من الدولة الإسلامية إلى الدولة المدنية في فكر الحركة الإسلامية المغربية
التحول المطلوب وأفق ما بعد الإسلاموية..بحث من إنجاز الدكتور محمد همام*

مقدمة

توسَّعت قاعدة الحركة الإسلامية المغربية، وأخذت من المساحات التي كان يشغلها تيار التغريب والإلحاق والتبعيَّة، كما استطاعت استقطاب عددٍ هائلٍ ممَّن كانوا على الهامش، غير متعاطين للسياسة وبعيدين عن الأحزاب والمؤسسات الموالية للدولة. فقد أعادت الحركات الإسلامية المغربية الحيويةَ في المجتمع إلى معنى الانتماء للإسلام، ببُعْده الأيديولوجي والاجتماعي والسياسي؛ فانتمى إلى هذه الحركات جمهور واسع يستمدُّ معناه وقيمته وعوامل صموده وتحديه من قوة الإيمان والانتساب إلى المشروع الإسلامي؛ من خلال التمسُّك بطقوسه وشعائره والالتزام السلوكي به في الحياة الفردية والجماعية، تيسيرًا عند بعضهم وتعسيرًا وتشديدًا عند آخرين، بحكم تضارب المرجعيات الفقهية الفرعية لتلك الحركات.
ولكن إذكاء حسّ الانتماء الديني عند جمهور الحركات الإسلامية قد ولَّد حالة جماهيرية غير مسبوقة في الحراك السياسي والاجتماعي المغربي، من روح التضحية والبذل: بذل النفس والجهد والمال والوقت في سبيل الدفاع عن المشروع الإسلامي كما تبشِّر به الحركات الإسلامية.
لذلك حقَّق الإسلاميون المغاربة تجذرًا معتبرًا وسط المجتمع، وأصبحت قاعدتهم الجماهيرية قاعدةً عريضةً تلتفُّ حولهم وتحميهم في مواجهة تحدي التغريب القسري المدعوم من الخارج، فرنسا على الخصوص، ومواجهة إكراهات الداخل واختناقاته بفعل الاستبداد والاستئثار بالثروة والسلطة. وأمام المد الشعبي الذي يتوفر عليه الإسلاميون المغاربة، اندفعوا اندفاعًا تلقائيًّا وغريزيًّا -في إطار معادلة التحدي-الاستجابة- إلى التصدي لهذه التحديات، محتمين بالهوية الإسلامية ومتخذينها ملاذًا وسلاحًا لمواجهة الخطر الداخلي والخارجي، لكن من دون تحليل ولا تنظير ولا تفكيك ولا تركيب للواقع ومعطياته، إذا استثنينا المشروع الفكري للشيخ عبد السلام ياسين، الذي يشكِّل أيديولوجيا جماعة العدل والإحسان، أوسع الجماعات الدينية انتشارًا وتوسعًا في المغرب.
وتنشط في المجتمع المغربي مجموعةٌ من الحركات والجماعات والجمعيات والفئات لا حصر لها، ترى أن هدفها الأساسي والعام هو الدفاع عن الإسلام والانطلاق منه مرجعية ومنهج حياة دعوةً وعملًا. ويتخذ بعضها من المشاركة السياسية أداةً من أدوات المدافعة والمخالطة الاجتماعية والصبر على متاعبها وتحدياتها.
تسعى هذه الحركات -إذن- إلى إحداث نهضةٍ شاملةٍ في المجتمع، منفردة أو مجتمعة، من خلال إعادة تشكيل المجتمع بالتأثير فيه وَفْقَ رؤيتها. وهي حركات وجماعات وأحزاب وجمعيات ومنتديات تختلف في رؤيتها وفي أساليبها ووسائلها وفي أولوياتها، لكنها تتفق جميعًا على شمولية الإسلام لكل جوانب الحياة.
ومن ثَمَّ، أصبحت الحركات الإسلامية مكونًا أساسيًّا في الواقع السياسي والاجتماعي المغربي، بل قفز الربيع العربي بجزءٍ معتبرٍ منها إلى المشاركة في السلطة وتدبير الشأن العمومي من خلال رئاسة الحكومة بتحالفٍ مع مكونات حزبية وسياسية مختلفة ومتناقضة، مما طرح تحدياتٍ جديدةً على الحركات الإسلامية على مستوى التجديد الفكري والتنظيمي والنضج السياسي، بما يجعلها قادرةً على التعامل مع الأوضاع الجديدة: أوضاع الربيع العربي، وتحدي البناء المدني والديمقراطي للدولة بعد التخلُّص من جينات الاستبداد التي سكنت المجتمع المغربي وتسكنه عقودًا طويلة.
فهل تملك الحركة الإسلامية المغربية المقومات الذاتية والفكرية والمنهجية، والشجاعة الأدبية الكافية لتقديمِ نموذج سياسي، فكري وتنظيمي، ديمقراطي، مدني، قادرٍ على التفاعل الإيجابي مع العناصر الأساسية للتفكير الديمقراطي وبناء الدولة المدنية؟ ذلك ما سيحاول هذا البحث رصده بخلفيَّة نقديَّة بقراءته في المتن الفكري والتنظيمي والسياسي للحركة الإسلامية المغربية، مع التركيز على الحركات الفاعلة والمنظمة.