من خاطب الملكُ يوم 20 غشت 2016؟
عبد الله الحلوي//
سأحاول في هذا المقال أن أساعد القارئ الكريم على الإجابة عن سؤال واحد وهو: من الذي كان الملك يخاطبه في خطاب 20 غشت 2016؟ لن أجيب عن هذا السؤال بنفسي، بل سأكتفي باستعمال تقنيات تحليل الخطاب (مع تجنب كل نقاش تقني) لأقترح على القارئ بعض المعطيات التي يحتاج إليها في الإجابة عن هذا السؤال.
لماذا نحتاج إلى الإجابة عن السؤال “من الذي كان الملك يخاطبه في خطاب 20 غشت 2016؟”
قد يُقال: الملك يخاطب “الشعب”، والدليل على ذلك أن عبارة “شعبي العزيز” تكررت في هذا الخطاب خمس مرات. هذا صحيح. لكن بالإضافة إلى المخاطَب المباشر، الذي هو “الشعب المغربي” بكل تأكيد، فلا بد أن هناك مخاطبا آخر غير مباشر وجّه له الملك بعض الرسائل التي ضمّنها في خطابه. من الأدلة على ذلك ما يلي:
1ـ أن الخطاب يتضمن تفاصيل لا يبدو أن عموم الشعب المغربي على علم بها، مثل “خليج كوكودي بأبيدجان” الذي يذكره الخطاب بدون أن يشرح معناه مفترضا أن المخاطَب يعلم بماذا يتعلق أمر هذا الخليج.
2ـ أن الخطاب يخصص حوالي نصفه (حوالي 55 سطرا من 110 أسطر) لموضوع “علاقتنا بإفريقيا”، رغم أن عموم المغاربة قد لا يعتبرون هذا الموضوع من صميم ما يفكرون فيه في حياتهم اليومية.
كيف نعرف من الذي يُخاطَب بكلام ما؟
إذا أردنا أن نعرف من الذي يوجه إليه الكلام في خطاب ما، فعلينا أن نحدد في هذا الخطاب كل ما يدل على “دايْكسيس التخاطب” Discourse Deixis. المقصود بـ”الدايكسيس” Deixis كل العبارات اللغوية التي يرتهن معناها بما تحيل عليه في السياق المباشر للكلام، كأسماء الإشارة (هذا، هؤلاء …)، أو ضمائر المخاطب (أنت، أنتنّ …)، أو ظروف المكان (هنا، هناك …)، أو ظروف الزمان (اليوم، أمس …)، إلخ. ونقصد بـ”دايكسيس التخاطب” كل التعابير اللغوية التي تدلنا على من يُوَجَّه الكلامُ له كضمير المخاطَبين “أنتم”، أو فعل الأمر (فهو يوجه لمخاطب معلوم)، أو أدوات النداء (كقولك: “ماذا تفعل يازيد؟”)، إلخ. والعُمدة في معرفة المخاطَبين في خطاب سياسي (كخطاب الملك في 20 غشت) أن نجمع من هذا النص كل تعبير من فئة “دايكسيس التخاطب” فنؤوّل ما يحيل عليه بما نستطيع من التدقيق والتحقيق بما ينسجم مع قرينة “الدايكسيس”؛ أي سياقه.
ما هي أدوات “دايكسيس” التخاطب التي استعملها خطاب الملك؟
أقترح أن خطاب الملك بمناسبة “ثورة الملك والشعب” الأخير استعمل نوعا من “دايكسيس” التخاطب قد نسميه بـ”أفعال التوجيه” deontological verbs. قبل أن أحلل هذه الأفعال وأوضح كيف تحيل على مخاطَبِين معلومين، ليسمح لي القارئ بتقديم مثال (بيداغوجي) يوضح المقصود بـ”أفعال التوجيه”. لنعتبر المثال التالي:
“تعاني مدينة مراكش يا إخواني من أزمة سكن حادة. فينبغي أن يهتم القيمون على الشأن العام بأن يبحثوا عن حلول لهذه الأزمة في أقرب وقت ممكن”.
يحتوي هذا المثال على دايكسيس تخاطبي واضح يستعمل أداة النداء (“يا إخواني”). لكن بالإضافة إلى هذا “الدايكسيس التخاطبي” المباشر والصريح، يحتوي المثل على دايكسيس محتمل يُعبِّر عنه المتكلم بالفعل التوجيهي “ينبغي”. فبقول المتكلم “ينبغى” قد يوحي بأن كلامه موجه أيضا لـ”القيّمين على الشأن العام”، يدفعهم بكلامه دفعاً إلى القيام بما دعاهم إليه، وهو “إيجاد حلول لأزمة السكن بمراكش”.
جملة ما أريد أن أبينه للقارئ أن خطاب الملك تضمن خمس فقرات استعملت الأفعال التوجيهية لتوجيه الكلام لجهات قد يُدرك المستمع من هي من خلال سياق الكلام. وهذا بيان ذلك وتفصيله:
الفقرة الأولى: “وإننا نتطلع لتجديد الالتزام، والتضامن الصادق، الذي يجمع على الدوام الشعبين الجزائري والمغربي، لمواصلة العمل سويا، بصدق وحسن نية، من أجل خدمة القضايا المغاربية والعربية، ورفع التحديات التي تواجه القارة الإفريقية”.
