للشريعة اليهودية، ومارست طقوسها وشعائرها وفق أحكامها المنزلة. وقيل بأن الأمازيغ لم يتهودوا وإنما اليهود هم الذين تمزغوا لأن اليهودية في جوهرها ديانة إثنية في تصور اليهود، وإذا خرجت عن إثنيتها فقدت أصالتها. وحسب ما جاء عند المكتشف الإنجليزي دفدسون Davidson فإن قبيلة بجنوب المغرب لم يحدد اسمها ولا موقعها، بقيت على يهوديتها إلى حدود القرن التاسع عشر الميلادي. ويرى مونتاني R.Montagne أن الأمازيغ إنما تهودوا في فترة الفتح الإسلامي ليدخلوا ضمن أهل الكتاب ويعاملوا بهذه الصفة المخالفة لصفة المشتركين.
ومجمل القول فإن اليهودية أعطت للأمازيغ نمطا آخرين التدين يختلف تماما عما عرفوه ومارسوه في تاريخهم، فاليهودية لم تستسغ في أصولها تعدد الآلهة، ولم تأخذ موحياتها من أشياء الطبيعة ولا من الحيوان، ولا من ظواهر الكون، بل من الخالق المطلق، المنزه عن كل شريك.
المسيحية:
ظهرت المسيحية في إفريقيا الشمالية خلال القرن الأول الميلادي، وسرعان ما انتشرت واعتنقها السكان، وتجمع معتنقوها في المدن في إطار جاليات أو كنائش، وكل كنيسة يرأسها أسقف.
إن تاريخ المسيحية في إفريقيا الشمالية مرتبط بشخصية ترتليان Tertullien الفيلسوف والؤرخ، الثيولوجي، الأمازيغي الذي اعتنق المسيحية اعتناقا جدليا وفلسفيا. وأصبحت إفريقيا الشمالية الأرض التي نشأ فيها وتطور الفكر المسيحي الفلسفي، وأغلب الظن أن المسيحية دخلت إلى المغرب عن الموانئ، وخاصة من قرطاج فوجدت أنصارا لها من جوامع اليهود ومن الموانئ انتشرت داخل البلاد. وقد نقل شارل أندري جوليان عن ترتوليانوس في أخبار سنة 197 م إنك تلاحظ بنفسك كثرة عددنا. إن الناس يتضجرون من احتلال المدينة، ومن أن المسيحيين في كل مكان، حتى في الحقول والقرى المحصنة والجزر، وأن كل الأسماء مهما كان السن والجنس والمرتبة أصبحت مسيحية.
وأشار ابن خلدون في تاريخه إلى تنصر بعض القبائل الأمازيغية، وقال عن أهل منطقة أزناغن أنهم كانوا قبل الإسلام على دين المجوسية ولم يدينوا بالنصرانية على خلاف غيرهم.
ومن المؤكد تاريخيا أن الأمازيغ تحمسوا جدا للمسيحية، وبلغ بهم الحماس أنهم قدموا ضحايا وشهداء في سبيلها. وكانوا يفضلون الموت بالشهادة على الردة، أو النطق بعبارات الكفر أمام اللجان المكونة لامتحان الناس في اعتقادهم.
وكان من نتائج تعلق الأمازيغ بالمسيحية أنهم أتقنوا اللغة اللاتينية التي كانت تتم بها الطقوس والخطب والمواعظ وكل أشكال التواصل الديني، وقد أعطت إفريقيا الشمالية للمسيحية ما يقرب من 6400 شخصية أمازيغية متميزة من قديسين، ولاهوتيين، ورجال الحكم والسياسة من أمثال الامبراطور الروماني Septim sévère والقديس فبريانوس، والقديس أوغستين Saint Augustin وغيرهم…
وعلى الرغم من مرور ما يزيد على أربعة عشر قرنا من إسلام الأمازيغ، فإن بقايا المعتقدات السابقة على الإسلام لا تزال تقاوم أصول التوحيد في العقيدة الإسلامية على شكل ارتدادات لا شعورية إلى زمن الديانات الطبيعية، وسأخصص مقالا لمظاهر هذا الارتداد وتجلياتها في السلوك اليومي للأمازيغ.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.