اسمه يدل عليه. فهو أيقونة الكوميديا المغربية البِكْر. جاء إليها دون أن يختار، فعضت عليه بالنواجذ. ورغم أنه ظل يبحث عن آفاق أرحب، يبرز فيها موهبته الفياضة في فنون الدراما، إلا أنها تحكمت، لأسباب مختلفة ومتداخلة، وعبثية أحيانا، في مسيرته الفنية. فلا يُعرف إلا بشخصيته النمطية؛ البِكر.
رحلة نورالدين بكر، الذي وافاه الأجل المحتوم يوم الجمعة 02 شتنبر 2022، بمدينته الدار البيضاء، مع الدراما كانت طويلة ودرامية بكل ما في الكلمة من معنى. ولئن كان أعطى الكثير للكوميديا، وأضحك الناس، صغيرهم وكبيرهم، وأخذوا عنه، فهو لم يكن ضاحكا باستمرار. بل عاش أياما مرحة وأخرى سيئة، نتيجة وجوده على الهامش، كأي “تراث فني منسي”.
بدأ نورالدين بكر، من مواليد سنة 1952 بالدار البيضاء، مسيرته الدرامية مبكرا جدا، مع محمد عصفور. بدأ مستهل الستينات من القرن الماضي، حتى قبل أن يعرف بالضبط معنى التمثيل، أو الدراما.
ثم انطلق إلى المسرح، مع الهواة. وحين دخل عالم الاحتراف، في سنة 1968، كان “حرايفيا” بمعنى الكلمة، بحيث انبهر به الراحل الطيب الصديقي، ليطلق عليه، لاحقا، هو وزميله وتوأم روحه في “مسرح الناس”، مصطفى سلمات، لقب “الفرسان”.
ولأنه كان يفيض بالموهبة، وأخذ من الهواة أشياء ممتازة، لاسيما وهو يمثل مع فرقة “بوشعيب البيضاوي”، في القاعات السينمائية، بين الفيلمين (أنطراكت)، ثم مع فرقة “العروبة”، لعبدالعظيم الشناوي، وآخرين، فسرعان ما كسب من أستاذه الصديقي الكثير، الذي أهله لأن يصبح نارا على علم، وكان يفترض أن يمضي به إلى القمة؛ إن وطنيا أو على المستوى العالمي.
أصبح نورالدين بكر عملة رائجة في المسرح المغربي، لسنوات طويلة، تماما مثلما كان عليه الأمر مع عبدالرحيم التونسي؛ أو عبدالروؤف، وعبدالجبار الوزير ومحمد بلقاس، وبقية الفنانين العمالقة في رياض الكوميديا المغربية المتميزة. إذ صار مطلوبا جماهيريا، خاصة أنه اتخذ له مكانته في قلوب المغاربة بمختلف شرائحهم وأعمارهم.
ولأنه يملك فرادته في التشخيص، ولاسيما في الأدوار الكوميدية، التي اشتهر بها عبر حضوره الفني، فقد كان له خاصية عجيبة جدا، وهي أنه يفاجئ المشاهدين بردات فعل مثيرة للضحك. وهكذا، ومع مرور الوقت، صارت تلك المفاجآت هي عز الطلب. ونال بها نورالدين بكر المزيد من المحبة، ولاسيما المزيد من الشهرة، وإن لم ينل بها ما يريده هو؛ أي تطوير أدائه، والظهور بشخصيات مختلفة.
نورالدين بكر، الذي بدأ مسرحيا مع الصديقي، وبرز على الخصوص في مسرحية “مقامات بديع الزمان الهمداني”، كبيرا مع الكبار، وتوقع له أهل الميدان أن ينطلق نجما، سرعان ما سيذوب في شخصيات كلها قريبة إلى بعضها.
وكأنما وقع الراحل فريسة “تشنج تمثيلي”، لم يبرأ منه إلا في محطات قليلة، حيث أدى أدوارا مختلفة، ولكنها ليست متميزة، تسمح بالمزيد.
كان واضحا، في بعض الأحيان، ومن خلال قسمات وجهه المألوف لدى المغاربة، أن نورالدين بكر غير راض عن العمل الذي يؤدي فيه أحد الأدوار، ولكنه كان مجبرا على أن يمثل، سواء على الركح أو أمام الكاميرا، لكي يضمن لقمة العيش له ولأسرته الصغيرة.
وقالها مرارا، وبكل صراحة، ودون أي شعور بالنقص، إذ كان يُسْأَل عن هذا الأمر:”وما الذي كان ممكنا أن أفعله غير ذلك؟ لا شيء. لم يكن لدي الاختيار”.