فعل التوجيه في هذا الكلام معبر عنه بالجملة المثبتة المؤكدة “إننا نتطلع لتجديد الالتزام”؛ حيث يستعمل الملك “نا” الجامعة “inclusive us” تأدّبا (بوضع المسؤولية على الطرفين المغربي والجزائري كليهما) وتأكيدا على تحمل “الجزائر” (حكامها تخصيصا) لمسؤولية “الصدق وحسن النية” في معالجة “القضايا المغاربية والعربية” و”التحديات التي تواجه القارة الإفريقية”. فالجزائر من المخاطبين بكلام الملك.
الفقرة الثانية: “إن هذه الرؤية التضامنية المتكاملة التي تحكم علاقات المغرب بأشقائه في إفريقيا، تتطلب من جميع الفاعلين الذين فتحنا أمامهم المجال للانخراط في هذا التوجه تحمل مسؤولياتهم، والوفاء بالتزاماتهم حفاظا على مصداقية المغرب”.
مناط التوجيه في الفقرة الثانية قول الملك: “تتطلب من جميع الفاعلين”. ففعل “تتطلب” توجيهي فاعله التركيبي “جميع الفاعلين الذين فتحنا أمامهم المجال للانخراط في هذا التوجه”. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المُحال عليهم هنا يُطلب منهم أن يحافظوا “على مصداقية المغرب”، رجّحنا أن المقصود هم رجال الأعمال الذين أعطِيت لهم فرصة الاستثمار في إفريقيا. فهم أيضا معنيون بكلام الملك.
الفقرة الثالثة: “وإن المغرب، الذي طالما رفض الطرق المعتمدة من طرف البعض لمعالجة قضايا الهجرة والتي اثبتت فشلها، يعتز بما يقوم به في مجال استقبال وإدماج المهاجرين ولن يتراجع عن هذا النهج العملي والانساني. أما الذين ينتقدونه، فيجب عليهم، قبل أن يتطاولوا عليه، أن يقدموا للمهاجرين، ولو القليل مما حققناه”.
فعل التوجيه في الفقرة الثالثة “يجب عليهم”، والمحال عليهم نُقّاد سياسة المغرب في التعامل مع المهاجرين الأفارقة، وموضوع “الوجوب” دفع اعتراضاتهم وتحديهم إلى إنجاز “القليل مما” حققه المغرب.
الفقرة الرابعة: “وفي هذا السياق، أدعو المغاربة المقيمين بالخارج للتشبث بقيم دينهم، وبتقاليدهم العريقة، في مواجهة هذه الظاهرة الغريبة عنهم”.
فعل التوجيه في هذه الفقرة “أدعو”، ودايكسيس التخاطب مباشر هو “المغاربة المقيمين بالخارج” لا يحتاج لأي مجهود تأوّلي.
الفقرة الخامسة: “كما أن عددا من الجماعات والهيآت الإسلامية تعتبر أن لها مرجعية في الدين، وأنها تمثل الإسلام الصحيح. مما يعني أن الآخرين ليسوا كذلك. والواقع أنها بعيدة عنه وعن قيمه السمحة. وهو ما يشجع على انتشار فكر التطرف والتكفير والإرهاب، لأن دعاة الإرهاب يعتقدون بأنه هو السبيل إلى الإسلام الصحيح. فعلى هؤلاء أن ينظروا إلى أي حد يتحملون المسؤولية في الجرائم والمآسي الإنسانية التي تقع باسم الإسلام”.
فعل التوجيه في كلام الملك هنا قوله “فعلى هؤلاء أن ينظروا”، وموضوع التوجيه أن تتأمل تلك “الجماعات والهيآت الإسلامية” التي “تعتبر أن لها مرجعية في الدين، وأنها تمثل الإسلام الصحيح” (مما يعني أن “الآخرين ليسوا كذلك”؛ أي ليست لهم “مرجعية إسلامية” و”لا يمثلون الإسلام الصحيح”) ـ أن يتأملوا “إلى أي حد يتحملون المسؤولية في الجرائم والمآسي الإنسانية التي تقع باسم الإسلام” .. المُخاطَب بهذا الكلام هو “الهيآت والجماعات” التي تعتبر أن لها “مرجعية إسلامية”، وهذا المُخاطب هو الذي يحمله الملك “مسؤولية “انتشار فكر التطرف والتكفير والإرهاب” ومسؤولية “الجرائم والمآسي الإنسانية التي تقع باسم الإسلام”. أترك للقارئ الكريم تقدير المحال عليه في كلام الملك.
خلاصة
استعمل خطاب الملك دايكسيس تخاطبي، سميته بـ”الفعل التوجيهي”، في خمس فقرات من فقرات خطابه. استنتجت من تحليل هذه الأفعال التوجيهية أن المخاطبين غير المباشرين في كلام الملك هم:
1ـ الجزائر وحكامها
2ـ رجال الأعمال المغاربة الذي فسح لهم المجال للاستثمار في إفريقيا
3ـ نقاد سياسة المغرب في التعامل مع المهاجرين الأفارقة
4ـ المغاربة المقيمون بالخارج
5ـ عدد من “الجماعات والهيآت الإسلامية تعتبر أن لها مرجعية في الدين، وأنها تمثل الإسلام الصحيح”.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.