ولم يكتف بكر بخشبة المسرح، بل برع في التلفزيون، الذي بدأت صلته معه من سلسلة “بنت الخراز”؛ بشخصية الصافي، من تأليف عبدالسلام الشرايبي، ليظهر في مسلسلات “السراب”، و”سرب الحمام”، و”مقطوع من شجرة”.
كما ظهر في أكثر من فيلم سينمائي، انطلاقا من فيلم “الزفت” للطيب الصديقي، “هكذا أريد”، و”سطاجير”، و”غرام وانتقام”، وغير ذلك.
لم يعرف نورالدين بكر، وهو الرجل الخجول والكتوم، والذي كان ينزوي، أحيانا، في ذاته ومع أشيائه الخاصة، الأسباب التي جعلته يبقى في الظل، أو حبيس دور نمطي يريد منه أداء معينا بصوت معين ولكنة معينة. غير أنه واصل العمل، تحت وطأة الحياة ودورتها.
وكان المرض، ويا للغرابة، هو ما يعيده إلى الواجهة، إذ يسأل عنه لمعرفة جديد حالته الصحية، أو لنفي خبر الوفاة، الذي مسه مثلما مس مشاهير آخرين غيره.
يقول عنه طارق بخاري، الممثل، والصديق:”نورالدين بكر فنان بمعنى الكلمة. رجل متحفظ، وبيتوتي. كان يملك موهبة كبيرة جدا، ولكنها لم تجد أفقا لها. لم يكتف بالتمثيل، بل ربع في الماكياج والسينوغرافيا.
كان مهتما بالماكياج، بحيث تجده دائما مع المختصين في هذا المجال، بل ويهيء ماكياجه بنفسه أحيانا. وفي مسرح الحي على الخصوص برز في السينوغرافيا بالقدر الذي برز فيه ممثلا، رحمه الله. وكأي من عشاق الفن، كان نورالدين بكر مولوعا بالقراءة، عاشقا، على الخصوص، لكتابات محمد زفزاف”.
ويقول عنه محمد الشوبي، الفنان والصديق:”إنا لله وإنا إليه راجعون، أحد الكبار يرحل عنا. واحد من العلامات الفارقة في ميدان المسرح والتلفزيون والسينما.
كوميدي فذ وتراجيدي عميق. إنسان مرهف الحس والملكات الفنية. صديق وفي وعملاق بمشاعره الإنسانية الضاربة في جبال المحبة.
ينعيك إلي من أعرفهم ومن لا أعرفهم، وتنبجس من عيني دموع الفراق. رحمك الله يا أخي، وجعل قبرك روضة من رياض الجنة. وأحاط أهلك وأصدقاءك وكل من أحبك بفائض من الصبر والسلوان.
وداعاً نورالدين بكر، وستبقى ابتساماتك وروحك تسكن أرواحنا”.
تأثر نورالدين بكر، بقلبه المرهف السموح، والفوار بالمحبة، بوفاة الفنانين الذين جايلوه، وآخرين عايشهم وسبقوه إلى مثواهم الأخير، فبكى كثيرا. أما وقد بلغه نعي صديقه سعد الله عزيز، قبل شهور، فقد أصيب بغصة في القلب والحلق معا. وقال مرة، في حديث صحفي:”مات الكثير ممن اشتغلت معهم، وصاحبتهم، حتى من الجيل الجديد. ولكن الحياة تتواصل، وستبقى متواصلة”.
وبالفعل، فللحياة منطقها الخاص. فبكر الذي بدأ بالسينما الصامتة، وبهدوء، ثم انتقل إلى مدرسة الصديقي، ليتعلم، وانفعل بالمسرح الحي، حيث علت شهرته بمسرحيات “حسي مسي” و”حب وتبن” و”شرح ملح”، وغيرها، ونال حظه في التلفزيون والسينما، حيث بدا ناضجا، أعاده المرض، في آخر أيامه، إلى الصمت، بحيث لم يعد يملك القدرة على الكلام إلا بشق الأنفس. وكأنه قال كل شيء، وأحلى شيء، وصار بحاجة إلى الراحة.
قال بكر مرة :”ليس هناك دور كبير ودور صغير. هناك فنان وحسب”.
وآمن بأنه فنان كبير، مهما حاول البعض أن يقلل من حجمه. وكان الراحل يلخص بذلك مسيرته الفنية العريضة، والمليئة بالأشياء الجميلة، ولاسيما ببعث السرور في نفوس المغاربة. هؤلاء الذين عرفوا له قدره، بحيث يقدرون أن هناك كوميديا مغربية، وهناك نورالدين بكر.
رحم الله الفنان نور الدين بكر. إنا لله، وإنا إليه راجعون.
يونس خراشي
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.